الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (6)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 4 و 5]

{والذين يرمون المحصنات} يعنى نساء المؤمنين بالزنا {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} من الرجال على قولهم {فاجلدوهم ثمانين جلدة} يجلد بين الضربين على ثيابه {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ما دام حيا {وأولئك هم الفاسقون} آية، يعنى العاصين في مقالتهم.

ثم استثنى، فقال: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك} يعنى بعد الرمي {وأصلحوا} العمل فليسوا بفساق {فإن الله غفور} لقذفهم {رحيم} آية، بهم. فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين في خطبة يوم الجمعة، فقال عاصم بن عدي الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم: جعلني الله فداك، لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا، فتكلم جلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة في المسلمين أبدا، ويسميه المسلمون فاسقا، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، إلى أن تلتمس أحدنا أربعة شهداء فقد فرغ الرجل من حاجته، فأنزل الله عز وجل في قوله: {والذين يرمون أزواجهم} بالزنا {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم} يعني: الزوج {أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين}، إلى ثلاث آيات، فابتلى الله، عز وجل، عاصما بذلك في يوم الجمعة الأخرى، فأتاه ابن عمه عويمر الأنصاري من بني العجلان بن عمرو بن عوف، وتحته ابنة عمه أخي أبيه، فرماها بابن عمه شريك بن السحماء، والخليل والزوج والمرأة كلهم من بني عمرو بن عوف، وكلهم بنو عم عاصم، فقال: يا عاصم، لقد رأيت شريكا على بطن امرأتي: فاسترجع عاصم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت سؤالي عن هذه والذين يرمون أزواجهم، فقد ابتليت بها في أهل بيتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك يا عاصم" فقال: أتاني ابن عمي فأخبرني أنه وجد ابن عم لنا على بطن امرأته، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزوج والخليل والمرأة، فأتوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها عويمر: "ويحك اتق الله، عز وجل، في خليلتك وابنة عمك أن تقذفها بالزنا". فقال الزوج: أقسم لك بالله، عز وجل، إني رأيته معها على بطنها، وإنها لحبلى منه، وما قربتها منذ أربعة أشهر.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة -خولة بنت قيس الأنصارية-: "ويحك ما يقول زوجك"، قالت: أحلف بالله إنه لكاذب، ولكنه غار، ولقد رآني معه نطيل السمر بالليل، والجلوس بالنهار، فما رأيت ذلك في وجهه، وما نهاني عنه قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للخليل: "ويحك ما يقول ابن عمك "فحدثه مثل قولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزوج والمرأة: "قوما فاحلفا بالله، عز وجل" فقام الزوج عند المنبر دبر صلاة العصر يوم الجمعة، وهو عويمر بن أمية، فقال: أشهد بالله أن فلانة زانية، يعني امرأته خولة، وإني لمن الصادقين، ثم قال الثانية: أشهد بالله أن فلانة زانية، ولقد رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال الثالثة: أشهد بالله أن فلانة زانية، وأنها لحبلى من غيري، وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة: أشهد بالله أن فلانة زانية، وما قربتها منذ أربعة أشهر، وإني لمن الصادقين، ثم قال الخامسة: لعنة الله على عويمر، إن كان من الكاذبين عليها في قوله: {والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين}.

ثم قامت خولة بنت قيس الأنصاري مقام زوجها، فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين، ثم قالت الثانية: أشهد بالله ما أنا بزانية، وما رأى شريكا على بطني، وإن زوجي لمن الكاذبين، ثم قالت الثالثة: أشهد بالله ما أنا بزانية، وإني لحبلى منه وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت الرابعة: أشهد بالله ما أنا بزانية، وما رأى علي من ريبة ولا فاحشة، وإن زوجي لمن الكاذبين، ثم قالت الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله: ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما.

فذلك قوله عز وجل: {ويدرأ عنها العذاب} يقول: يدفع عنها الحد لشهادتها بعد {أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان} زوجها {من الصادقين}، في قوله، وكان الخليل رجلا أسود ابن حبشية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ولدت فلا ترضع ولدها حتى تأتوني به"، فأتوه بولدها فإذا هو أشبه الناس بالخليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لولا الإيمان، لكان لي فيهما أمر".

والمتلاعنان يفترقان فلا يجتمعان أبدا...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: "وَالّذِينَ يَرْمُونَ "من الرجال "أزْوَاجَهُمْ "بالفاحشة، فيقذفونهنّ بالزنا، "ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ" يشهدون لهم بصحة ما رموهنّ به من الفاحشة، "فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ باللّهِ إنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ".

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: «أرْبَعَ شَهاداتٍ» نصبا، ولنصبهم ذلك وجهان: أحدهما: أن تكون الشهادة في قوله: "فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ" مرفوعة بمضمر قبلها، وتكون «الأربع» منصوبا بمعنى الشهادة، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ: فعلى أحدهم أن يشهد أربعَ شهادات بالله. والوجه الثاني: أن تكون الشهادة مرفوعة بقوله: "إنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ" و «الأربع» منصوبة بوقوع الشهادة عليها، كما يقال: شهادتي ألف مرّة إنك لرجل سَوْء، وذلك أن العرب ترفع الأيمان بأجوبتها، فتقول: حَلِفٌ صادق لأقومنّ، وشهادة عمرو ليقعدنّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: "أرْبَعُ شَهاداتٍ" برفع «الأربع»، ويجعلونها للشهادة مرافِعة، وكأنهم وجهوا تأويل الكلام: فالذي يلزم من الشهادة، أربعُ شهادات بالله إنه لمن الصادقين.

وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: «فشهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعَ شَهاداتٍ باللّهِ إنّهُ لَمنَ الصّادِقِينَ» بنصب أربع، بوقوع «الشهادة» عليها، و «الشهادة» مرفوعة حينئذٍ على ما وصفت من الوجهين قبل وأحبّ وجهيهما إليّ أن تكون به مرفوعة بالجواب، وذلك قوله: "إنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ" وذلك أن معنى الكلام: والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، تقوم مقام الشهداء الأربعة في دفع الحدّ عنه، فترك ذكر تقوم مقام الشهداء الأربعة، أكتفاء بمعرفة السامعين بما ذُكِر من الكلام، فصار مُرافِع «الشهادة» ما وصفت.

ويعني بقوله: "فَشَهادَةُ أحَدِهمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ باللّهِ": فحلف أحدهم أربع أيمان بالله، من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رَمَى زوجته به من الفاحشة، "والخامِسَة" يقول: والشهادة الخامسة، أن لعنة الله عليه يقول: إن لعنة الله له واجبة وعليه حالّة، إن كان فيما رماها به من الفاحشة من الكاذبين...

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: حدثنا أيوب، عن عكرِمة، قال: لما نزلت "وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً" قال سعد بن عبادة: الله إن أنا رأيت لَكَاعِ متفخذَها رجل فقلت بما رأيت إن في ظهري لثمانين، إلى ما أجمع أربعة، قد ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، ألا تَسْمَعونَ إلى ما يَقولُ سَيّدُكُمْ؟». قالوا: يا رسول الله لا تَلُمْه وذكروا من غَيرته فما تزوّج امرأة قطّ إلا بكرا، ولا طلق امرأة قطّ فرجع فيها أحد منا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنّ اللّهَ يَأبَى إلاّ ذَاكَ» فقال: صدق الله ورسوله. قال: فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له فرمى امرأته، فشق ذلك على المسلمين، فقال: لا والله، لا يجعل في ظهري ثمانين أبدا، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت، قال: فأنزل الله القرآن باللعان، فقيل له: احلف! فحلف، قال: قفوه عند الخامسة، فإنها موجبة، فقال: لا يدخله الله النار بهذا أبدا، كما درأ عنه جلد ثمانين، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت فحلف، ثم قيل: احلفي، فحلفت، ثم قال: قفوها عند الخامسة، فإنها مُوجِبة، فقيل لها: إنها مُوجبة، فتلكأت ساعة، ثم قالت: لا أُخْزي قومي، فحلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجها، وإنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ للَّذِي قِيلَ فِيهِ ما قِيلَ، قال: فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق، فكان بعد أميرا بمصر لا يُعرف نسبه، أو لا يُدْرَى من أبوه"...

