الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (6)

أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عاصم بن عدي قال : لما نزلت { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } قلت : يا رسول الله إلى أن يأتي الرجل بأربعة شهداء قد خرج الرجل ؟ فلم ألبث إلا أياماً فإذا ابن عم لي معه امرأته ومعها ابن وهي تقول : منك . وهو يقول : ليس مني . فنزلت آية اللعان قال عاصم : فأنا أول من تكلم وأول من ابتلى به .

وأخرج أحمد وعبد الرزاق والطيالسي وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « لما نزلت { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء . . } الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار : أهكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ فقالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور . والله ما تزوّج امرأة قط إلا بكراً ، وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته فقال سعد : يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ، ولكني تعجبت إني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء - فوالله - لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال : فما لبثوا إلا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية ؛ وهو أحد الثلاثة الذي تيب عليهم ، فجاء من أرضه عشاء فدخل على امرأته فوجد عندها رجلاً ، فرأى بعينه ، وسمع بأذنيه ، فلم يهجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدت عندها رجلاً ، فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد به ، واجتمعت الأنصار فقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن . فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية وأبطل شهادته في المسلمين فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً فقال : يا رسول الله إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله يعلم إني لصادق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد جلده ، فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم } فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فقال : ابشر يا هلال قد جعل الله لك فرجاً و مخرجاً فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت : كذب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاعنوا بينهما فقيل لهلال اشهد . فشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين ، فلما كان في الخامسة قيل لهلال : فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قيل لها اشهدي .

فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين . فلما كانت في الخامسة قيل لها : اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة فقالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها أن كان من الصادقين . ففرق رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى أنه لا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها من أجل الشهادات الخمس ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس لها قوت ، ولا سكنى ، ولا عدة ، من أجل أنهما تفرقا من غير طلاق ، ولا متوفى عنها » .

وأخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس : « أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " البينة ، أو حدٌّ في ظهرك . فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وإلاَّ حَدٌّ في ظهرك . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل فأنزل الله عليه { والذين يرمون أزواجهم } حتى بلغ { إن كان من الصادقين } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال يشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة . فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الاليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء . فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن » .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرمى امرأته برجل . فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يردده حتى أنزل الله { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } حتى فرغ من الآيتين فأرسل إليهما فدعاهما فقال : إن الله قد أنزل فيكما . . فدعا الرجل فقرأ عليه . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، ثم أمر به فأمسك على فيه ، فوعظه فقال له : كل شيء أهون عليك من لعنة الله . ثم أرسله فقال : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم دعا بها فقرأ عليها . فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها ، فوعظها وقال : ويحك ! كل شيء أهون عليك من غضب الله ، ثم أرسلت فقالت : غضب الله عليها إن كان من الصادقين » .

وأخرج البخاري ومسلم وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي زنت . وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه منكس في الأرض ثم رفع رأسه فقال : قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فائت بها . فجاءت فقال : قم فاشهد أربع شهادات ، فقام فشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين . فقال له : ويلك أو ويحك ! إنها موجبة . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قامت امرأته فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين . ثم قال ويلك أو ويحك ! إنها موجبة . فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ثم قال له : اذهب فلا سبيل لك عليها فقال : يا رسول الله مالي . . ؟ قال : لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها » .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : « سألت عن المتلاعنين أيفرق بينهما ؟ فقال : " سبحان الله ! نعم . . إن أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان قال : يا رسول الله أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك ؟ فسكت فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله هذه الآية في سورة النور { والذين يرمون أزواجهم } حتى بلغ { أَن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } فبدأ بالرجل فوعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال : والذي بعثك بالحق ما كذبتك . ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت : والذي بعثك بالحق أنه لكاذب . فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر قال : كنا جلوساً عشية الجمعة في المسجد فجاء رجل من الأنصار فقال : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً فقتله قتلتموه ، وان تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ، والله لئن أصبحت صالحاً لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسأله فقال : يا رسول الله أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً فقتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ . اللهم احكم . فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول من ابتلى به .

وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن منذر والطبراني عن سهل بن سعد قال : « جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال : سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله أيقتل به ؟ أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل فلقيه عويمر فقال : ما صنعت ؟ فقال : إنك لم تأتني بخير ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأسألنه ، فأتاه فوجده قد أنزل عليه . . فدعا بهما ، فلاعن بينهما قال عويمر : أن انطلق بها يا رسول الله لقد كذبت عليها ، ففارقها قبل أن يخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين ، عظيم الآليتين ، فلا أراه إلا قد صدق . وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة ، فلا أراه إلا كاذباً . فجاءت به على النعت المكروه » .

وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال : « لأوّل لعان كان في الإِسلام أن شريك بن سحماء رماه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربعة شهود ، وإلا فحد في ظهرك . فقال : يا رسول الله إن الله ليعلم أني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الجلد . فأنزل الله آية اللعان { والذين يرمون أزواجهم . . } إلى آخر الآية فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا . فشهد بذلك أربع شهادات بالله ، ثم قال له في الخامسة : لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا . ففعل . ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قومي فاشهدي بالله أنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا . فشهدت بذلك أربع شهادات ، ثم قال لها في الخامسة وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا . قال : فلما كان في الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف . ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت على القول ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : انظروا فإن جاءت به جعداً أخمش الساقين ، فهو لشريك بن سحماء ، وإن جاءت به أبيض سبطاً ، قصير العينين ، فهو لهلال بن أمية ، فجاءت به آدم جعداً أخمش الساقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن » .

وأخرج النسائي وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده « أن رجلاً من الأنصار من بني زريق قذف امرأته ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فرد ذلك عليه أربع مرات . فأنزل الله آية الملاعنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين السائل قد نزل من الله أمر عظيم ؟ فأبى الرجل إلا أن يلاعنها ، وأبت ألا تدرأ عن نفسها العذاب . فتلاعنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما تجيء به أصفر أخمش مفتول العظام فهو للملاعن ، وأما تجيء به أسود كالجمل الأورق فهو لغيره ، فجاءت به أسود كالجمل الأورق ، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله لعصبة أمه وقال : لولا الآيات التي مضت لكان فيه كذا وكذا » .

وأخرج البزار عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر « لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به ؟ قال : كنت - والله - فاعلاً به شراً قال : فأنت يا عمر ؟ قال : كنت - والله - قاتله فنزلت { والذين يرمون أزواجهم . . . } قلت : رجال إسناده ثقات إلا أن البزار كان يحدث من حفظه فيخطئ . وقد أخرجه ابن مردويه والديلمي من هذا الطريق وزاد بعد قوله كنت قاتله قال : فأنت يا سهيل بن بيضاء قال : كنت أقول لعن الله الأبعد فهو خبيث ، ولعن الله البُعْدَى فهي خبيثة ، ولعن الله أوّل الثلاثة أخبر بهذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تأوّلت القرآن يا ابن بيضاء { والذين يرمون أزواجهم } وهذا أصح من قول البزار فنزلت » .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن نفيع « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : أرأيت لو وجدت مع أهلك رجلاً كيف كنت صانعاً ؟ قال : إذاً لقتلته . ثم قال لعمر . . فقال مثل ذلك . فتتابع القوم على قول أبي بكر وعمر . ثم قال لسهيل بن البيضاء . . قال : كنت أقول لعنك الله فأنت خبيثة ، ولعنك الله فأنت خبيث ، ولعن الله أول الثلاثة منا يخرج هذا الحديث . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تأوّلت القرآن يا ابن البيضاء لو قتله قتل به ، ولو قذفه جلد ، ولو قذفها لاعنها » .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { والذين يرمون أزواجهم } قال : هو الرجل يرمي زوجته بالزنا { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } يعني ليس للرجل شهداء غيره أن امرأته قد زنت ، فرفع ذلك إلى الحكام فشهادة أحدهم - يعني الزوج - يقوم بعد الصلاة في المسجد فيحلف أربع شهادات بالله ويقول : أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن فلانة - يعني امرأته - زانية . والخامسة أن لعنة الله عليه - يعني على نفسه - إن كان من الكاذبين في قوله . ويدرأ يدفع الحكام عن المرأة العذاب - يعني الحد - أن تشهد أربع شهادات بالله أنه - يعني زوجها - لمن الكاذبين . فتقوم المرأة مقام زوجها فتقول أربع مرات أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أني لست بزانية ، وإن زوجي لمن الكاذبين . والخامسة أن غضب الله عليها - يعني على نفسها - إن كان زوجها من الصادقين .