26- يا بني آدم : قد أنعمنا عليكم ، فخلقنا لكم ملابس تستر عوراتكم ، ومواد تتزينون بها ، ولكن الطاعة خير لباس يقيكم العذاب . تلك النعم من الآيات الدالة على قدرة الله وعلى رحمته ، ليتذكر الناس بها عظمته واستحقاقه وحده الألوهية . وتلك القصة من سنن الله الكونية التي تبين جزاء مخالفة أمر الله ، فيتذكر بها الناس ويحرصون على طاعة الله وعلى شكر نعمه .
قوله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم } ، أي : خلقنا لكم .
قوله تعالى : { لباساً } ، وقيل : إنما قال : { أنزلنا } لأن اللباس يكون من نبات الأرض ، والنبات يكون بما ينزل من السماء ، فمعنى قوله : { أنزلنا } ، أي : أنزلنا أسبابه ، وقيل : كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء كما قال تعالى : { وأنزلنا الحديد } [ الحديد :25 ] وإنما يستخرج الحديد من الأرض ، وسبب نزول هذه الآية : أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة ، يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فكان الرجال يطوفون بالنهار ، والنساء بالليل عراة . وقال قتادة : كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله
فأمر الله سبحانه بالستر فقال : { قد أنزلنا عليكم لباساً }
قوله تعالى : { يواري سوآتكم } ، يستر عوراتكم ، واحدتها سوأة ، سميت بها لأنه يسوء صاحبها انكشافها ، فلا تطوفوا عراةً .
قوله تعالى : { وريشاً } ، يعني : مالاً في قول ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، يقال : تريش الرجل إذا تمول ، وقيل : الريش الجمال ، أي : ما يتجملون به من الثياب ، وقيل : هو اللباس .
قوله تعالى : { ولباس التقوى ذلك خير } ، قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، والكسائي { ولباس } بنصب السين عطفاً على قوله لباساً ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره خير ، وجعلوا ذلك صلة في الكلام ، ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب { ولباس التقوى ذلك خير } . واختلفوا في لباس التقوى ، قال قتادة والسدي : التقوى هو الإيمان . وقال الحسن : هو الحياء لأنه يبعث على التقوى . وقال عطاء عن ابن عباس : هو العمل الصالح ، وعن عثمان بن عفان ، أنه قال : السمت الحسن ، وقال عروة بن الزبير : لباس التقوى خشية الله ، وقال الكلبي : هو العفاف ، والمعنى : لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل ، وقال ابن الأنباري : لباس التقوى هو اللباس الأول ، وإنما أعاده إخباراً أن ستر العورة خير من التعري في الطواف . وقال زيد بن علي : { لباس التقوى } الآلات التي يتقى بها في الحرب كالدرع ، والمغفر ، والساعد ، والساقين . وقيل : لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع .
ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري ، واللباس الذي المقصود منه الجمال ، وهكذا سائر الأشياء ، كالطعام والشراب والمراكب ، والمناكح ونحوها ، قد يسر اللّه للعباد ضروريها ، ومكمل ذلك ، و[ بين لهم ]{[310]} أن هذا ليس مقصودا بالذات ، وإنما أنزله اللّه ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته ، ولهذا قال : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } من اللباس الحسي ، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد ، ولا يبلى ولا يبيد ، وهو جمال القلب والروح .
وأما اللباس الظاهري ، فغايته أن يستر العورة الظاهرة ، في وقت من الأوقات ، أو يكون جمالا للإنسان ، وليس وراء ذلك منه نفع .
وأيضا ، فبتقدير عدم هذا اللباس ، تنكشف عورته الظاهرة ، التي لا يضره كشفها ، مع الضرورة ، وأما بتقدير عدم لباس التقوى ، فإنها تنكشف عورته الباطنة ، وينال الخزي والفضيحة .
وقوله : { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : ذلك المذكور لكم من اللباس ، مما تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون{[311]} باللباس الظاهر على الباطن .
يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس{[11631]} المذكور هاهنا لستر العورات - وهي السوآت{[11632]} والرياش والريش : هو ما يتجمل به ظاهرًا ، فالأول من الضروريات ، والريش من التكملات والزيادات .
قال ابن جرير : " الرياش " في كلام العرب : الأثاث ، وما ظهر من الثياب .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس - وحكاه البخاري - عنه : الرياش : المال . وكذا قال مجاهد ، وعُرْوَة بن الزبير ، والسُّدِّي والضحاك{[11633]}
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : " الرياش " اللباس ، والعيش ، والنعيم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : " الرياش " : الجمال .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أصْبَغُ ، عن أبي العلاء الشامي قال : لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا ، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي . ثم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استجد ثوبًا فلبسه{[11634]} فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي{[11635]} ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو : ألقى فتصدق به ، كان في ذمة الله ، وفي جوار الله ، وفي كنف الله حيا وميتا ، [ حيا وميتا ، حيا وميتا ] " {[11636]} .
ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من رواية يزيد بن هارون ، عن أصبغ - هو ابن زيد الجهني{[11637]} - وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره ، وشيخه " أبو العلاء الشامي " لا يعرف إلا بهذا الحديث ، ولكن لم يخرجه أحد ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا مختار بن نافع التمار ، عن أبي مطر ؛ أنه رأى عليا ، رضي الله عنه ، أتى غلامًا حدثًا ، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم ، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين ، يقول ولبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي . فقيل : هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة : " الحمد لله الذي رزقني{[11638]} من الرياش{[11639]} ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي " {[11640]}
وقوله تعالى : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } قرأ بعضهم : " ولباسَ التقوى " ، بالنصب . وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء ، { ذَلِكَ خَيْرٌ } خبره .
واختلف المفسرون في معناه ، فقال عكرمة : يقال : هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة . رواه ابن أبي حاتم .
وقال زيد بن علي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وابن جُريْج : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } الإيمان .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنه : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ]{[11641]} العمل الصالح .
وقال زياد{[11642]} بن عمرو ، عن ابن عباس : هو السمت الحسن في الوجه .
وعن عُرْوَة بن الزبير : { لِبَاسُ التَّقْوَى } خشية الله .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { لِبَاسُ التَّقْوَى } يتقي الله ، فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى .
وكل هذه متقاربة ، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال :
حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق بن الحجاج ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن قال : رأيت عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب ، وينهى عن اللعب بالحمام . ثم قال : يا أيها الناس ، اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفس محمد بيده ، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر " . ثم تلا هذه الآية : " ورياشًا " ولم يقرأ : وريشًا - { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } قال : " السمت الحسن " .
هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم{[11643]} وفيه ضعف . وقد روى الأئمة : الشافعي ، وأحمد ، والبخاري في كتاب " الأدب " من طرق صحيحة ، عن الحسن البصري ؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، يوم الجمعة على المنبر .
وأما المرفوع منه{[11644]} فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا{[11645]} من وجه آخر ، حيث قال : حدثنا . . . . {[11646]}