9- والأنصار الذين نزلوا المدينة وأقاموا بها ، وأخلصوا الإيمان من قبل نزول المهاجرين بها ، يحبُّون مَن هاجر إليهم من المسلمين ، ولا يحسون في نفوسهم شيئاً مما أوتى المهاجرون من الفيء ، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة ، ومن يُحْفَظ - بتوفيق الله - من بخل نفسه الشديد فأولئك هم الفائزون بكل ما يحبون .
قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } وهم الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار ، أي : المدينة ، اتخذوها دار الهجرة والإيمان ، { من قبلهم } أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين . ونظم الآية : والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم ، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء . { يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة } حزازة وغيظاً وحسداً ، { مما أوتوا } أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ، { ويؤثرون على أنفسهم } أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ، { ولو كان بهم خصاصة } فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون ، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الله بن داود عن فضل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء ؟ فقلن ما معناه : إلا الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يضم أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبيان ، فقال : هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك ، إذا أرادوا عشاءً ، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ، فأنزل الله عز وجل : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحكم بن نافع ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : لا ، فقالوا : تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة ، قالوا : سمعنا وأطعنا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي " . وروي عن ابن عباس قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فأنزل الله عز وجل :{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " . والشح في كلام العرب : البخل ومنع الفضل . وفرق العلماء بين الشح والبخل . روي أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح ، لا يكاد يخرج من يدي شيء ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . وقال ابن عمر : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له . وقال سعيد بن جبير : الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكاة . وقيل : الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه .
أخبرنا الإمام محمد بن أبي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو سعيد خلف ابن عبد الرحمن بن أبي نزار ، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز الفهندري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا القعنبي ، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن القاسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأنا أبي وشعيب قالا : أنبأنا الليث عن يزيد بن الهادي عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً " .
وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ، وينمو قليلا قليلا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان .
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه .
{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها .
ويدل ذلك على أن المهاجرين ، أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة .
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان{[1037]} الصنفان ، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين{[1038]} .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .
( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار ، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم ، وإيثارهم مع الحاجة ، فقال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . أي : سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم .
قال عمر : وأوصي الخليفة [ من ] {[28553]} بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو{[28554]} عن مسيئهم . رواه البخاري هاهنا أيضًا{[28555]} .
وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي : مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم ، يُحبّون المهاجرين{[28556]} ويواسونهم بأموالهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كَفَونا المَؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ! قال : " لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم " {[28557]} .
لم أره في الكتب من هذا الوجه .
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين ، قالوا : لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : " إما لا فاصبروا حتى تلقوني ، فإنه سيصيبكم [ بعدي ] {[28558]} أثرة " .
تفرد به البخاري من هذا الوجه{[28559]}
قال البخاري : حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل . قال : لا . فقالوا : تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة ؟ قالوا : سمعنا وأطعنا . تفرد به دون مسلم{[28560]} .
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف ، والتقديم في الذكر والرتبة .
قال : الحسن البصري : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني : الحسد .
{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة : يعني فيما أعطى إخوانهم . وكذا قال ابن زيد . ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس قال : كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلع رجل من الأنصار تَنظُف{[28561]} لحيته من وضوئه ، قد تَعَلَّق{[28562]} نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى . فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته{[28563]} أيضًا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى{[28564]} فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا ، فإن رأيت أن تؤويني {[28565]} إليك حتى تمضي فعلتُ . قال : نعم . قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي{[28566]} فلم يره يقوم من الليل شيئًا ، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه ، ذكر الله وكبر ، حتى يقوم لصلاة الفجر . قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر{[28567]} ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار{[28568]} يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلعت أنت الثلاث المرار{[28569]} فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير{[28570]} عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا ، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه . قال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق{[28571]} .
ورواه النسائي في اليوم والليلة ، عن سُوَيد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر به {[28572]} وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري ، عن رجل ، عن أنس{[28573]} . فالله أعلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون . قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله في ذلك ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال : وقال رسول الله : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " . فقالوا : أموالنا بيننا قطائع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك ؟ " . قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " هم قوم لا يعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم{[28574]} الثمر " . فقالوا : نعم يا رسول الله{[28575]}
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28576]} يعني : حاجة ، أي : يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك .
