فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (6)

ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال :

{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } جمع زوج بمعنى الزوجة فإن حذف التاء منها أفصح من إثباتها إلا في الفرائض ، ولم يقيد هنا بالمحصنات إشارة إلى أن اللعان يشرع في قذف المحصنة وغيرها فهو في قذف المحصنة يسقط الحد عن الزوج وفي قذف غيرها يسقط التعزير كأن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة تحتمل الوطء بخلاف قذف الصغيرة التي لا تحتمله ، وبخلاف قذف الكبيرة التي ثبت زناها ببينة أو إقرار ، فإن الواجب في قذفهما التعزير لكنه لا يلاعن لدفعه كما في كتب الفروع وقد وقع قذف الزوجة بالزنا لجماعة من الصحابة كهلال بن أمية وعويمر العجلاني وعاصم بن عدي .

وفي الباب روايات عن التابعين وقصة المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة ، وأخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) ، فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : البينة وإلا حد في ظهرك " ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ونزل جبريل فأنزل عليه { والذين يرمون أزواجهم } حتى بلغ { إن كان من الصادقين } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا أنها موجبة ، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج{[1277]} الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " {[1278]} .

وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن ابن عباس مطولة وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما ، ولم يسمّوا الرجل ولا المرأة .

وفي آخر القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " اذهب فلا سبيل لك عليها " فقال : يا رسول الله مالي ؟ قال : لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها " .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال : سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله أيقتل به ؟ أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل ، فقال : عويمر والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأسألنه فوجده قد أنزل عليه فدعا بهما فلاعن بينهما قال عويمر : إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها ففارقتها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة للمتلاعنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كذبا ، فجاءت به مثل النعت المكروه " {[1279]} .

وفي الباب أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية ، وأخرج عبد الرزاق عن عم بن الخطاب وعلي وابن مسعود قالوا : لا يجتمع المتلاعنان أبدا .

{ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء } يشهدون بما رموهن به من الزنا { إِلَّا أَنفُسُهُمْ } بالرفع على البدل من شهداء ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وقيل إنه نعت له على أن إلا بمعنى غير وبالنصب على الاستثناء على الوجه المرجوح ، ولا مفهوم لهذا القيد ، بل يلاعن ولو كان واجدا للشهود الذين يشهدون بزناها لنفي ولد ولدفع العقوبة حدا أو تعزيرا .

{ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } أي الشهادة التي تزيل عنه حد القذف أو فالواجب شهادة أحدهم أو فشهادة أحدهم كائنة أو واجبة ، وقيل فعليهم أن يشهد أحدهم { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فيما رماها به من الزنا وهي المشهود به .


[1277]:خدلج: ممتلئ لحما.
[1278]:البخاري تفسير سورة 24/3 ـ الترمذي تفسير سورة 24/3.
[1279]:أبو داوود كتاب الطلاق باب 27.