قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء } . أي في اليسر والعسر فأول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة ذكر السخاوة .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عمرو الفراتي ، أخبرنا أبو العباس احمد بن إسماعيل العنبري ، أخبرنا أبو عبد الله بن حازم البغوي بمكة ، أخبرنا أبو صالح بن أيوب الهاشمي ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، أخبرنا سعيد بن محمد عن يحيى بن سعيد ، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل " .
قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ } . أي : الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، والكظم : حبس الشيء عند امتلائه وكظم الغيظ أن يمتلئ غيظاً فيرده في جوفه ولا يظهره . ومنه قوله تعالى ( إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ) . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عمرو الفراتي ، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الاسفرايني ، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد زكريا العلاني ، أخبرنا روح بن عبد المؤمن ، أخبرنا أبو عبد الرحمن المقري ، أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال : حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء " .
قوله تعالى : { والعافين عن الناس } . قال الكلبي عن المملوكين سوء الأدب ، وقال زيد بن أسلم ومقاتل : عمن ظلمهم وأساء إليهم .
قوله تعالى : { والله يحب المحسنين } . عن الثوري الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة .
ثم وصف المتقين وأعمالهم ، فقال : { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي : في حال عسرهم ويسرهم ، إن أيسروا أكثروا من النفقة ، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل .
{ والكاظمين الغيظ } أي : إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق ، الموجب للانتقام بالقول والفعل- ، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية ، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم .
{ والعافين عن الناس } : يدخل في العفو عن الناس ، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل ، والعفو أبلغ من الكظم ، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة ، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة ، وممن تاجر مع الله ، وعفا عن عباد الله رحمة بهم ، وإحسانا إليهم ، وكراهة لحصول الشر عليهم ، وليعفو الله عنه ، ويكون أجره على ربه الكريم ، لا على العبد الفقير ، كما قال تعالى : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله }
ثم ذكر حالة أعم من غيرها ، وأحسن وأعلى وأجل ، وهي الإحسان ، فقال [ تعالى ] : { والله يحب المحسنين } والإحسان نوعان : الإحسان في عبادة الخالق . [ والإحسان إلى المخلوق ، فالإحسان في عبادة الخالق ]{[161]} .
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
وأما الإحسان إلى المخلوق ، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم ، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ غافلهم ، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم ، والسعي في جمع كلمتهم ، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم ، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم ، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى ، واحتمال الأذى ، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات ، فمن قام بهذه الأمور ، فقد قام بحق الله وحق عبيده .
ثم ذكر تعالى صَفَة أهل الجنة ، فقال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي : في الشدة والرخاء ، والمَنْشَط والمَكْرَه ، والصحة والمرض ، وفي جميع الأحوال ، كما قال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } [ البقرة : 274 ] . والمعنى : أنهم لا يشغلهم أمْر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مَرَاضِيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر .
وقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : إذا ثار بهم الغيظ كظموه ، بمعنى : كتموه فلم يعملوه ، وعَفَوْا{[5687]} مع ذلك عمن أساء إليهم{[5688]} وقد ورد في بعض الآثار : " يقول الله تعالى : ابنَ آدَمَ ، اذْكُرْنِي إذَا غَضِبْتَ ، أَذْكُرُكَ إذَا غَضِبْتُ ، فَلا أُهْلِكُكَ{[5689]} فيمن أهْلِكَ " رواه ابن أبي حاتم{[5690]} .
وقد قال أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الزّمن ، حدثنا عيسى بن شُعَيب الضَّرِير أبو الفضل ، حدثنا{[5691]} الربيع بن سليمان الجيزي{[5692]} عن أبي عمرو بن أنس بن مالك ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ " [ و ]{[5693]} هذا حديث غريب ، وفي إسناده نظر{[5694]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لَيْسَ الشَّدِيدُ{[5695]} بِالصُّرُعة ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ{[5696]} الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " . وقد رواه الشيخان من حديث مالك{[5697]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن الحارث بن سُوَيد ، عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالِهِ ؟ " قال : قالوا : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا مَالهُ أحب إليه من مال وارثه . قال : " اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالهِ مَالَكَ مِنْ مَالَكَ إلا مَا قَدَّمَتْ ، ومَالُ وَارِثَكَ مَا أخَّرْتَ " . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الصُّرعَة ؟ " قلنا : الذي لا تَصْرَعه{[5698]} الرجال ، قال : قال " لا ولكن الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " . قال : قال{[5699]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الرَّقُوبَ ؟ " قال : قلنا : الذي لا ولد له . قال : " لا ولكن الرَّقُوبَ الَّذِي لم{[5700]} يُقَدِّمْ مِنْ ولَدِهِ شَيْئًا " .
أخرج البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش ، به{[5701]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبة ، سمعت عُرْوة بن عبد الله الجَعْفِيّ يحدث عن أبي حصبة ، أو ابن حصبة ، عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : " تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ ؟ " قالوا{[5702]} الذي لا ولد له . قال : " الرَّقُوبُ كُلُّ الرَّقُوبِ الَّذِي لَهُ وَلَدٌ فَمَاتَ ، وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُمْ شَيْئًا " . قال : " تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ ؟ " قالوا : الذي ليس له مال . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ الَّذِي لَهُ مَالٌ ، فَمَاتَ وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ شَيْئًا " . قال : ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا الصُّرَعَةُ ؟ " قالوا : الصريع . قال : فقال{[5703]} صلى الله عليه وسلم الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ " {[5704]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا هشام - هو ابن عروة - عن أبيه ، عن الأحنف بن قيس ، عن عم له يقال له : جَارية بن قُدامة السعدي ؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قل لي قولا ينفعني وأقْلِل عليّ ، لعلي أعيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَغْضَبْ " . فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا ، كل ذلك يقول : " لا تَغْضَبْ " .
وكذا رواه عن أبي معاوية ، عن هشام ، به . ورواه [ أيضا ]{[5705]} عن يحيى بن سعيد القطان ، عن هشام ، به ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، قل لي قولا وأقْلِل علَيَّ لَعَلّي أعقِله . قال : " لا تَغْضَبْ " .
الحديث انفرد به أحمد{[5706]} .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل : يا رسول الله ، أوصني . قال : " لا تَغْضَبْ " . قال الرجل : ففكرت حين قال{[5707]} صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله .
انفرد به أحمد{[5708]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا داود بن أبي هِنْد عن بن أبي حَرْب بن أبي الأسود ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذَرّ قال : كان يسقي على حوض له ، فجاء قوم قالوا{[5709]} أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل : أنا . فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه ، وكان أبو ذر قائما فجلس ، ثم اضطجع ، فقيل له : يا أبا ذر ، لم جلست ثم اضطجعت ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : " إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فإن{[5710]} ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ " .
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل بإسناده ، إلا أنه وقع في روايته : عن أبي حرب ، عن أبي ذر ، والصحيح : ابن أبي حرب ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، كما رواه عبد الله بن أحمد ، عن أبيه{[5711]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد : حدثنا أبو وائل الصَّنْعَاني قال : كنا جلوسا عند عرْوة بن محمد إذ دخل عليه رجل ، فكلمه بكلام أغضبه ، فلما أن غضب قام ، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال : حدثني أبي ، عن جدي عطية - هو ابن سعد السعدي ، وقد كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وإنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ{[5712]} وإنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالماءِ ، فَإذَا أُغْضِبَ{[5713]} أحَدُكُمْ فَلْيَتَوضَّأْ " .
وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنْعَاني ، عن أبي وائل القاص{[5714]} المُرَادي الصَّنْعَاني : قال أبو داود : أراه عبد الله بن بَحير{[5715]} {[5716]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جَعْوَنة السُّلَمي ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، ألا إنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوُةٍ - ثلاثا - ألا إنَّ عَمَلَ النَّار سَهْلٌ بسَهْوة . والسَّعِيدُ مَنْ وقيَ الفِتَنَ ، ومَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ [ عز وجل ]{[5717]} مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ{[5718]} إلا مَلأ{[5719]} جَوْفُه إيمَانًا " .
انفرد به أحمد ، إسناده حسن ليس فيه{[5720]} مجروح ، ومتنه حسن{[5721]} .
حديث آخر في معناه : قال أبو داود : حدثنا عقبة بن مُكرَم ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مَهْدي - عن بشر - يعني ابن منصور - عن محمد بن عَجْلان ، عن سُوَيد بن وَهْب ، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَه مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإيمانًا ، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَال وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه - قال بِشر : أحسبه قال : " تَوَاضُعًا " - كَسَاهُ اللهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، وَمَنْ زَوَّجَ للهِ كَسَاهُ اللهُ تَاجَ الْمُلْكِ " {[5722]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يَزيد ، حدثنا سعيد ، حدثني أبو مَرْحُوم ، عن سَهْل بن مُعَاذ بن أنس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه ، دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ ، حَتَّى يُخيرَهُ مِنْ أيِّ الْحُورِ شَاءَ " .
ورواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجة ، من حديث سعيد بن أبي أيُّوب ، به . وقال الترمذي : حسن غريب{[5723]} .
حديث آخر : قال : عبد الرزاق : أخبرنا داود بن قَيْس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام - يقال له : عبد الجليل - عن عم له ، عن أبي هريرة في قوله تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظا ، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا " . رواه ابن جرير{[5724]} .
حديث آخر : قال ابن مَرْدُويَه : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، أخبرنا يحيى بن أبي طالب ، أخبرنا علي بن عاصم ، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله " .
وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن عمر ، عن حَمَّاد بن سلمة ، عن يونس بن عُبَيد ، به{[5725]} .
فقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي : لا يعملون{[5726]} غضبهم في الناس ، بل يكفون عنهم شرهم ، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل .
ثم قال [ تعالى ]{[5727]} { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم ، فلا يبقى{[5728]} في أنفسهم{[5729]} مَوجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان .
وفي الحديث : " ثلاث أُقْسِمُ عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عِزا ، ومن تواضع لله رفعه الله " {[5730]} .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عُقبة ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القُرشي ، عن عُبَادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يُشْرَف له البنيان ، وترفع له الدرجات فَلْيَعْفُ عمن ظلمه ، ويعط من حرمه ، ويَصِلْ من قطعه " .
ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[5731]} وقد أورده ابن مردويه من حديث علي ، وكعب بن عُجْرة ، وأبي هريرة ، وأم سلمة ، بنحو ذلك . وروي عن{[5732]} طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول : أين العافون عن الناس ؟ هَلُمُّوا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة " .
{ الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } أُعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله ، إما في صرفه على محتاج ، وإما في تقوية مضعف على النهوض للجهاد في سبيل الله .
وأما قوله : { فِي السّرّاء } فإنه يعني : في حال السرور بكثرة المال ، ورخاء العيش والسرّاء : مصدر من قولهم سرّني هذا الأمر مسرّة وسرورا¹ والضراء : مصدر من قولهم : قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ ، وذلك إذا أصابه الضيق والجهد في عيشه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } يقول : في العسر واليسر .
فأخبر جلّ ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها لمن اتّقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة وفي حال الضيق والشدة في سبيله .
وقوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } يعني : والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، يقال منه : كظم فلان غيظه : إذا تجرّعه فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها وانتصارها ممن ظلمها . وأصل ذلك من كظم القربة ، يقال منه : كظمتُ القربة : إذا ملأتها ماء ، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غمّا وحزنا ، ومنه قول الله عزّ وجلّ ، { وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } يعني ممتلىء من الحزن ، ومنه قيل لمجاري المياه الكظائم لامتلائها بالماء ، ومن قيل : أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه . والغيظ : مصدر من قول القائل : غاظني فلان فهو يغيظني غيظا ، وذلك إذا أحفظه وأغضبه .
وأما قوله : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } فإنه يعني : والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم ، وهم على الانتقام منهم قادرون ، فتاركوها لهم .
وأما قوله { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } فإنه يعني : فإن الله يحبّ من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدّ للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والأرض . والعاملون بها هم المحسنون ، وإحسانهم هو عملهم بها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } . . . الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } أي وذلك الإحسان ، وأنا أحبّ من عمل به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } : قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشرّ بالخير فليفعل ، ولا قوّة إلا بالله ، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محرز أبو رجاء ، عن الحسن ، قال : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله أجر ! فما يقوم إلا إنسان عفا . ثم قرأ هذه الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عمّ له ، عن أبي هريرة في قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ مَلأَهُ اللّهُ أمْنا وإيمانا » .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } . . . إلى الاَية : { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، فالكاظمين الغيظ كقوله : { وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ }¹ يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون ، يلتمسون بذلك وجه الله¹ { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } كقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ } . . . إلى : { ألاَ تُحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ } يقول : لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا .
{ الذين ينفقون } صفة مادحة للمتقين ، أو مدح منصوب أو مرفوع . { في السراء والضراء } في حالتي الرخاء والشدة ، أو الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة ، أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير ، { والكاظمين الغيظ } الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة ، من كظمت القرية إذا ملأتها وشددت رأسها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كظم غيظا وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " . { والعافين عن الناس } التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام " إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله " وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت . { والله يحب المحسنين } يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء ، والعهد فتكون الإشارة إليهم .
ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة ، بقوله : { الذين ينفقون } الآية ، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : { في السراء والضراء } ، معناه : في العسر واليسر .