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ " . وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } {[28577]} [ الإنسان : 8 ] . وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه . ومن هذا المقام تصدق الصديق ، رضي الله عنه ، بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " . فقال : أبقيت لهم الله ورسوله . وهذا{[28578]} الماء الذي عُرض{[28579]} على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثلث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فُضيل بن غَزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هُرَيرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهدُ ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة ، رحمه الله ؟ " . فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا . فقالت : والله ما عندي إلا قوتُ الصبية . قال : فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة . ففعلَت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لقد عجب الله ، عز وجل - أو : ضحك - من فلان وفلانة " . وأنزل الله عز وجل : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28580]} .
وكذا رواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق ، عن فضيل بن غزوان ، به نحوه{[28581]} . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة ، رضي الله عنه .
وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح .
قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا داود بن قيس الفراء ، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلّم ، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة ، واتقوا الشُحَّ ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم " .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن القَعْنَبِيّ ، عن داود بن قيس ، به{[28582]} .
وقال الأعمش وشعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظُّلْم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفُحْش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ ، وإياكم والشُّحَّ ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " .
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة ، والنسائي من طريق الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مُرّة ، به {[28583]} .
وقال الليث ، عن يزيد [ بن الهاد ]{[28584]} عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن صفوان بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج{[28585]} عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا " {[28586]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح ، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا ! فقال عبد الله : ليس ذلك{[28587]} بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا ، ولكن ذلك{[28588]} البخل ، وبئس الشيء البخل " {[28589]}
وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي " . لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل " ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير{[28590]}
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش ، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بَريء من الشح مَن أدى الزكاة ، وقَرَى الضيف ، وأعطى في النائبة " {[28591]} .
{ والذين تبوءوا الدار والإيمان }عطف على المهاجرين والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما وقيل المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله علفتها تبنا وماء باردا ، وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره من قبلهم من قبل هجرة المهاجرين ، وقيل تقدير الكلام { والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان يحبون من هاجر إليهم }ولا يثقل عليهم { ولا يجدون في صدورهم } في أنفسهم { حاجة }ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ { مما أوتوا }مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، { ويؤثرون على أنفسهم }ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن كان عنده مرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم ، { ولو كان بهم خصاصة } حاجة من خصاص البناء وهي فرجه ، { ومن يوق شح نفسه }حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق ، { فأولئك هم المفلحون }الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل .
الأظهر أن { الذين } عطف على { المهاجرين } [ الحشر : 8 ] أي والذين تبوّؤا الدار . والذين تبوّؤا الدار هم الأنصار .
والدّار تطلق على البلاد ، وأصلُها مَوضع القبيلة من الأرض . وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود { فأصبحوا في دَارهم جاثمين } [ الأعراف : 78 ] ، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود .
والتعريف هنا للعهد لأن المراد بالدار : يثرب ، والمعنى الذين هم أصحاب الدار . هذا توطئة لقوله : { يحبون من هاجر إليهم } .
والتبوُّء : اتخاذ المباءة وهي البُقعة التي يَبوء إليها صاحبها ، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله . وفي موقع قوله : { والإيمان } غموض إذ لا يصح أن يكون مفعولاً لفعل تبوَّءوا ، فتأوله المفسرون على وجهين : أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإِيمان بالمَنْزل وجعْل إثبات التَّبَوُّءِ تخييلاً فيكون فعل تبوأوا مستعملاً في حقيقته ومجازه .
وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملاً مقدراً يدلّ عليه الكلام ، تقديره : وأخلصوا الإِيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف :
علفتها تبناً وماءً بارداً{[414]}
وقول عبد الله بن الزِّبَعْرَى :
يا ليت زوجَككِ قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحاً
أي وممسكاً رمحاً وهو الذي درج عليه في « الكشاف » . وقيل الواو للمعية . و { الإِيمانَ } مفعول معه .
وعندي أن هذا أحسن الوجوه ، وإن قلّ قائلوه . والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعياً فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج آيات القرآن عليه حتى ادعى ابن هشام في « مُغني اللبيب » أنه غير واقع في القرآن بيقين . وتأول قوله تعالى : { فأَجمِعُوا أمرَكم وشركاءَكم } [ يونس : 71 ] ، ذلك لأن جمهور البصريين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العاملَ في الاسم الذي صاحَبَه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافاً للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى ( مع ) . وقال عبد القاهر : منصوب بالواو .
والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولاً للفعل ، ألا ترى صحة قول القائل : استوى الماء والخشبةَ . وقولهم : سرْتُ والنيلَ ، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارُهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذٍ غيرها .
وبذلك يتضح أن متعلق { من قبلهم } فعل { تبوؤا } بمفرده ، وأن المجرور المتعلق به قيدٌ فِيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو المعية في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور .
وفي ذكر الدار ( وهي المدينة ) مع ذكر الإِيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبوّءهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإِيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق . فقال : إن المدينة تبوّئت بالإِيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ : { والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم } الآية .
وجملة { يحبون من هاجر إليهم } حال من الذين تَبَوَّؤُوا الدار ، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإِسلام إذ أحبوا المهاجرين ، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم .
ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في « الصحيح » من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن يَنزل له عن إحدى زوجتيه ، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم ، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .
وقوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } أريد بالوجدان الإِدراك العقلي ، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر :
والحاجة في الأصل : اسم مَصدرِ الحَوْج وهو الاحتياج ، أي الافتقار إلى شيء ، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، وهي هنا مجاز في المأْرب والمرادِ ، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى : { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } [ غافر : 80 ] ، أي لتبلغوا في السفر عليها المأْرب الذي تسافرون لأجله ، وكقوله تعالى : { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } [ يوسف : 68 ] أي مأربا مُهمّا وقول النابغة :
أيامَ تخبرني نُعْمٌ وأَخْبِرُها *** ما أكتُم الناسَ من حاجِي وإسراري
وعليه فتكون ( مِن ) في قوله : { مما أوتوا } ابتدائية ، أي مأرباً أو رغبة ناشئة من فَيْء أُعْطِيهُ المهاجرون . والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك .
و ( ما أوتوا ) هو فيء بني النضير .
وضمير { صدورهم } عائد إلى { الذين تَبَوَّؤُا الدار } ، وضمير { أوتوا } عائد إلى { من هاجر إليهم } ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى ( مَنْ ) بدون لفظها . وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربَين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل ( ما ) في قوله تعالى : { وعمروها أكثر مما عمروها } في سورة [ الروم : 9 ] . وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سُليم على هَوازن :
عُدنا ولولا نَحنُ أحدَق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جمَّعوا
( أي أحرز جيش هوازن ما جمّعه جيش المسلمين ) .
والمعنى : أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيْء بني النضير .
ويجوز وجه آخر بأن يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات . ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون ، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بَلْهَ أن يتطلبوه .
وتكون ( مِن ) في قوله تعالى : { مما أوتوا } للتعليل ، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون ، أو ابتدائية ، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئِه المعتادة في الناس تبعاً للمنافسة والغبطة ، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير : ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون .
والإيثار : ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة .
والمعنى : يُؤثرونَ على أنفسهم في ذلك اختياراً منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } فلذلك عقب به ولم يُذكر مفعول { يُؤثِرونَ } لدلالة قوله : { مما أوتوا } عليه .
ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في « الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا : لا إلا أن تقطع لإِخواننا من المهاجرين مثلها .
وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : « أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد . فأرسل في نسائه فلم يجد عندهنّ شيئاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألاَ رجل يُضيف هذا الليلةَ رحمه الله ، فقام رجل من الأنصار ( هو أبو طلحة ) فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله فقال لامرأته : هذا ضيف رسول الله لا تدَّخريه شيئاً ، فقالت : والله ما عندي إلا قُوتُ الصِبية . قال : فإذا أراد الصبية العَشاء فنوِّميهم وتعالَي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة . فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تُري أنككِ تصلحينه فأطفئيه وأَرِيه أنَّا نأكل . فقعدوا وأكل الضيف .
وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير ، قيل : نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك .
وجملة { ولو كان بهم خصاصة } في موضع الحال .
و { لو } وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يُظنّ حصول الجواب عند حصولها . والتقدير : لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيُعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع . وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] .
وتذكير فعل { كان } لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقياً ، ولأنه فُصل بين { كان } واسمها بالمجرور . والباء للملابسة .
وجملة { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } تذييل ، والواو اعتراضية ، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح . وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } .
والشح بضم الشين وكسرها : غريزة في النفس بمَنْع ما هو لها ، وهو قريب من معنى البخل . وقال الطيبي : الفرق بين الشح والبخل عسير جداً وقد أشار في « الكشاف » إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بَذْلُه وقد قال تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } [ النساء : 128 ] أي جعل الشح حاضراً معها لا يفارقها ، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس .
وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة « أن تصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمُل الغِنى » ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه . قال وقد أحسن وصفه من قال ، لم أقف على قائله :
يمارس نفساً بين جَنْبَيْه كَزَّةً *** إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلاً
فمن وقي شح نفسه ، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقاً له ، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه . فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه .
واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس .
وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى .
ومن المفسرين من جعل { والذين تبوؤا الدار } ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظاً في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } [ الحشر : 7 ] على قرى خاصة هي : قريظة . وفَدَك ، وخيبر . والنفع ، وعُرينة ، ووادي القُرى ، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئَها قال للأنصار : " إن شئتم قاسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا " ؟ فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت آيةُ { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية [ الحشر : 7 ] .
ومنهم من قصر هذه الآية على فَيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه . وعلى هذا التفسير يكون عطف { والذين تبوؤا الدار } عطفَ جملةٍ على جملة ، واسم الموصول مبتدأ وجملة { يحبون من هاجر إليهم } خبراً عن المبتدأ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الأنصار، فأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ جعل المهاجرين دونهم. فقال: {والذين تبوءوا الدار} يعني أوطنوا دار المدينة من قبل هجرة المؤمنين، إليهم بسنين.
ثم قال: {والإيمان من قبلهم} من قبل هجرة المهاجرين.
ثم قال: للأنصار: {يحبون من هاجر إليهم} من المؤمنين.
{ولا يجدون في صدورهم} يعني قلوبهم.
{حاجة مما أوتوا} يعني مما أعطى إخوانهم المهاجرين من الفيء.
{ويؤثرون على أنفسهم} يقول: لا تضيق.
{ولو كان بهم خصاصة} يعني الفاقة. فآثروا المهاجرين بالفيء على أنفسهم.
ثم قال: {ومن يوق شح نفسه} يعني ومن يقيه الله حرص نفسه، يعني الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء لإخوانهم.
فقد ذهب صنفان: المهاجرون والأنصار، وبقي صنف واحد، وهم التابعون الذين دخلوا في الإسلام إلى يوم القيامة...
ابن العربي: قال ابن وهب: سمعت مالكا وهو يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق. فقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ الآية: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} الآية. –
ابن رشد: قال مالك، زعموا أن عبد الرحمن بن عوف، اتبعه رجل في الطواف أي حول البيت فرآه يكثر من قوله: اللهم قني شح نفسي، فلما فرغ قال له الرجل: رأيتك تطوف فتقول: اللهم قني شح نفسي فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ} يقول: اتخذوا المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فابتنوها منازل، "وَالإيمَانَ" بالله ورسوله {مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: من قبل المهاجرين.
{يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ}: يحبون من ترك منزله، وانتقل إليهم من غيرهم، وعُنِي بذلك: الأنصار يحبون المهاجرين. قال محمد بن عمرو: سفاطة أنفسهم. وقال الحارث: سخاوة أنفسهم عندما روى عنهم من ذلك، وإيثارهم إياهم، ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء.
وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا} يقول جلّ ثناؤه: ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم، وهم الأنصار في صدورهم حاجة، يعني حسدا مما أوتوا، يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، إلا رجلين من الأنصار، أعطاهما لفقرهما، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يحبون من هاجر إليهم} يعني أن الله تعالى ألقى محبتهم في قلوبهم حتى أنزلوا المهاجرين ديارهم، وأنفقوا عليهم أموالهم.
{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} يعني أن الله تعالى أغنى قلوبهم حتى لا يفكروا في حاجة ولا فقر البتة. ويحتمل أن يكون المعنى من الحاجة ههنا الغل والحسد؛ يعني أن الله تعالى طهر قلوبهم حتى لم يجدوا في صدورهم حاجة...
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} إن الله تعالى خلق في طبع البشر محبة المحاسن والمنافع والطلب لها، وبغض المساوئ والمضار والهرب عنها. ثم إنه امتحنهم بالإنفاق مما يحبون وحمل النفس على ما يكرهون طلبا لنجاتهم وتوصلا إلى ثوابهم. ثم تكون وقاية الأنفس من الشح بوجهين:
أحد هما: أن يمن الله على عبده ليصير ما هو غائب عنه من الثواب في الأجل كالشاهد، فيخفف عليه الإنفاق مما يحب، ويصير ذلك كالطبع له.
والثاني: يوفقه الله تعالى، ويعصمه، ويلهمه تعظيم أمره ونهيه حتى يقهر نفسه، ويحملها على الائتمار بأمر الله تعالى والانتهاء عما نهى عنه، وإن كان طبعها على خلاف ذلك.
ثم إضافة الوقاية إلى نفسه تدل على أنه قد بقي في خزائنه شيء، لم يؤته عبده حتى يصف نفسه بأنه بقي عنده شح نفسه، ولولا ذلك لم يكن لوعده بوقاية نفسه عن شحها معنى، والله أعلم.
{فأولئك هم المفلحون} يعني الباقون في النعيم. والفلاح في الحقيقة، هو البقاء في النعيم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... قال ابن عباس: "قال رسول الله (صلى الله عليه سلم) يوم النضير للأنصار: " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة". فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها " فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل. وقال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس. عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: " اللهم إنيّ أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها". عن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الشحّ؛ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والخصاصة: الحاجة التي يختل بها الحال.
والشح والبخل واحد. وفى أسماء الدين هو منع الواجب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً}
ولا يَعْترِضون بقلوبهم على حُكْمِ الله بتخصيص المهاجرين، حتى لو كانت بهم حاجةٌ أو اختلالُ أحوالٍ.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ومن يوق شح نفسه} من حفظ من الحرص المهلك على المال، وهو حرص يحمله على امساك المال عن الحقوق، والحسد، {فأولئك هم المفلحون}.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله: (والإيمان) أي: جعلوا دورهم دور الإيمان، وذلك بإظهارهم الإيمان فيما بينهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين تَبَوَّءُوا} معطوف على المهاجرين، وهم الأنصار، فإن قلت: ما معنى عطف الإيمان على الدار، ولا يقال: تبوّؤا الإيمان؟ قلت: معناه تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان أو: وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك. أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان.
{مِن قَبْلِهِمُ} من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوّئ دار الهجرة والإيمان.
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي خلة «الشح» بالضم والكسر: اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها. وأما البخل فهو المنع نفسه. ومنه قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} [النساء: 128].
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}: ومن غلب ما أمرته به منه، وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الظافرون بما أرادوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم {يحبون} المهاجرين، وبأنهم {يؤثرون على أنفسهم}، وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم؛ لأن مقتضى قوله: {ومن يوق شح نفسه}: أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح. و «شح النفس»: هو كثرة منعها وضبطها على المال، والرغبة فيه، وامتداد الأمل، هذا جماع شح النفس، وهو داعية كل خلق سوء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدى الزكاة المفروضة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة، فقد برئ من الشح».
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [دُنْيَا، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] وَقَالَ: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
المسألة الْخَامِسَةُ: الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ.
المسألة السَّادِسَةُ: الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ، وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبِلَ من أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ، لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ».
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير؛ لقد كَفَونا المَؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: "لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم".
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ". وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]؛ فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما مدح المهاجرين وأعطاهم، فطابت نفوس الأنصار بذلك... أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم، فقال عاطفاً على مجموع القصة: {والذين تبوؤا} أي جعلوا بغاية جهدهم {الدار} الكاملة في الدور، وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة، وجعلها دائرة على جميع البلدان، محيطة بها، غالبة عليها، محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم، لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها أصلاً، فهي محل مناه، وليست موضعاً يهاجر منه لبركتها أو خيرها. ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم، قال مضمناً "تبوأوا " معنى لازم: {والإيمان} أي و لابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه، ويجوز أن يكون الإيمان وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى التمكن في كل من الوصفين، فيكون كأنه قيل: تبوأوا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان، لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان، فلشدة ملابستها له سميت به، ويجوز أن يكون المعنى: ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها، بل محبة في الإيمان، علماً منهم بأنه لا يتم بدره، ويكمل شرفه وقدره، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها، ولولا ذلك لهجروها وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله، فهو مدح لهم بأنهم متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل.
