قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } يقذفون نساءهم ، { ولم يكن لهم شهداء } يشهدون على صحة ما قالوا ، { إلا أنفسهم } غير أنفسهم ، { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } قرأ حمزة والكسائي وحفص : أربع شهادات برفع العين على خبر الابتداء ، أي : فشهادة أحدهم التي تدرأ الحد أربع شهادات ، وقرأ الآخرون بالنصب ، أي : فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين .
وإنما يجلد القاذف ، إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا ، فإن كان زوجا ، فقد ذكر بقوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } .
وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته ، دارئة عنه الحد ، لأن الغالب ، أن الزوج لا يقدم على رمي زوجته ، التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقا ، ولأن له في ذلك حقا ، وخوفا من إلحاق أولاد ليسوا منه به ، ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ْ } أي : الحرائر{[558]} لا المملوكات .
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ْ } على رميهم بذلك { شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ْ } بأن لم يقيموا شهداء ، على ما رموهم به { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ْ } سماها شهادة ، لأنها نائبة مناب الشهود ، بأن يقول : " أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به " .
ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص :
( والذين يرمون أزواجهم ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) . .
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج ، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ؛ وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا ، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها ، وطلقت منه طلقة بائنة ، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ؛ وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد ، وتبين من زوجها بالملاعنة ؛ ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .
هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها ، كما أمر الله عز وجل{[20798]} وهو أن يحضرها إلى الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء ، { إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى ، { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فإذا قال ذلك ، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وحرمت عليه أبدًا ، ويعطيها مهرها ، ويتوجه عليها حد الزنى ، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، أي : فيما رماها به ، { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ولهذا قال : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ }
يعني : الحد ، { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فخصها بالغضب ، كما أن الغالب أن الرجل لا ا فضيحة أهله ورميها بالزنى إلا وهو صادق معذور ، وهي تعلم صدقه فيما رماها به . ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها . والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه .
ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه ، ورأفته بهم ، وشرعه{[20799]} لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من الضيق ، فقال : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : لحرجتم{[20800]} ولشق عليكم كثير من أموركم ، { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ } [ أي ]{[20801]} : على عباده - وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة - { حَكِيمٌ } فيما يشرعه{[20802]} ويأمر به وفيما ينهى عنه .
وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية ، وذكر سبب نزولها ، وفيمن نزلت فيه من الصحابة ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، أخبرنا عَبَّاد بن منصور ، عن عكْرمَة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ، قال سعد بن عبادة - وهو سيد الأنصار - : هكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ " قالوا : يا رسول الله ، لا تَلُمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قَطّ [ إلا بكرًا ، وما طلق امرأة له قط ]{[20803]} فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ، من شدة غيرته . فقال سعد : والله - يا رسول الله - إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ، ولكني قد تعجَبت أني لو وجدت لَكاعًا قد تَفَخَّذها رجل ، لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . قال : فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم - فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يُهَيّجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدتُ عندها رجلا فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني . فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به ، واشتدّ عليه ، واجتمعت الأنصار فقالوا{[20804]} : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالَ بن أمية ، ويبْطل شهادته في المسلمين{[20805]} . فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا . وقال هلال : يا رسول الله ، إني قد أرى ما اشتد عليك مما{[20806]} جئت به ، والله يعلم إني لصادق . فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه ، إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي - وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك ، في تَرَبُّد وجهه{[20807]} . يعني : فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي - فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ }{[20808]} الآية ، فَسُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أبشر يا هلال ، قد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا " . فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي ، عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلوا إليها " .
فأرسلوا إليها ، فجاءت ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ، وذكرهما وأخبرهما أن عذابَ الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا . فقال هلال : والله - يا رسول الله - لقد صَدَقتُ عليها . فقالت : كذب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاعنوا بينهما " . فقيل لهلال : اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كان في الخامسة قيل له : يا هلال ، اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها . فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قيل [ لها : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل ]{[20809]} لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى ألا [ بيت لها عليه ولا ]{[20810]} قوت لها ، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ، ولا مُتَوَفى عنها . وقال : " إن جاءت به أصَيْهِب أرَيسح حَمْش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جَعدًا جَمَاليًّا خَدلَّج الساقين سابغ الأليتين ، فهو الذي رميت به " فجاءت به أورق جعدا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " .
قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب .
ورواه أبو داود عن الحسن بن عليّ ، عن يزيد{[20811]} بن هارون ، به نحوه مختصرًا{[20812]} .
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة . فمنها ما قال البخاري : حدثني محمد بن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن هشام بن حسان ، حدثني عِكْرِمَة ، عن ابن عباس ؛ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء ، فقال رسول الله{[20813]} صلى الله عليه وسلم : " البينة أو حَدُّ في ظهرك " فقال : يا رسول الله ، إذا أري{[20814]} أحدنا على امرأته رجلا ينطلقُ يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " البينة وإلا حدّ في ظهرك " . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن{[20815]} الله ما يُبرئ ظهري{[20816]} من الحد . فنزل جبريل ، وأنزل{[20817]} عليه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ، فقرأ حتى بلغ : { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الله يشهد أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها وقالوا : إنها مُوجبة . قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبْصِرُوها ، فإن جاءت به أكحلَ العينين ، سابغ الأليتين ، خَدَلَّج الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْمَاءَ " . فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا ما مضى من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " .
انفرد به البخاري من هذا الوجه{[20818]} وقد رواه من غير وجه ، عن ابن عباس وغيره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي{[20819]} حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح - وهو ابن عمر - حدثنا عاصم - يعني : ابن كُلَيْب - ، عن أبيه ، حدثني ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله ، فرمى امرأته برجل ، فكره ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يُرَدّده حتى أنزل الله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ [ إِلا أَنْفُسُهُمْ ] } {[20820]} [ فقرأ ]{[20821]} حتى فرغ من الآيتين ، فأرسل إليهما فدعاهما ، فقال : " إن الله ، عَزّ وجل ، قد أنزل فيكما " . فدعا الرجل فقرأ عليه ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه ، فقال له : " كل شيء أهون عليه من لعنة الله " . ثم أرسله فقال : { لَعْنتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ثم دعاها بها ، فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال : " ويحك . كل شيء أهون من غضب الله " . ثم أرسلها ، فقالت : { غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأقضينّ بينكما قضاء فصلا " . قال : فولدت ، فما رأيت مولودًا بالمدينة أكثر غاشية منه ، فقال : " إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا ، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا " . فجاءت به يشبه الذي قُذفت به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال : سمعت سعيد بن جُبَير قال : سُئلْتُ عن المتلاعنين أيفرّق بينهما - في إمارة ابن الزبير ؟ فما دَرَيتُ ما أقول ، فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلتُ : أبا عبد الرحمن ، المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال : سبحان الله ، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تَكَلَّم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك . فسكت فلم يجبه ، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : الذي سألتك عنه قد ابتُليت به . فأنزل الله عز وجل هذه الآيات{[20822]} في سورة النور : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } حتى بلغ : { أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } . فبدأ بالرجل فوعظه وذكَّره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، فقال : والذي بعثك بالحق ما كَذَبْتُك . ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذَكَّرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق{[20823]} إنه لكاذب . قال : فبدأ بالرجل ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فَرَّقَ بينهما .
رواه النسائي في التفسير ، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان ، به{[20824]} وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس{[20825]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : كنَّا جلوسًا عشية الجمعة في المسجد ، فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت عن غيظ ؟ والله لَئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فسأله . فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ؟ اللهم احكم . قال : فأنزل آية اللعان ، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طُرُق ، عن سليمان بن مِهْران الأعمش ، به{[20826]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو كامل : حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، قال : جاء عُوَيْمر إلى عاصم بن عَدِيّ فقال : سَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله ، أيقتل به أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائل . قال : فلقيه عُوَيمر فقال : ما صنعْتَ ؟ قال : ما صنعت ! إنك لم تأتني بخير ؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال عُوَيمر : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلأسألنه . فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما . قال : فدعا بهما فَلاعَن بينهما . قال عُوَيمر : لئن انطلقتُ بها يا رسول الله لقد كذبت عليها . قال : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبصروها ، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة فلا أراه إلا كاذبًا " . فجاءت به على النعت المكروه .
أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي ، من طرق ، عن الزهري ، به{[20827]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن زيد{[20828]} بن يُثَيْع ، عن حذيفة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : كنت والله فاعلا به شرًا . قال : " فأنتَ يا عمر ؟ " . قال : كنتُ والله فاعلا كنت أقول : لعن الله الأعجز ، وإنه خبيث . قال : فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ }
ثم قال : لا نعلم أحدًا أسنده إلا النَّضر بن شُميْل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، ثم رواه من حديث الثوري عن [ أبي ]{[20829]} أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع مرسلا فالله أعلم{[20830]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي ، حدثنا مُخَلَّدُ بن الحسين ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لأول لعان كان في الإسلام أن شَرِيكَ بن سَحْمَاء قذَفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة شهود وإلا فَحَدٌّ في ظهرك " ، فقال : يا رسول الله ، إن الله يعلم إني لصادق ، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد . فأنزل الله آية اللعان : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ } إلى آخر الآية . قال : فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى " فشهد بذلك أربع شهادات ، ثم قال له في الخامسة : " ولعنة الله عليك إن كنتَ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى " ، ففعل . ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى " . فشهدت بذلك أربع شهادات ، ثم قال لها في الخامسة : " وغَضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنى " ، فقالت : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة ، حتى ظنوا أنها ستعترف ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت على القول ، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال : " انظروه ، فإن جاءت به جَعْدًا حَمْشَ الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْماء ، وإن جاءت به أبيض سبطا فَضيء{[20831]} العينين فهو لهلال بن أمية " . فجاءت به آدَمَ جَعَدًا حَمْش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا ما نزل فيهما من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " {[20832]} .
هذا تخصيص للعمومين الذين في قوله : { والذين يرمون المحصنات } [ النور : 4 ] فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن ، فخُصّ هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله : { والذين يرمون المحصنات } إلخ إذ عُذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء .
ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة .
وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتاً حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قُبِل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجباً حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها .
وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعاً يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذباً وهو وازع التعير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالباً ، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهر الاستثناء في قوله : { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ، وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك ، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقاً فيما يدعيه على امرأته . وقد قال سعد بن عبادة « لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح » . ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها ، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم . ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن .
ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ريبة في أزواجهم . ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار . روى مالك في « الموطأ » عن سهل بن سعد أن عويمراً العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له : يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك . فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائلَ وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله . فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله ؟ فقال عاصم لعويمر : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها . فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها . فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال : يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها .
قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث . فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى . واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أمية الواقفي . وزيد في القصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " البينة وإلا حدٌّ في ظهرك " . والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب .
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال : " أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني " يعني أنها غيرة غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لم يأذنا بذلك . فإن الله ورسوله أغير من سعد ، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة ولذلك قال عويمر العجلاني « من وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل » ؟ .
وحذف متعلق { شهداء } لظهوره من السياق ، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم .
وشمل قوله : { إلا أنفسهم } ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء .
وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن علة تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ { يرمون } ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة منَّ الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها . فلذلك قال مالك في المشهور عنه وآخر قوليه وجماعة : لا يلاعن بين الزوجين إلا إذا ادعى الزوج رؤية امرأته تزني أو نفَى حملها نفياً مستنداً إلى حدوث الحمل بعد تحقق براءة رحم زوجه وعدم قربانه إياها ، فإن لم يكن كذلك ورماها بالزنى . أي بمجرد السماع أو برؤية رجل في البيت في غير حال الزنى ، أو بقوله لها : يا زانية ، أو نحو ذلك مما يجري مجرى السب والشتم فلا يشرع اللعان . ويحد الزوج في هذه الأحوال حد القذف لأنه افتراء لا بينة عليه ولا عذر يقتضي تخصيصه إذ العذر هو عدم تحمل رؤية امرأته تزني وعدم تحمل رؤية حمل يتحقق أنه ليس منه . وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور : إذا قال تحمل لها : يا زانية ، وجب اللعان ، ذهاباً منهم إلى أن اللعان بين الزوجين يجري في مجرد القذف أيضاً تمسكاً بمطلق لفظ { يرمون } . ويقدح في قياسهم أن بين دعوى الزنى على المرأة وبين السب بألفاظ فيها نسبة إلى الزنا فرقاً بيناً عند الفقيه .
وتسمية القرآن أيْمان اللعان شهادة يومىء إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية .
وقوله : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } إلخ لما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم إن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } [ النور : 4 ] إلخ .
وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتباري ، وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثيراً وهنا جعلت بدلاً من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود هي تلك الأيمان الأربع .
ومعنى كون الأيمان بدلاً من الشهادة أنها قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفاً ؛ فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة ، ولا يتوهم أن لا تقبل أيمان اللعان إلا من عدل فلو كان فاسقاً لم يلتعن ولم يحد حد القذف بل كل من صحت يمينه صح لعانه وهذا قول مالك والشافعي ، واشترط أبو حنيفة الحرية وحجته في ذلك إلحاق اللعان بالشهادة لأن الله سماه شهادة .
ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة : « أشهد بالله » عند الأيمة الأربعة . وأما ما بعد صيغة ( أشهد ) فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه .
وقوله : { فشهادة أحدهم أربع شهادات } قرأه الجمهور بنصب { أربعَ } على أنه مفعول مطلق ل { شهادة } فيكون { شهادة أحدهم } محذوف الخبر دل عليه معنى الشرطية الذي في الموصول واقتران الفاء بخبره ، والتقدير : فشهادة أحدهم لازمة له . ويجوز أن يكون الخبر قوله : { إنه لمن الصادقين } على حكاية اللفظ مثل قولهم : « هجِّيرا أبي بكر لا إله إلا الله » . وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف برفع { أربعُ } على أنه خبر المبتدأ وجملة { إنه لمن الصادقين } إلى آخرها بدل من { شهادة أحدهم } . ولا خلاف بين القراء في نصب { أربع شهادات } الثاني .
وفي قوله : { إنه لمن الصادقين } حكاية للفظ اليمين مع كون الضمير مراعى فيه سياق الغيبة ، أي يقول : إني لمن الصادقين فيما ادعيت عليها .