قال القاضي : إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس ، ومع العسر الكراهية وضر النفس ، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له ، والكظام : السير الذي يشد به فم الزق والقربة ، وكظم البعير جرته{[3538]} : إذا ردها في جوفه ، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه ، كظم ، حكاه الزجّاج ، فقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي : [ الكامل ]
فَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بجِرَّةٍ . . . من ذي الأباطح أذرعين حقيلا{[3539]}
و { الغيظ } : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسر بعض الناس { الغيظ } بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك ، بل { الغيظ } فعل النفس لا يظهر على الجوارح ، والغضب حال لها معه ظهور في الجوارح وفعل ما ولا بد ، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله تعالى ، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند إليه تعالى غيظ ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة ، ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث ، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس ، ومنه قوله عليه السلام< ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب>{[3540]} ، ومنه قول النبي عليه السلام : ( ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله ) {[3541]} ، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال : «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ، ملأه الله أمناً وإيماناً »{[3542]} ، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير ، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو ، وحيث يتجه حقه ، وقال أبو العالية : { والعافين عن الناس } ، يريد المماليك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن على جهة المثال ، إذ هم الخدمة ، فهم مذنبون كثيراً ، والقدرة عليهم متيسرة ، وإنفاذ العقوبة سهل ، فلذلك مثل هذا المفسر به ، وذكر تعالى بعد ذلك أنه { يحب المحسنين } ، فعم هذه الوجوه وسواها من البر ، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه ، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه السلام ، فقال : ما الإيمان ؟ ثم قال ما الإسلام ؟ فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم المفروضات ، ثم قال له : ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) {[3543]} ، الحديث .
الصفة الأولى : الإنفاق في السَّراء والضّراء . والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعُدة في سبيل الله . والسرّاء فَعْلاء ، اسم لمصدر سرّه سَرّاَ وسُروراً . والضّراء كذلك من ضَرّه ، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن ، وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم ، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة . فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال ، الَّذي هو عزيز على النَّفس ، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة .
الصفة الثَّانية : الكاظمين الغيظ . وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتَّى لا يظهر عليه ، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها ، قال المبرّد : فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء ، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب ، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها ، مع الامتلاء منها ، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس ، وقهرِ الإرادةِ للشهوة ، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة .
الصفّة الثالثة : العفو عن النَّاس فيما أساؤوا به إليهم . وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ ، فلمَّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم ، مستمرّ معهم . وإذا اجتمعت هذه الصفّات في نفسٍ سهل ما دونها لديها .
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله : { والله يحب المحسنين } لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال: {الذين ينفقون في السراء والضراء}، يعني في اليسر والعسر، وفي الرخاء والشدة، {والكاظمين الغيظ}، وهو الرجل يغضب في أمر، فإذا فعله وقع في معصية، فيكظم الغيظ ويغفر، فذلك قوله: {والعافين عن الناس}، ومن يفعل هذا فقد أحسن، فذلك قوله: {والله يحب المحسنين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ} أُعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله، إما في صرفه على محتاج، وإما في تقوية مضعف على النهوض للجهاد في سبيل الله. وأما قوله: {فِي السّرّاء} فإنه يعني: في حال السرور بكثرة المال، ورخاء العيش، والسرّاء: مصدر من قولهم سرّني هذا الأمر مسرّة وسرورا. والضراء: مصدر من قولهم: قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ، وذلك إذا أصابه الضيق والجهد في عيشه... فأخبر جلّ ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها لمن اتّقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة وفي حال الضيق والشدة في سبيله. وقوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ} يعني: والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: كظم فلان غيظه: إذا تجرّعه فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها وانتصارها ممن ظلمها. وأصل ذلك من كظم القربة، يقال منه: كظمتُ القربة: إذا ملأتها ماء، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غمّا وحزنا، ومنه قول الله عزّ وجلّ، {وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} يعني ممتلئ من الحزن، ومنه قيل لمجاري المياه الكظائم لامتلائها بالماء، ومن قيل: أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه. والغيظ: مصدر من قول القائل: غاظني فلان فهو يغيظني غيظا، وذلك إذا أحفظه وأغضبه.
وأما قوله: {وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ} فإنه يعني: والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم، وهم على الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم.
وأما قوله {واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ} فإنه يعني: فإن الله يحبّ من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدّ للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والأرض. والعاملون بها هم المحسنون، وإحسانهم هو عملهم بها...
عن ابن عباس، قوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ}... إلى الآية: {واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ}، فالكاظمين الغيظ كقوله: {وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ} يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون، يلتمسون بذلك وجه الله {وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ} كقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ}... إلى: {ألاَ تُحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ} يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
أي الجامعين الغيظ عند امتلاء أنفسهم منه، والكافين غضبهم عن إمضائه يردّون غيظهم وحزنهم إلى أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ذكر الله صفاتهم التي تعلو بها درجاتهم منها: أنهم يتقون عذاب الله بفعل طاعته، والانتهاء عن معصيته. وأنهم ينفقون في السراء والضراء، وقد بينا فيما تقدم معنى الإنفاق. وقيل في معنى السراء والضراء قولان: أحدهما -قال ابن عباس في اليسر والعسر، فكأنه قال في السراء بكثرة المال، والضراء بقلته. الثاني- في حال السرور، وحال الاغتمام. أي لا يقطعهم شيء من ذلك عن إنفاقه في وجوه البر، فيدخل فيه اليسر والعسر. وإنما خصا بالذكر في التأويل الأول، لأن السرور بالمال يدعو إلى الظن به. كما يدعو ضيقه إلى التمسك به خوف الفقر، لإنفاقه. وقوله تعالى:"والكاظمين الغيظ" أي المتجر عين له، فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر بل يصبرون على ذلك، ويتجرعونه... والفرق بين الغيظ، والغضب أن الغضب: ضد الرضا، وهو إرادة العقاب المستحق بالمعاصي ولعنه. وليس كذلك الغيظ، لأنه: هيجان الطبع بكره ما يكون من المعاصي، ولذلك يقال غضب الله على الكفار، ولا يقال اغتاظ منهم...
وقوله "والله يحب المحسنين "معناه يريد إثابتهم وتنعيمهم. والمحسن، يحتمل أمرين: أحدهما -من هو منعم على غيره على وجه عار من وجوه القبح. ويحتمل أن يكون مشتقا من الأفعال الحسنة التي منها الإحسان إلى الغير، وغير ذلك من وجوه الطاعات والقربات.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس}. 213- لم يقل والفاقدين الغيظ، فرد الغضب... إلى حد الاعتدال، بحيث لا يقهر العقل ولا يغلبه، بل يكون العقل هو الضابط له والغالب عليه. [نفسه: 3/62].
- وهذا لأن العادة لا تنتهي إلى أن يجرح الإنسان فلا يتألم، بل ينتهي إلى أن يصبر عليه ويحتمل، وكما أن التألم بالجرح مقتضى طبع البدن، فالتألم بأسباب الغضب طبع القلب، ولا يمكن قلعه، ولكن ضبطه وكظمه والعمل بخلاف مقتضاه، فإنه يقتضي التشفي والانتقام والمكافأة، وترك العمل بمقتضاه ممكن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{في السَّرَّاء والضراء} في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر، لا يخلون بأن ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليل، كما حكي عن بعض السلف: أنه ربما تصدّق ببصلة، وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدّقت بحبة عنب أو في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرّة، لا تمنعهم حال فرح وسرور، ولا حال محنة وبلاء، من المعروف، وسواء عليهم كان الواحد منهم في عرس أو في حبس، فإنه لا يدع الإحسان. وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين...
{والله يُحِبُّ المحسنين} يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون. وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء {والذين} عطف على المتقين. أي أعدت للمتقين وللتائبين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه... والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو، وحيث يتجه حقه...
قوله تعالى: {والعافين عن الناس} قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنون عن ذلك وندبوا إلى العفو عن المعسرين. قال تعالى: عقيب قصة الربا والتداين {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم} ويحتمل أن يكون كما قال في الدية: {فمن عفى له من أخيه شيء} إلى قوله: {وأن تصدقوا خير لكم} ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال: «لأمثلن بهم» فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفوا، قال تعالى: في هذه القصة {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}...
أما قوله تعالى: {والله يحب المحسنين}... اعلم أن الإحسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه. أما إيصال النفع إليه فهو المراد بقوله: {الذين ينفقون في السراء والضراء} ويدخل فيه إنفاق العلم، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى، وهو المراد بكظم الغيظ، وإما في الآخرة وهو أن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: {والعافين عن الناس} فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال: {والله يحب المحسنين} فإن محبة الله للعبد أعم درجات الثواب.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
282- إذا غضبت من شيء من أمر الدنيا فاذكر ثواب الله تعالى على كظم الغيظ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الذين ينفقون} أي مما آتاهم الله، وهو تعريض بمن أقبل على الغنيمة {في السراء والضراء} أي في مرضاة الله في حال الشدة والرخاء. ولما ذكر أشق ما يترك ويبذل أتبعه أشق ما يحبس فقال: {والكاظمين} أي الحابسين {الغيظ} عن أن ينفذوه بعد أن امتلأوا منه. ولما كان الكاظم غيظه عن أن يتجاوز في العقوبة قد لا يعفو حثه على العفو بقوله: {والعافين} وعمم في الحكم بقوله: {عن الناس} أي ظلمهم لهم ولو كانوا قد قتلوا منهم أو جرحوهم. ولما كان التقدير: فإن الله يحبهم لإحسانهم عطف عليه تنويهاً بدرجة الإحسان قوله: {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المحسنين} أي يكرمهم بأنواع الإكرام على سبيل التجديد والاستمرار...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{الذين يُنفِقُونَ} في محل الجر على أنه نعتٌ للمتقين مادحٌ لهم أو بدلٌ منه أو بيانٌ أو في حيز النصبِ أو الرفعِ على المدح، ومفعولُ ينفقون محذوفٌ ليتناولَ كلَّ ما يصلُح للإنفاق أو متروكٌ بالكلية كما في قولك: يُعطي ويمنَع {فِي السَّرَّاء والضراء} في حالتي الرخاءِ والشدة واليُسر والعُسر، أو في الأحوال كلِّها إذ الإنسانُ لا يخلو عن مَسَرة أو مضَرَّة أي لا يخلُون في حالٍ بإنفاق ما قدَروا عليه من قليل أو كثير. {والكاظمين الغيظ}، عطفٌ على الموصول، والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ للدِلالة على الاستمرار، وأما الإنفاقُ فحيث كان أمراً متجدداً عبّر عنه بما يفيد الحدثَ وهو التجدد... {والله يُحِبُّ المحسنين}: اللامُ إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد، عبّر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوتَ المعدودةَ من باب الإحسانِ الذي هو الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حُسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحُسنها الذاتي، وقد فسره عليه السلام بقوله: «أن تعبدَ الله كأنكَ تَرَاهُ فإنْ لم تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ» والجملةُ تذييلٌ يقرِّر مضمونَ ما قبلها.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
الإحسان هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح، وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الانفاق فقط...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بدأ وصف المتقين بالإنفاق لوجهين: أحدهما: مقابلته بالربا الذي نهى عنه في الآية السابقة فإن الربا هو استغلال الغني حاجة المعوز وأكل ماله بلا مقابل والصدقة إعانة له وإطعامه ما لا يستحقه فهي ضد الربا. ولم يرد في القرآن ذكر الربا إلا وقبح ومدحت معه الزكاة والصدقة كما قال: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39] وفي سورة البقرة: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276]. ثانيهما: أن الإنفاق في السراء والضراء أدل على التقوى وأشق على النفوس وأنفع للبشر من سائر الصفات والأعمال. قال الأستاذ الإمام ما مثاله: إن المال عزيز على النفس لأنه الآلة لجلب المنافع والملذات، ورفع المضار والمؤلمات، وبذله في طريق الخير والمنافع العامة التي ترضي الله تعالى يشق على النفس، أما في السراء فلما يحدثه السرور والغنى من الأشر والبطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل، وأما في الضراء فلأن الإنسان يرى نفسه فيها جديرا بأن يأخذ ومعذورا إن لم يعط وإن لم يكن معذورا بالفعل، إذ مهما كان فقيرا لا يعدم وقتا يجد فيه فضلا ينفقه في سبيل الله ولو قليلا. وداعية البذل في النفس هي التي تنبه الإنسان إلى هذا العفو الذي يجده أحيانا ليبذله. فإن لم تكن الداعية موجودة في أصل الفطرة فأمر الدين الذي وضعه الله لتعديل الفطرة المائلة وتصحيح مزاج المعتلة يوجدها ويكون نعم المنبه لها وقد فسر بعضهم الضراء بما يخرج الفقراء من هذه الصفة من صفات المتقين وليس بسديد. يقول من لا علم عنده: إن تكليف الفقير والمسكين البذل في سبيل الله لا معنى له ولا عناء فيه. وربما يقول أكثر من هذا – يعني أنه ينتقد ذلك من الدين. والعلم الصحيح يفيدنا أنه يجب أن تكون نفس الفقير كريمة في ذاتها وأن يتعود صاحبها الإحسان بقدر الطاقة وبذلك ترتفع نفسه وتطهر من الخسة وهي الرذيلة التي تعرض للفقراء فتجرهم إلى رذائل كثيرة، ثم إن النظر يهدينا إلى أن القليل من الكثير كثير...
