الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (134)

وصف تعالى المتَّقِينَ الذين أعدَّتّ لهم الجنَّةُ بقوله : { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء والضراء }[ آل عمران :134 ] وهما اليُسْر والعُسْر ، قاله ابن عَبَّاس . إذ الأغلَبُ أنَّ مع اليُسْر النَّشَاطَ ، وسرورَ النفْسِ ، ومع العُسْر الكراهيَةَ ، وضُرَّ النفس ، وكَظْمُ الغَيْظ : ردُّه في الجَوْفِ ، إذا كاد أنْ يخرج من كثرته ، ومنعه : كظْمٌ له ، والكِظَامُ : السَّيْر الذي يشدُّ به فَمُّ الزِّقِّ ، والغَيْظُ : أصْلُ الغضَبِ ، وكثيراً ما يتلازمَانِ ، ولذلك فسَّر بعض الناس الغَيْظَ بالغَضَب ، وليس تحريرُ الأمر كذلك ، بل الغيظُ حالٌ للنفس ، لا تظهر على الجوارح ، والغضبُ حالٌ لها تظهر في الجوارحِ ، وفِعْلٍ مَّا ولا بدَّ ، ولهذا جاز إسناد الغَضَب إلى اللَّه سبحانه ، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغْضُوب علَيْهم ، ولا يسند إلَيْه تعالى الغَيْظُ ، ووردَتْ في كظْمِ الغيظ ، ومِلْكِ النفْسِ عند الغضب أحاديثُ ، وذلك من أعظم العباداتِ ، وجهادِ النفسِ ، ففي حديثِ أبِي هُرَيْرة ( رضي اللَّه عنه ) ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ كَظَمَ غَيْظاً ، وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ ، مَلأَهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً ) ، إلى غير ذلك من الأحاديثَ .

قُلْتُ : وروى أبو داوُدَ ، والترمذيُّ عن معاذِ بْنِ أَنَس ( رضي اللَّه عنه ) ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ كَظَمَ غَيْظاً ، وَهُوَ يَقْدِرُ على أَنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللَّهُ على رُءُوسِ الخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، حتى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ ) ، قَالَ أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ اه .

وفي روايةٍ أخرى لأبي داود : ( مَلأهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً ، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، قَالَ بِشْرٌ : أَحْسِبُهُ قَالَ : تَوَاضُعاً ، كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ ) .

وحدَّث الحافظُ أَبو الفَضْلِ محمَّد بنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيُّ بسنده ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : ( مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ ، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ ، وَمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنِ اعتذر إلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ ) . اه . من «صفوة التَّصوُّف » .

والعَفْوُ عَنِ النَّاسِ : من أجلِّ ضروبِ فعْلِ الخَيْرِ .

ثم قال سبحانه : { والله يُحِبُّ المحسنين } ، فعم أنواع البرِّ ، وظَاهر الآية أنَّها مدْحٌ بفعل المندوب .