إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (134)

{ الذين يُنفِقُونَ } في محل الجر على أنه نعتٌ للمتقين مادحٌ لهم أو بدلٌ منه أو بيانٌ أو في حيز النصبِ أو الرفعِ على المدح ، ومفعولُ ينفقون محذوفٌ ليتناولَ كلَّ ما يصلُح للإنفاق أو متروكٌ بالكلية كما في قولك : يُعطي ويمنَع { فِي السَّرَّاء والضراء } في حالتي الرخاءِ والشدة واليُسر والعُسر ، أو في الأحوال كلِّها إذ الإنسانُ لا يخلو عن مَسَرة أو مضَرَّة أي لا يخلُون في حالٍ بإنفاق ما قدَروا عليه من قليل أو كثير . { والكاظمين الغيظ } ، عطفٌ على الموصول ، والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ للدِلالة على الاستمرار ، وأما الإنفاقُ فحيث كان أمراً متجدداً عبّر عنه بما يفيد الحدثَ وهو التجدد ، والكظمُ الحبسُ يقال : كظَم غيظه أي حبَسه ، قال المُبرِّدُ : تأويلُه أنه كتمه على امتلائه منه ، يقال : كظمتُ السقاءَ إذا ملأتُه وشددتُ عليه أي المُمْسِكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القُدرة عليه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «من كظم غيظاً وهو قادرٌ على إنفاذِه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً » { والعافين عَنِ الناس } : أي التاركين عقوبةَ من استحق مؤاخذتَه . رُوي أنه ينادي منادٍ يومَ القيامة : أين الذين كانت أجورُهم على الله تعالى ؟ فلا يقوم إلا من عفا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن هؤلاءِ في أمتي قليلٌ ألا من عصَم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت » وفي هذين الوصفين إشعارٌ بكمال حُسنِ موقعِ عفوِه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وتركِ مؤاخذتِهم بما فعلوا من مخالفة أمرِه عليه السلام وندبٌ له عليه السلام إلى ترك ما عزَم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزةَ رضي الله عنه حيث قال حين رآه قد مُثِّل به : «لأمثّلنّ بسبعين مكانك » . { والله يُحِبُّ المحسنين } : اللامُ إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد ، عبّر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوتَ المعدودةَ من باب الإحسانِ الذي هو الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حُسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحُسنها الذاتي ، وقد فسره عليه السلام بقوله : «أن تعبدَ الله كأنكَ تَرَاهُ فإنْ لم تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ » والجملةُ تذييلٌ يقرِّر مضمونَ ما قبلها .