عن ابن عباس، قوله: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ"... الآية، والخامسة: أن يقال له: إن عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين. وإن أقرّت المرأة بقوله رُجمت، وإن أنكرت شهدت أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن يقال لها: غضب الله عليك إن كان من الصادقين، فيدرأ عنها العذاب، ويفرق بينهما، فلا يجتمعان أبدا، ويُلحق الولد بأمه. يعني جلّ ذكره بقوله: "وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ": ويدفع عنها الحدّ.

واختلف أهل العلم في العذاب الذي عناه الله في هذا الموضع أنه يدرأه عنها شهاداتها الأربع؛ فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا في ذلك، من أن الحدّ جلد مئة إن كانت بكرا، أو الرجم إن كانت ثيبا قد أحصنت.

وقال آخرون: بل ذلك الحبس، وقالوا: الذي يجب عليها إن هي لم تشهد الشهادات الأربع بعد شهادات الزوج الأربع، والتعانه: الحبس دون الحدّ.

وإنما قلنا: الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج الحدّ الذي وصفنا، قياسا على إجماع الجميع على أن الحدّ إذا زال عن الزوج بالشهادات الأربع على تصديقه فيما رماها به، أن الحدّ عليها واجب، فجعل الله أيمانه الأربع، والتعانه في الخامسة مخرجا له من الحدّ الذي يجب لها برميه إياها، كما جعل الشهداء الأربعة مخرجا له منه في ذلك وزائلا به عنه الحدّ، فكذلك الواجب أن يكون بزوال الحدّ عنه بذلك واجبا عليها حدّها، كما كان بزواله عنه بالشهود واجبا عليها، لا فرق بين ذلك...

وقوله: "أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ" يقول: ويدفع عنها العذاب أن تحلف بالله أربع أيمان: أن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة، لمن الكاذبين فيما رماها من الزنا.

وقوله: "وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا..."، يقول: والشهادة الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان زوجها فيما رماها به من الزنا من الصادقين...

{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ" يقول تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنه عَوّاد على خلقه بلطفه وطوله، حكيم في تدبيره إياهم، وسياسته لهم، لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم وفضح أهل الذنوب منكم بذنوبهم، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلا رحمة منه بكم، وتفضلا عليكم، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدّم عما عنه نهاكم من معاصيه، وترك الجواب في ذلك، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلى آخر القصة. قال أبو بكر: كان حَدُّ قاذف الأجنبيات والزوجات الجَلْد، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء:"ائْتِنِي بأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإِلاّ فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ"، وقال الأنصار: أيجلد هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين! فثبت بذلك أن حدّ قاذف الزوجات كان كحدِّ قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان: "ائْتِنِي بِصَاحِبَتِكَ فَقَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وفيها قُرْآناً "ولاعن بينهما.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

لما نزلت الآية المتقدمة في {الذين يرمون} [النور: 4] تناول ظاهرها الأَزواج وغيرهن، فقال سعد بن عبادة يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني».

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

في سَبَبِ نُزُولِهَا:

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ من ضَرُورَةِ الْخَلْقِ فِي التَّكَلُّمِ بِحَالِ الزَّوْجَاتِ جَعَلَ لَهُمْ مَخْلَصًا من ذَلِكَ بِاللِّعَانِ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَهَكَذَا نَزَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَوْ أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ وَأُخْرِجَهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَوَاَللَّهِ مَا كُنْت لِآتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَفْرُغَ من حَاجَتِهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: لَا تَلُمْهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، مَا تَزَوَّجَ فِينَا قَطُّ إلَّا عَذْرَاءَ، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.

قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ بِأَبِي وَأُمِّي، وَاَللَّهِ لَأَعْرِفُ أَنَّهَا من اللَّهِ، وَأَنَّهَا الْحَقُّ. فَوَاَللَّهِ مَا لَبِثُوا إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ من حَدِيقَةٍ لَهُ، فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَأَمْسَكَ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي جِئْت أَهْلِي عِشَاءً، فَرَأَيْت رَجُلًا مَعَ أَهْلِي، رَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْت بِأُذُنِي. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَتَاهُ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ جِدًّا، حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ هِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أَرَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِك مِمَّا أَتَيْتُك بِهِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ؛ وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فَرَجًا. فَقَالُوا: اُبْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ، أَيُجْلَدُ هِلَالٌ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ؟ فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ بِضَرْبِهِ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَاتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَبْشِرْ يَا هِلَالُ، إنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَك فَرَجًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلُوا إلَيْهِمَا فَلَمَّا اجْتَمَعَا قِيلَ لَهَا فَكَذَّبَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ، فَهَلْ فِيكُمَا تَائِبٌ فَقَالَ هِلَالٌ: لَقَدْ صَدَقْت، وَمَا قُلْت إلَّا حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا. قِيلَ لِهِلَالٍ: اشْهَدْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ من الْكَاذِبِينَ. فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ: يَا هِلَالُ؛ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ من عَذَابِ النَّاسِ وَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعُقُوبَةَ. فَقَالَ هِلَالٌ: وَاَللَّهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ من الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ قِيلَ لَهَا: تَشْهَدِي، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ قِيلَ لَهَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ من عَذَابِ النَّاسِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ من الصَّادِقِينَ. فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لَهَا، وَلَا يُدْعَى لِأَبِيهِ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا). وَفِي رِوَايَةٍ: (قِيلَ لِهِلَالٍ: إنْ قَذَفْت امْرَأَتَك جُلِدْت ثَمَانِينَ. قَالَ: اللَّهُ أَعْدَلُ من ذَلِكَ) وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي قَدْ رَأَيْت حَتَّى اسْتَيْقَنْتُ، وَسَمِعْتُ حَتَّى اسْتَثْبَتُّ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ... وَالْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِهَا [الشهادة] التَّغْلِيظُ فِي الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ عَلَى فَاعِلِهَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهَا فَيَقَعُ السَّتْرُ فِي الْفُرُوجِ وَالْحَقْنُ فِي الدَّمِ، وَالْفَيْصَلُ فِي أَنَّهُ يَمِينٌ، لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ دَعْوَاهَا، وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْعَذَابِ؛ وَكَيْف يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ؟ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة والتعزير إن لم تكن محصنة، كما في رمي الأجنبية لا يختلف موجبهما، غير أنهما يختلفان في المخلص ففي قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف أو ببينة تقوم على زناها، وفي قذف الزوجة يسقط عنه الحد بأحد هذين الأمرين أو باللعان، وإنما اعتبر الشرع اللعان في هذه الصورة دون الأجنبيات لوجهين:

الأول: أنه لا معرة عليه في زنا الأجنبية والأولى له ستره، أما إذا زُنِي بزوجته فيلحقه العار والنسب الفاسد، فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمعتذر، فلا جرم خص الشرع هذه الصورة باللعان.

الثاني: أن الغالب في المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة، فإذا رماها فنفس الرمي يشهد بكونه صادقا إلا أن شهادة الحال ليست بكاملة فضم إليها ما يقويها من الإيمان، كشهادة المرأة لما ضعفت قويت بزيادة العدد والشاهد الواحد يتقوى باليمين على قول كثير من الفقهاء.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة، أن يلاعنها، كما أمر الله عز وجل وهو أن يحضرها إلى الإمام، فيدعي عليها بما رماها به، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء، {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي: فيما رماها به من الزنى، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته، دارئة عنه الحد، لأن الغالب، أن الزوج لا يقدم على رمي زوجته، التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقا، ولأن له في ذلك حقا، وخوفا من إلحاق أولاد ليسوا منه به، ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره... سماها شهادة، لأنها نائبة مناب الشهود، بأن يقول:"أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به".

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ذلك حكم القذف العام. ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته. فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات. والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه. لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص:

(والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم. فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم)..

وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف. ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته؛ وليس له من شاهد إلا نفسه. فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد. فإذا فعل أعطاها قدر مهرها، وطلقت منه طلقة بائنة، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم.. ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به؛ وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة.. بذلك يدرأ عنها الحد، وتبين من زوجها بالملاعنة؛ ولا ينسب ولدها -إن كانت حاملا- إليه بل إليها. ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا تخصيص للعمومين الذين في قوله: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن، فخُصّ هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله: {والذين يرمون المحصنات} إلخ إذ عُذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء.

ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة.

وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتاً حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قُبِل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجباً حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها.

وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعاً يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذباً وهو وازع التعير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالباً، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهر الاستثناء في قوله: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم}، وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقاً فيما يدعيه على امرأته. وقد قال سعد بن عبادة « لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح». ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم. ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن.

ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ريبة في أزواجهم. ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار. روى مالك في « الموطأ» عن سهل بن سعد أن عويمراً العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك. فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائلَ وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله. فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها. فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها. فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها.

قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى. واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أمية الواقفي. وزيد في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"البينة وإلا حدٌّ في ظهرك". والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب.

ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال: "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني "يعني أنها غيرة غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لم يأذنا بذلك. فإن الله ورسوله أغير من سعد، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة ولذلك قال عويمر العجلاني « من وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل»؟

وحذف متعلق {شهداء} لظهوره من السياق، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.

وشمل قوله: {إلا أنفسهم} ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء.

وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن علة تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ {يرمون} ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة منَّ الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها...

وتسمية القرآن أيْمان اللعان شهادة يومئ إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية.

وقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله...} لما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم إن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4] إلخ.

وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها... وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثيراً، وهنا جعلت بدلاً من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود هي تلك الأيمان الأربع.

ومعنى كون الأيمان بدلاً من الشهادة أنها قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفاً؛ فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة...

ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة: « أشهد بالله» عند الأئمة الأربعة. وأما ما بعد صيغة (أشهد) فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

الملاعنة بين الزوجين:

ولعل هذا التشريع جاء من أجل وضع المسألة في نصابها الصحيح، في مواجهة صعوبة الحالة التي يعيشها البيت الزوجي عند اتهام الزوج لزوجته بالزنى دون أن يملك أيّة وسيلةٍ من وسائل الإثبات الشرعية... فكيف يمكن حل المشكلة، التي قد لا يكون هناك سبيل إلى إثباتها أو نفيها عبر وسائل الإثبات التي تحسم الموضوع وتؤكده أمام الجميع؟ لذلك كان الحلّ الضغط النفسي الخاضع للجانب الإيماني في شخصية كلٍّ من الزوجين، على أساس ما يمكن أن تثيره فكرة الشهادة من انفعالات في نفس الاثنين، حيث يمكن أن يشكل ذلك تأكيداً لصدقه، أو تأكيداً لكلامها في كذبه، مع الإعلان عن توجيه اللعنة لنفسه إن كان من الكاذبين، أو توجيهها لنفسها إن كان من الصادقين.. وحيث يمكن أن يستسلم الكاذب منهما للمؤثرات الروحية ويتراجع عن موقفه في بعض مواقع تكرر اللعنة، ثم في الموقف الحاسم الأخير، مما يكون الحلّ النهائي الممكن للمسألة، فإذا لم تحل المشكلة عن هذا الطريق، فإن النتيجة تكون إغلاق ملف الحديث عنها، بعد أن أكّد كلٌّ منهما موقفه، دون الوصول إلى إدانة المتهم، ما يعني أن كلاًّ منهما برّأ نفسه مما رماه به الآخر، بحيث لم يبق مجالٌ لاتهام أي منهما شريكه بشيءٍ بعد ذلك، الأمر الذي يقتضي إنهاء المشكلة في جانبها الكلامي الاتهامي الذي يحكم ساحة الصراع ثم الفراق، ثم حرمة العلاقة بينهما أبدياً، لأن حدوث هذا النوع من اللعنة المتبادلة بين الزوجين يجعل الحياة الزوجية غير صالحة للامتداد والاستمرار... بالتالي فإن كلاًّ منهما يجب أن يذهب إلى حال سبيله حيث يمكن أن يعيش تجربة جديدة، في علاقةٍ جديدة بإنسانٍ آخر. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} باتهامهنّ وقذفهنّ بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} لأنهم واجهوا الجريمة بشكل مباشر دون حضور أشخاص آخرين يشاركونهم الرؤية، فهناك طريقة بديلة عن شهادة الأربعة من الشهود الذين يتوقف على شهادتهم الحكم بالزنى، تستبدل فيها شهادة الأربعة بواحد {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} يكرر فيها التهمة بشكلٍ حاسمٍ مؤكدٍ يشتمل على ما يشبه اليمين {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في ما يقوله عنها، وبذلك تكون المسألة مشابهةً لقيام اليمين مقام البيّنة.