{والكاظمين الغيظ}... قال الأستاذ الإمام: الغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف، فيزعجها إلى التشفي والانتقام. ومن أجاب داعي الغيظ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي، لذلك كان من التقوى كظمه... والغيظ وإن كان معنى له أثر في الجسم يترتب عليه عمل ظاهر فإنه يثور بنفس الإنسان حتى يحمله على ما لا يجوز من قول أن فعل فلذلك سمي حبسه وإخفاء أثره كظما...
{والعافين عن الناس} العفو عن الناس هو التجافي عن ذنب المذنب منهم وترك مؤاخذته مع القدرة عليها وتلك مرتبة في ضبط النفس والحكم عليها وكرم المعاملة قل من يتبوأها. فالعفو مرتبة فوق مرتبة كظم الغيظ إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة.
وهناك مرتبة أعلى منهما وهي ما أفاده قوله عز وجل: {والله يحب المحسنين} فالإحسان وصف من أوصاف المتقين ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات بل صاغه بهذه الصيغة تميزا له بكونه محبوبا عند الله تعالى- لا لمزيد مدح من ذكر من المتقين المتصفين بالصفات السابقة ولا مجرد مدح المحسنين الذي يدخل في عمومه أولئك المتقون كما قيل – فالذي يظهر لي هو ما أشرت إليه من أنه وصف رابع للمتقين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين: (الذين ينفقون في السراء والضراء).. فهم ثابتون على البذل، ماضون على النهج، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء. السراء لا تبطرهم فتلهيهم. والضراء لا تضجرهم فتنسيهم. إنما هو الشعور بالواجب في كل حال؛ والتحرر من الشح والحرص؛ ومراقبة الله وتقواه.. وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها، المحبة للمال بفطرتها.. ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال، إلا دافع أقوى من شهوة المال، وربقة الحرص، وثقلة الشح.. دافع التقوى. ذلك الشعور اللطيف العميق، الذي تشف به الروح وتخلص، وتنطلق من القيود والأغلال.. ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة. فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها، كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل -كما سيأتي في السياق القرآني- مكررا كذلك. مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة، وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله. (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس).. كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل، بنفس البواعث ونفس المؤثرات. فالغيظ انفعال بشري، تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم؛ فهو إحدى دفعات التكوين البشري، وإحدى ضروراته. وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى؛ وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات. وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى. وهي وحدها لا تكفي. فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن؛ فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة؛ ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين.. وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن.. لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين.. إنها العفو والسماحة والانطلاق.. إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه؛ وشواظ يلفح القلب؛ ودخان يغشى الضمير.. فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبرد في القلب، والسلام في الضمير. (والله يحب المحسنين).. والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون. والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون.. والله "يحب "المحسنين.. والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم.. ومن حب الله للإحسان وللمحسنين، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه. وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب.. فليس هو مجرد التعبير الموحي، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير! والجماعة التي يحبها الله، وتحب الله.. والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان.. هي جماعة متضامة، وجماعة متآخية، وجماعة قوية. ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الصفة الأولى: الإنفاق في السَّراء والضّراء. والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعُدة في سبيل الله. والسرّاء فَعْلاء، اسم لمصدر سرّه سَرّاَ وسُروراً. والضّراء كذلك من ضَرّه، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن، وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة. فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال، الَّذي هو عزيز على النَّفس، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة. الصفة الثَّانية: الكاظمين الغيظ. وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتَّى لا يظهر عليه، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها، قال المبرّد: فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها، مع الامتلاء منها، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس، وقهرِ الإرادةِ للشهوة، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة. الصفّة الثالثة: العفو عن النَّاس فيما أساؤوا به إليهم. وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ، فلمَّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم، مستمرّ معهم. وإذا اجتمعت هذه الصفّات في نفسٍ سهل ما دونها لديها. وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله: {والله يحب المحسنين} لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[الذين ينفقون في السَّرَّاء والضَّرَّاء] الإنفاق على النَّاس في حالتي الشدّة والرخاء، ما يعني أنَّ هذا الإنفاق ليس حالةً طارئةً في ذات التّقي، يختص بأريحية الإنسان في حالات الرخاء، بل هو حالةٌ أصيلةٌ تحرّك الإنسان نحو العطاء حتّى في أشدّ حالات الضيق والضرّ. [والكاظمين الغيظ] الذي يعبّر عن الإرادة القويّة التي يواجه بها الإنسان حالات الانفعال التي تدفعه إلى الاندفاع في تفجير الغيظ الذي تمتلئ به نفسه تجاه الآخرين، فلا يسمح لها بأن تجرّه إلى ذلك مما لا تحمد عقباه، بل يُحاول أن يحبس غيظه في صدره. [والعافين عن النَّاس] الذي يمثِّل الروح المتسامحة الطيبة التي لا تنطلق من عقدةٍ نفسية داخليّة عندما تكظم غيظها، بل تعمل على التخلّص من كلّ أجواء الغيظ بتفريغ النفس من كلّ الحالات السلبيّة التي تثيره وتعقّده، وذلك بأن يتلمس أسباب العفو في دراسته للنقص الذي رُكّب في الإنسان أو للظروف الداخلية أو الخارجية التي دفعته نحو الخطأ، أو بغير ذلك مما يوحي بالأسباب التخفيفيّة الباعثة على العفو عنه، واعتبار كأنَّ الخطأ لم يكن في كلّ سلبياته الذاتية، وهذا ما يجعل من الأمر بالصبر وكظم الغيظ وسيلة للتهدئة والتبريد الداخلي، من أجل دفع الإنسان إلى التفكير الهادئ المتّزن الذي لا يتعامل مع العنف، بل يتعامل مع الرفق واللين، ولا يندفع في اتجاه تعقيد المشاكل، بل يعمل على حلّها مهما أمكن، ذلك هو السبيل الذي يجعل من العفو حالة واعية واقعية بدلاً من أن تكون حالة مزاجية طارئة لا ترتكز على أساسٍ من وعي وفكرٍ وإيمان. [واللّه يُحبُّ المحسنين] قد تكون هذه صفةً رابعة توحي بأنَّ العفو وحده لا يكفي في إزالة النتائج السلبيّة إزاء الحالة النفسية التي أوجدها الغيظ، فلا بُدَّ من الإحسان لتتحوّل السلبيّات إلى إيجابيات..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أُعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي:
إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدّة والرخاء، في السرّاء والضرّاء (الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء).
وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين، وحب الخير الذي تغلغل
في نفوسهم، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية في جميع الظروف والأحوال.
ولاشكّ أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدلّ على التغلغل الكامل للصفات الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدلّ على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال، فإن ذلك ممّا يدلّ على تجذر تلك الصفة في النفوس.
يمكن أن يقال: وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عندما يكون فقيراً؟
أولاً: لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه، فليس للإنفاق حدّ معين لا في القلة ولا في الكثرة.
وثانياً: لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب، إذ للإنسان أن ينفق من كلّ ما وهبه الله، ثروة كان أو علماً أو جاهاً أو غير ذلك من المواهب الإلهية الأخرى.
وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء، والبذل والسخاء حتّى في نفوس الفقراء والمقلين حتّى يبقوا بذلك في منأى عن الرذائل الأخلاقية التي تنشأ من «البخل».
إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون هذا المذهب، لأنهم حسبوا لكلّ واحد منها حساباً مستقلاً وخاصاً، ولو أنهم ضموا هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه.
فلو أن كلّ واحد من أهل قطر من الأقطار فقراء وأغنياء قدم مبلغاً صغيراً لمساعدة الآخرين من عباد الله، ولتقدم الأهداف والمشاريع الإجتماعية، لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة، مضافاً إلى ما يجنونه من هذا العمل من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق، وتعود إلى المنفق في كلّ حال.
والملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو «الإنفاق» لأن هذه الآيات تذكر في الحقيقة ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة. هذا مضافاً إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السرّاء والضراء من أبرز علائم التقوى.
أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم: (والكاظمين الغيظ).
ولفظة «الكظم» تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلىء غضباً ولكنه لا ينتقم.
وأما لفظة «الغيظ» فتكون بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره.
وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعتري الإنسان، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله.
ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية «كظم الغيظ» و «كبح جماح الغضب» الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين.
قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً». وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنوياً، وفي تقوية روح الإيمان لديه.
أنهم يصفحون عمن ظلمهم (والعافين عن الناس).
إن كظم الغيظ أمر حسن جداً، إلاّ أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن
لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن «كظم الغيظ» بخطوة أخرى وهي «العفو والصفح» ولهذا أردفت صفة «الكظم للغيظ» التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.
ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.
أنهم محسنون: (والله يحب المحسنين).
وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من «العفو والصفح» وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.
وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسيء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.
وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولاً ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه.
إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي...