الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (134)

{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي الجامعين الغيظ عند امتلاء أنفسهم منه ، والكافين غضبهم عن إمضائه يردّون غيظهم وحزنهم إلى أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون ، وأصل الكظم : حبس الشيء عن امتلائه ، يقال : كظمت القربة إذا ملأتها ، وما يقال لمجاري الماء : كظائم ، لامتلائها بالماء وأخذ بها كظامة ، ومنه قيل : أخذت بكظمه ، يعني بمجاري نفسه ، ومنه كظم الإبل وهو حبسها جررها في أجوافها ولا تجتر ، وإنما يفعل ذلك من الفزع والجهل .

قال أعشى باهلة يصف رجلاً نحّاراً للإبل وهي تفزع منه :

قد تكظم البزل منه حين تبصره *** حتى تقطع في أجوافها الجرر

ومنه قيل : رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئاً غضباً وغماً وحزناً . قال الله تعالى :

{ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] وقال :

{ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] وقال :

{ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] وقال :

{ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [ غافر : 18 ] .

وقال عبد المطلب بن هاشم :

فحضضت قومي فاحتبست قتالهم *** والقوم من خوف المنايا كُظمُ

وفي الحديث : " ما من جرعة أحمد عقباناً من جرعة غيظ مكظومة " .

وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كظم الغيظ وهو يقدر على إنفاذه دعاه إلله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيّره من أي الحور يشاء " .

أنشدنا أبو القاسم محمد بن حبيب قال : أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال : أنشدنا ابن أبي الزنجي ببغداد قال : أنشدنا العرجي :

وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً *** للغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفاً تصبر ساعة *** يرضى بها عنك الإله وترفع

أي يرفع قدرك .

{ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } .

قال الرباحي والكلبي : عن المملوكين ، وقال زيد بن أسلم ومقاتل : " عمّن ظلمهم وأساء إليهم ، وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك : " إن هؤلاء في أمتي قليل إلاّ من عصم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت " " .

وعن أبي هريرة أن أبا بكر ( رضي الله عنه ) " كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس ، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم ، ثم ردَّ أبو بكر ( رضي الله عنه ) عنه بعض الذي قال ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال : يا رسول الله شتمني وأنت تبتسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت ، فقال : " إنك حين كنت ساكتاً كان معك ملك يرد عنك فلما تكلمت وقع الشيطان فلم أكن لأقعد في مقعد يقعده الشيطان ، ثمّ قال : يا أبا بكر ثلاث كلّهن حق : أنه ليس عبد يظلم بمظلمة فيعفوا عنها إلاّ أعز الله نصره ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد به كثرة إلاّ زاده الله قلة وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة إلاّ زاده الله بها كثرة " " .

وقال عروة بن الزبير :

لن يبلغ المجد أقوام وإن كرموا *** حتى يذلوا ، وإن عزّوا لأقوام

ويشتموا فترى الألوان مشرقة *** لاصفح ذل ولكن صفح أحلام

{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .

قال مقاتل : يعني إن هذه الأشياء إحسان ومن فعل ذلك فهو محسن والله يحب المحسنين .

قال الحسن : الإحسان أن يعمّ ولا يخص كالريح والشمس والمطر .

سفيان الثوري : الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، فإن الإحسان إلى المحسن [ مزاجرة ] كلمة السوق خُذ وهات .

السقطي : الإحسان أن يحسن وقت الإمكان ، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان .

أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو العباس عبد الله بن محمد الجماني :

ليس في كل ساعة و أوان *** تتهيأ صنائع الإحسان

فإذا أمكنت فبادر إليها *** حذراً من تعذر الإمكان

ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت قصوراً مشرفة على الجنة فقلت يا جبرئيل لمن هذه ؟ قال : للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " .