قوله تعالى : { فكلي واشربي } ، أي : فكلي يا مريم من الرطب ، واشربي من ماء النهر ، { وقري عيناً } ، أي : طيبي نفساً . وقيل : قري عينك بولدك عيسى . يقال : أقر الله عينك أي : صادف فؤادك ما يرضيك ، فتقر عينك من النظر إلى غيره . وقيل : أقر الله عينه : يعني أنامها ، يقال : قر يقر إذا سكن . وقيل : إن العين إذا بكت من السرور فالدمع بارد ، وإذا بكت من الحزن فالدمع يكون حراً ، فمن هذا قيل : أقر الله عينه وأسخن الله عينه . { فإما ترين من البشر أحداً } ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد من الحزن فالدمع يكون حاراً ، فمن هذا قيل : أقر الله عينه وأسخن الله عينه . { فإما ترين من البشر أحداً } ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد فكسرت الياء لالتقاء الساكنين . معناه : فإما ترين من البشر أحداً فيسألك عن ولدك { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } ، أي : صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود رضي الله عنه . والصوم في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام . قال السدي : كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطعام ، فلا يتكلم حتى يمسي . وقيل : إن الله تعالى أمرها أن تقول هذا إشارةً . وقيل : أمرها أن تقول هذا القدر نطقاً ، ثم تمسك عن الكلام بعده . { فلن أكلم اليوم إنسياً } ، يقال : كانت تكلم الملائكة ، ولا تكلم الإنس .
وأما من جهة قالة الناس ، فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر ، أن تقول على وجه الإشارة : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ْ } أي : سكوتا { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ْ } أي : لا تخاطبيهم بكلام ، لتستريحي من قولهم وكلامهم . وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة ، وإنما لم تؤمر بخطابهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها ، ولا فيه فائدة ، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد ، أعظم شاهد على براءتها ، . فإن إتيان المرأة بولد من دون زوج ، ودعواها أنه من غير أحد ، من أكبر الدعاوى ، التي لو أقيم عدة من الشهود ، لم تصدق بذلك ، فجعلت بينة هذا الخارق للعادة ، أمرا من جنسه ، وهو كلام عيسى في حال صغره جدا ، ولهذا قال تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } .
( فكلي واشربي )هنيئا . ( وقري عينا )واطمئني قلبا . فأما إذا واجهت أحدا فأعلنيه بطريقة غير الكلام ، أنك نذرت للرحمن صوما عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة . ولا تجيبي أحدا عن سؤال . .
ونحسبها قد دهشت طويلا ، وبهتت طويلا ، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا جنيا . . ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها . وإلى أن حجتها معها . . هذا الطفل الذي ينطق في المهد . . فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها . .
{ فكلي واشربي } أي من الرطب وماء السري أو من الرطب وعصيره . { وقري عينا } وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك وقرئ " وقري " بالكسر وهو لغة نجد واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ، أو من القرفان دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه . { فإما ترين من البشر أحدا } فإن تري آدميا ، وقرئ " ترئن " على لغة من يقول لبأت بالحج لتآخ بين الهمزة وحرف اللين . { فقولي إني نذرت للرحمان صوما } صمتا وقد قرئ به ، أو صياما وكانوا لا يتكلمون في صيامهم { فلن أكلم اليوم إنسيا } بعد أن أخبرتهم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي . وقيل أخبرتهم بنذرها بالإشارة وأمرها بذلك لكراهة المجادلة و الاكتفاء بكلام عيسى عليه الصلاة والسلام فإنه قاطع في قطع الطاعن .
وقوله { فكلي واشربي وقري } الآية ، قرأ الجمهور «وقَري » بفتح الكاف ، وحكى الطبري قراءة «وقِري » بكسر القاف ، وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد المس ودمع الحزن سخن المس ، وضعفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله سخن وإنما معنى قرة العين أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت به العين . وقال الشيباني { قري عيناً } معناه نامي ، حضها على الأكل والشرب والنوم . وقوله { عيناً } نصب على التمييز ، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل ذلك الى ذي العين وينصب الذي كان فاعلاً في الحقيقة على التفسير ، ومثله طبت نفساً وتفقأت شحماً وتصببت عرقاً ، وهذا كثير .
وقرأ الجمهور «ترين » وأصله ترءيين حذفت النون للجزم ، ثم نقلت حركة الهمزة الى الراء ، ثم قلبت الياء الأولى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف والياء{[7941]} ، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا النحو هو قول الأفوه : [ السريع ]
أما ترى رأسي أزرى به . . . {[7942]} ثم دخلت النون الثقيلة ، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون ، وإنما دخلت النون هنا بتوطئة «ما » كما توطئ لدخولها أيضاً لام القسم . وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «ترءين » بالهمزة ، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة «ترينَ » بسكون الياء وفتح النون خفيفة ، قال أبو الفتح : وهي شاذة{[7943]} ، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ، وتبين الآية فيقوم عذرها ، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور . وقالت فرقة معنى { فقولي } بالإشارة لا بالكلام والا فكأن التناقض بين في أمرها . وقرأ ابن عباس وأنس بن مالك «إني نذرت للرحمن وصمت »{[7944]} . وقال قوم معناه { صوماً } عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
«خيل صيام »{[7945]} وأخرى غير صائمة . . . وقال ابن زيد والسدي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام ، وقرأت فرقة «إني نذرت للرحمن صمتاً » ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتاً ، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق والكلام . قال المفسرون : أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج .