قوله تعالى :{ حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة } قال قتادة وابن زيد : هي ليلة القدر أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً في عشرين سنة . وقال آخرون : هي ليلة النصف من شعبان .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا الأصبغ بن الفرج ، أخبرني ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن عبد الملك بن عبد الملك حدثه أن ابن أبي ذئب حدثه عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه أو جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزل الله جل ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا إنساناً في قلبه شحناء أو مشركاً بالله " . { إنا كنا منذرين } .
أنه أنزله { فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام ، بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة وغلبت عليهم الشقاوة فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير الدنيوي والخير الأخروي ولهذا قال : { إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا } أي : في تلك الليل الفاضلة التي نزل فيها القرآن
فأما المقسم عليه فهو تنزيل هذا الكتاب في ليلة مباركة :
( إنا أنزلناه في ليلة مباركة . إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . .
والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي - والله أعلم - الليلة التي بدأ فيها نزوله ؛ وهي إحدى ليالي رمضان ، الذي قيل فيه : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) . . والقرآن لم ينزل كله في تلك الليلة ؛ كما أنه لم ينزل كله في رمضان ؛ ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض ؛ وكانت هذه الليلة موعد هذا الاتصال المبارك . وهذا يكفي في تفسير إنزاله في الليلة المباركة .
وإنها لمباركة حقاً تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية ، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر ؛ والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة ، تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة ؛ وتقيم على اساسها عالماً إنسانياً مستقراً على قواعد الفطرة واستجاباتها ، متناسقاً مع الكون الذي يعيش فيه ، طاهراً نظيفاً كريماً بلا تعمل ولا تكلف ؛ يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين .
ولقد عاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء ، موصولين مباشرة بالله ؛ يطلعهم أولاً بأول على ما في نفوسهم ؛ ويشعرهم أولاً بأول بأن عينه عليهم ، ويحسبون هم حساب هذه الرقابة ، وحساب هذه الرعاية ، في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم ؛ ويلجأون إليه أول ما يلجأون ، واثقين أنه قريب مجيب .
ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتاباً مفتوحاً موصولاً بالقلب البشري ، يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر ؛ ويحول مشاعره بصورة تحسب أحياناً في الأساطير !
وبقي هذا القرآن منهجاً واضحاً كاملاً صالحاً لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان . حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز الطابع ، بكل خصائصه دون تحريف . وهذه سمة المنهج الإلهي وحده . وهي سمة كل ما يخرج من يد القدرة الإلهية .
إن البشر يصنعون ما يغني مثلهم ، وما يصلح لفترة من الزمان ، ولظرف خاص من الحياة . فأما صنعة الله فتحمل طابع الدوام والكمال ، والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين ؛ جامعة بين ثبات الحقيقة وتشكل الصورة في اتساق عجيب .
أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة . . أولاً للإنذار والتحذير : ( إنا كنا منذرين ) . فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه وحاجته إلى الإنذار والتنبيه .
والجواب قوله : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } ليلة القدر ، أو البراءة ابتدئ فيها إنزاله ، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ ، ثم أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم نجوما وبركتها لذلك ، فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية ، أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية . { إنا كنا منذرين } استئناف يبين المقتضى للإنزال .
وقوله تعالى : { إنا أنزلناه } يحتمل أن يقع القسم عليه ، ويحتمل أن يكون : { إنا أنزلناه } من وصف الكتاب فلا يحسن وقوع القسم عليه ، وهذا اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ويحسن القسم به ، ويكون الذي وقع القسم عليه : { إنا كنا منذرين } .
واختلف الناس في تعيين الليلة المباركة ، فقال قتادة والحسن : هي ليلة القدر ، وقالوا : إن كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان : التوراة في أوله ، والإنجيل في وسطه ، والزبور في نحو ذلك ونزل القرآن في آخره في ليلة القدر ، ومعنى هذا النزول : أن ابتداء النزول كان في ليلة القدر ، وهذا قول الجمهور . وقالت فرقة : بل أنزله الله جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور ، ومن هنالك كان جبريل يتلقاه . وقال عكرمة وغيره : الليلة المباركة هي النصف من شعبان{[10221]} .
ومعنى الفعل في { أنزلناه } ابتداء إنزاله فإن كل آية أو آيات تنزل من القرآن فهي منضمة إليه انضمام الجزء للكل ، ومجموع ما يبلغ إليه الإنزال في كل ساعة هو مسمّى القرآن إلى أن تم نزول آخر آية من القرآن .
وتنكير { ليلة } للتعظيم ، ووصفها ب { مباركة } تنويه بها وتشويق لمعرفتها . فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدُىء فيها نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار من جَبل حِرَاءٍ في رمضان قال تعالى : { شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن } [ البقرة : 185 ] .
والليلة التي ابتدىء نزول القرآن فيها هي ليلة القدر قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] . والأصح أنها في العشر الأواخر من رمضان وأنها في ليلة الوتر . وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة فضلاً عظيماً لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن وابتداء رسالة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم إلى النّاس كافة . قال تعالى : { تنزَّل الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربّهم من كل أمرٍ سلامٌ هي حتى مطلع الفجر } [ القدر : 4 ، 5 ] . وذلك من معاني بركتها وكم لها من بركات للمسلمين في دينهم ، ولعل تلك البركة تسري إلى شؤونهم الصالحة من أمور دنياهم .
فبركة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدَّرها الله لها قبل نزول القرآن ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها مُلابساً لوقت مبارك فيزداد بذلك فضلاً وشرفاً ، وهذا من المناسبات الإلهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها . والظاهر أن الله أمدّها بتلك البركة في كل عام كما أومأ إلى ذلك قوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } إذ قاله بعد أن مضى على ابتداء نزول القرآن بضْعَ عشرة سنة . وقولُه { ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهرٍ } [ القدر : 3 ] وقوله { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر وقوله : { فيها يفرق كل أمر حكيم } . وعن عكرمة : أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وهو قول ضعيف .
واختلف في الليلة التي ابتدىء فيها نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من ليالي رمضان ، فقيل : هي ليلة سبعَ عشرة منه ذكره ابن إسحاق عن الباقر أخذاً من قوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبعَ عشرة ليلة من رمضان اهـ . أي تأول قوله : { وما أنزلنا على عبدنا } [ الأنفال : 41 ] أنه ابتداء نزول القرآن . وفي المراد ب { ما أنزلنا } احتمالات ترفع الاحتجاج بهذا التأويل بأن ابتداء نزول القرآن كان في مثل ليلة يوم بدر .
والذي يجب الجزم به أن ليلة نزول القرآن كانت في شهر رمضان وأنه كان في ليلة القدر . ولما تضافرت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر « اطلبوها في العشر الأواخر من رمضان في ثالثة تبقى في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى » . فالذي نعتمده أن القرآن ابتدىء نزوله في العشر الأواخر من رمضان ، إلاّ إذا حُمل قول النبي صلى الله عليه وسلم « اطلبوها في العشر الأواخر » على خصوص الليلة من ذلك العام . وقد اشتهر عند كثير من المسلمين أنّ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين باستمرار وهو مناف لحديث « اطلبوها في العشر الأواخر » على كل احتمال .
وجملة { إنا كنا منذرين } معترضة . وحرف ( إنَّ ) يجوز أن يكون للتأكيد ردًّا لإنكارهم أن يكون الله أرسل رسلاً للناس لأن المشركين أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بزعمهم أن الله لا يرسل رسولاً من البشر قال تعالى : { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] ، فكان ردّ إنكارهم ذلك ردًّا لإنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون جملة { إنا كنّا منذرين } مستأنفة . ويجوز أن تكون ( إنَّ ) لمجرد الاهتمام بالخبر فتكون مغنية غناء فاء التسبب فتفيد تعليلاً ، فتكون جملة { إنا كنا منذرين } تعليلاً لجملة { أنزلناه } أي أنزلناه للإنذار لأن الإنذار شأننا ، فمضمون الجملة علة العلة وهو إيجاز وإنما اقتصر على وصف { منذرين } مع أن القرآن منذر ومُبشّر اهتماماً بالإنذار لأنه مقتضى حال جمهور الناس يومئذٍ ، والإنذار يقتضي التبشير لمن انتذر . وحذف مفعول { منذرين } لدلالة قوله : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } عليه ، أي منذرين المخاطبين بالقرآن .