{من قبلهم} أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة.
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل، أخبر عنهم بقوله: {يحبون} أي على سبيل التجديد والاستمرار، وقيل العطف على المهاجرين، {من هاجر} وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله: {إليهم} لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه، والدليل الشهودي على ما أخبر الله عنهم به من المحبة، أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم، وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء، وقبلوا منهم الأموال.
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال: {ولا يجدون} أي أصلاً {في صدورهم} التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم.
ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجرين، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة، وكان كل أحد يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض، قال: {حاجة} موقعاً اسم السبب على المسبب {مما أوتوا} أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان، فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء، محذر من الحسد والاستياء.
ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل، أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال:
{ويؤثرون} عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى: يوقعون الأثرة، وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها، لا على أحبائهم مثلاً بل {على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم {كائناً} من كان ما في أيديهم، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل، لأن النفس إذا طهرت كان القلب أطهر، وأكد ذلك بقوله: {ولو كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب.
ولما كان التقدير: فمن كان كذلك فهو من الصادقين: عطف عليه قوله: {ومن} ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت، وكان علاج الرذائل صعباً جداً، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة، بنى للمفعول قوله: {يوق شح نفسه} أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس، وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده، حريصاً على ما عند غيره حسداً، قال ابن عمر رضي الله عنه: الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له.
ولما كان النظر إلى التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً، سبب عنه إفهاماً لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله {فأولئك}: أي العالو المنزلة {هم} أي خاصة لا غيرهم {المفلحون} أي الكاملون في الفوز بكل مراد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار. هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاما طائرة، ورؤى مجنحة، ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها، لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم، ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم، أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون، فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون، بَلْهَ أن يتطلبوه.
{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس، فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأضيف في هذه الآية إلى النفس، لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس. ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار، فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم، ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه.فمن وقي شح نفسه، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقاً له، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه. واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس. وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى.
... ولم يقف الأمر بالأنصار عند هذا الكرم والجود وإنما تعدّاه إلى الإيثار قال تعالى بعدها: {ويُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِم ولوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصةٌ.. 9} [الحشر] فالجود أنْ تعطى بعض ما عندك، أما الإيثار فأنْ تعطى كلّ ما عندك ولا تُبقي على شيء.
فالأنصار كانوا يُؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويُعطونهم ما يحتاجونه.
وكلمة (خصاصة) مأخوذة من (الخُص) وهو عشة صغيرة يصنعونها من عيدان الحطب، فهو شبه البيت لكنه لا يحمي صاحبه ولا يصون أهله، لذلك فهو بيت الفقير الذي لا يستطيع البناء.
فالخصاصة أي الفقر الشديد، فرغم ما كان بهم من الفقر والحاجة إلا أنهم كانوا يُؤثرون إخوانهم على أنفسهم. وقلنا إنهم أي الأنصار قدّموا لنا نموذجاً للعطاء لم يسبق له مثيل على مرّ التاريخ.
ثم تُقرر الآيات هذه الحقيقة {ومَن يوقَ شُحَّ نفْسه فأولئك هُمُ المُفلِحُون} المفلح من وقاه الله وجنّبه هذه الصفة الذميمة، وكلمة الشح البعض يقول البخل، لكن الشحّ أعم وأشدّ من البخل لأن البخل ينشأ عنها، نقول: شحّ الشيء إذا قلّ، وما دام قلَّ فلا بد أنْ تحافظ على هذا القليل حتى لا ينتهي وينفد من بين يديك.
فالشح إذن يُدخل في جوارحك وتصرفاتك البخل، ونستطيع أن نقول: الشح طبع القلب، والبخل طبع القالب.
كلمة {المُفْلِحُون} مأخوذة من فلاحة الأرض واستخراج خيراتها، لذلك نقول في الأذان: حيّ على الفلاح. أي: الفوز بكلّ خير.