قوله : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ } يجوز في محله الألقاب الثلاثة ، فالجر على النعت ، أو البدل ، أو البيان ، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح ، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث ، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات .
فالصفة الأولى : قوله : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ } .
فقيل : معناه : في العُسْر واليُسْر{[5935]} .
وقيل : سواء كانوا في سرور ، أو حُزْن ، أو في عُسْر ، أو في يُسْر .
وقيل : سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه .
روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل " {[5936]} .
ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ .
الصفة الثانية : قوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله .
والكَظْم : الحبس ، يقال : كظم غيظه ، أي : حبسه ، وكَظَم القربة والسقاء كذلك ، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس ، يقال : أخذ بكظمه ، أي : أخذ بمجرى نفسه .
والكُظوم : احتباس النفس ، ويُعَبَّر به عن السكوت ، قال المبرد : تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه ، يقال : كَظَمْتُ السِّقَاءَ ، إذا ملأته وسددت عليه ، وكل ما سددت من مجرى ماء ، أو باب ، أو طريق ، فهو كَظْم ، والذي يُسَدّ به يقال له : الكظامة والسدادة ، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض : كظامة ، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة ، والمَكْظُوم : الممتلئ غيظاً ، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم ، ولا يُخرج نفسه ، والكظيم : الممتلئ أسَفاً .
فَحَضَضْتُ قَوْمِي ، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ *** وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّمُ{[5937]}
وكظم البعيرُ جِرَّتَه ، إذا رَدَّها في جَوْفه ، وترك الاجترار .
فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ *** مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا{[5938]}
وقيل : موضع ، فعلى الأول هو مفعول به ، وعلى الثاني هو ظرف ، ويكون قد شذ جره ب " في " ؛ لأنه ظرف مكان مختص ، ويكون المفعول محذوفاً ، أي : إذْ رعين الكلأ في حقيل ، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ .
ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل : [ البسيط ]
قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ *** حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ{[5939]}
والجرر جمع جِرَّة . والكظامة : حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه ، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس .
والكظائم : خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى ، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه .
قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً{[5940]} " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ " {[5941]} .
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } : الذين يَكُفُّونَ غيظهم عن الإمضاء ، ونظيره قوله : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى : 37 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ " {[5942]} .
الصفة الثالثة : قوله : { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } .
قال القفال : يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهي المؤمنين عن ذلك ، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين ، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين- : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] وقال { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 280 ] .
ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة ، وقال : لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ .
وقال الكلبي : العافين عن المملوكين{[5943]} سوءَ الأدب .
وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ : عمن ظلمهم وأساء إليهم{[5944]} ، قال صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ " {[5945]} .
ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال : " لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ " {[5946]} .
ثم قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس ، فيدخل كل مُحْسن ، وأن تكون للعهد ، فتكون إشارة إلى هؤلاء .
وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة ، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال ، وأحَبَّهم ، وهو أكرم الأكرمين ، والعفو والغفور الحليم ، والآمر بالإحسان ، فكيف يمدح بهذه الأفعال ، ويندب إليها ، ولا يفعلها ؟ إن ذلك لممتنع في العقول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.