البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (134)

الكظم : الإمساك على غيظ وغم .

والكظيم : الممتلىء أسفار ، وهو المكظوم .

وقال عبد المطلب :

فحضضت قومي واحتسبت قتالهم *** والقوم من خوف المنايا كظم

وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له .

ويقال : كظم القربة إذا شدّها وهي ملأى .

والكظام : السير الذي يشد به فمها .

وكظم البعير : جرته ردها في جوفه ، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه .

ويقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ، ومنه قول الراعي :

فأفضن بعد كظومهن بجرة *** من ذي الأباطح أذرعين حقيلا

الحقيل : موضع ، والحقيل أيضاً نبت .

ويقال : لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد والفزع ، فلا تجتر .

ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل :

قد تكظم البذل منه حين تبصره *** حتى تقطع في أجوافها الجرر

{ الذين ينفقون في السراء والضراء } قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : السراء اليسر ، والضراء العسر .

وقال عبيد بن عمير والضحاك : الرخاء والشدّة .

وقيل : في الحياة ، وبعد الموت بأن يوصي .

وقيل : في الفرح وفي الترح .

وقيل : فيما يسرّ كالنفقة على الولد والقرابة ، وفيما يضر كالنفقة على الأعداء .

وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه ، وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدّق به عليهم .

وقيل : في المنشط والمكره .

ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين ، ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال ، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون على إحداهما .

والمعنى : لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف .

وروي عن عائشة أنها تصدّقت بحبة عنب .

وعن بعض السلف ببصلة .

وابتدىء بصفة التقوى الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة ، ثم جيء بعدها بصفة البذل ، إذ كانت أشق على النفس وأدل على الإخلاص .

وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد ، ومواساة الفقراء .

ويجوز في الدين الاتباعُ والقطعُ للرفع والنصب .

{ والكاظمين الغيظ } أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر ، ولا يظهر له أثر ، والغيظ : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسره بعضهم هنا بالغضب .

والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح ، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح ، وفعل مّا ولا بد ، ولذلك أسند إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند الغيظ إليه تعالى .

ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم العبادة .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم : « من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً » وعنه عليه السلام : « ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله » وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت : لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء .

وقال مقاتل : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : « إن هذه في أمّتي لقليل وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية » وأنشد أبو القاسم بن حبيب :

وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً *** للغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفاً تصبر ساعة *** يرضى بها عنك الإله ويدفع

{ والعافين عن الناس } أي الجناة والمسيئين .

وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع : المماليك .

وهذا مثال ، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم ، وإنفاذ العقوبة عليهم سبيل للقدرة عليهم .

وقال الحسن : والكاظمين الغيظ عن الأرقاء ، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم .

ووردت أخبار نبوية في العفو منها : « ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فليدخلوا الجنة ، فيقال : من ذا الذي أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا » ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه .

ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع ، بشرط اتباع الذين ينفقون { والله يحب المحسنين } الألف واللام للجنس ، فيتناول كل محسن .

أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدّم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف .

والأظهر الأول ، فيعم هؤلاء وغيرهم .

وهذه الآية في المندوب إليه .

ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام : « ما الإيمان » فبين له العقائد « ما الإسلام » ؟ فبين له الفرائض .

« ما الإحسان ؟ » قال : « أن تعبد الله كأنك تراه » والمعنى : أن الله يحب المحسنين ، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة ، مراقبين الله كأنهم مشاهدوه .

وقال الحسن : الإحسان أن تعم ولا تخص ، كالريح والمطر والشمس والقمر .

وقال الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء ، فإنَّ الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق ، خذ مني وهات .

/خ141