قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } الآية نزلت في مقيس بن صبابة الكندي ، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام ، فوجد أخاه هشام قتيلاً في بني النجار ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلاً من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام ابن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه ، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا : سمعاً وطاعة لله ولرسوله ، والله ما نعلم له قاتلاً ، ولكنا نؤدي ديته ، فأعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيساً فوسوس إليه ، فقال : تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة ، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية ، فتغفل الفهري ، فرماه بصخرة فقتله ، ثم ركب بعيراً وساق بقيتها راجعاً إلى مكة كافراً ، فنزل فيه ، { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } . قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالداً فيها } ، بكفره وارتداده ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، عمن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .
قوله تعالى : { وغضب الله عليه ولعنه } أي : طرده عن الرحمة .
قوله تعالى : { وأعد له عذاباً عظيماً } . اختلفوا في حكم هذه الآية . فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له ، فقيل له : أليس قد قال الله في سورة الفرقان : { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } إلى أن قال { ومن يفعل ذلك يلق أثاما*يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا*إلا من تاب } [ الفرقان : 67-70 ] فقال : كانت هذه في الجاهلية ، وذلك أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلا من تاب وآمن } فهذه لأولئك .
وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ، ثم قتل مسلما متعمدا فجزاؤه جهنم . وقال زيد بن ثابت : لما نزلت التي في الفرقان { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } عجبنا من لينها ، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة ، فنسخت اللينة ، وأراد بالغليظة هذه الآية ، وباللينة آية الفرقان . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تلك آية مكية ، وهذه مدنية . نزلت ولم ينسخها شيء .
والذي عليه الأكثرون ، وهو مذهب أهل السنة : أن قاتل المسلم عمداً توبته مقبولة . لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [ طه :82 ] وقال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء :48 ] وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل ، كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم جاء يقال : لك توبة ، ويروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر ، لأن الآية نزلت في قاتل هو كافر ، وهو مقيس بن صبابة ، وقيل : إنه وعيد لمن قتل مؤمناً مستحلاً لقتله بسبب إيمانه ، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافراً مخلداً في النار ، وقيل في قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالداً فيها } معناه : هي جزاؤه إن جازاه ، ولكنه إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له بكرمه ، فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء .
حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له : هل يخلف الله وعده ؟ فقال :لا ، فقال : أليس قد قال الله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها } ؟ فقال له أبو عمرو بن العلاء : من العجم أتيت يا أبا عثمان ؟أن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفاً وذماً ، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفاً وذماً ، وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ، ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمن ، أنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه -وكان شهد بدراً وهو أحد النقباء ليلة العقبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ) . فبايعناه على ذلك .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الآية ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك ، وكان من أهل فدك مسلماً لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم ، وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي ، فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين ، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً ، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقتلتموه إرادة ما معه ؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد ، فقال : يا رسول الله استغفر لي ، فقال : فكيف بلا إله إلا الله ؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات . قال أسامة : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : أعتق رقبة . وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنما قال خوفاً من السلاح ، قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا ؟
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له ، فسلم عليهم ، قالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم ، فقاموا وقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله }
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }
تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي ، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة ، وتنزعج منه أولو العقول .
فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله ، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم ، أي : فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ، والخزي المهين ، وسخط الجبار ، وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار . فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته .
وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة .
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين . والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق : شمس الدين بن القيم رحمه الله في " المدارج " فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال : وقالت فِرقَة : هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه .
وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها ، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص .
فالتوبة مانع بالإجماع ، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها ، والحسنات العظيمة الماحية مانعة ، والمصائب الكبار المكفرة مانعة ، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص ، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين .
ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها .
قالوا : وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما . وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا ، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما .
فالقوة مقتضية للصحة والعافية ، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة ، وفعل القوة والحكم للغالب منهما ، وكذلك قوى الأدوية والأمراض . والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب ، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه ، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له .
ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار ، وعكسه ، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه . ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي عين .
ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه ، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه ، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره .
وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب ، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه ، وهذا من أحب الخلق إلى الله . انتهى كلامه قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .
ذلك القتل الخطأ . فأما القتل العمد ، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان ؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة ؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله :
( من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه . وأعد له عذابا عظيمًا ) . .
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة ، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم . إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها .
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة ؛ واتجه بعضهم - ومنهم ابن عباس - إلى أنه لا توبة منها . . ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . . فرجا للقاتل التائب المغفرة . . وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل .
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى ، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم ، - قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة . ولكنهم لا يفكرون في قتلهم . لا يفكرون مرة واحدة ؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة . بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام .
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ ، شرع في بيان حكم القتل العمد ، فقال : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ] }{[8016]} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول ، سبحانه ، في سورة الفرقان : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [ وَلا يَزْنُونَ ]{[8017]} } الآية [ الفرقان : 68 ] وقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ إلى أن قال :
{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }{[8018]} [ الأنعام : 151 ] .
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا . من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " {[8019]} وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن مُعنقا{[8020]} صالحا ما لم يصب دما حراما ، فإذا أصاب دما حراما بَلَّح " {[8021]} وفي حديث آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " {[8022]} وفي الحديث الآخر : " لو أجمع{[8023]} أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله في النار " {[8024]} وفي الحديث الآخر : " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله " {[8025]} .
وقد كان ابن عباس ، رضي الله عنهما ، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن .
وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا مغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فَرَحَلْتُ إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [ خَالِدًا ]{[8026]} } هي آخر ما نزل{[8027]} وما نسخها شيء .
وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق ، عن شعبة ، به{[8028]} ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في{[8029]} قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال : لم ينسخها شيء .
[ وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قال عبد الرحمن بن أبزة : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال : لم ينسخها شيء ]{[8030]} وقال في هذه الآية : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] {[8031]} } [ الفرقان : 68 ] قال نزلت في أهل الشرك{[8032]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، حدثني سعيد بن جبير - أو حدثنى الحكم ، عن سعيد بن جبير - قال : سألت ابن عباس عن قوله [ تعالى ]{[8033]} { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .
حدثنا ابن حميد ، وابن وَكِيع قالا حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن أبي الجَعْد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كُف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده ! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " ثكلته أمه ، قاتل مؤمن{[8034]} متعمدا ، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دمًا في قُبُل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى ، يقول : سل هذا فيم قتلني " {[8035]} ؟ وايم الذي نفس عبد الله بيده ! لقد أنزلت هذه الآية ، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدها من برهان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت يحيى بن المُجَبَّر يحدث عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا أتاه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا ؟ فقال : { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ]{[8036]} } قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة . وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : " ثكلته أمه ، رجل قتل رجلا متعمدا ، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره - وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله - تَشْخَب أوداجه دما من قبل العرش يقول : يا رب ، سل عبدك فيم قتلني ؟ " .
وقد رواه النسائي عن قتيبة{[8037]} وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمار الدُّهني ، ويحيى الجابر وثابت الثمالي{[8038]} عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، فذكره{[8039]} وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة .
وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف : زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبيد بن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم .
وفي الباب أحاديث كثيرة : من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البُوشَنْجي وحدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا مُعْتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو بن شُرَحْبِيل ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة ، آخذًا رأسه بيده الأخرى فيقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول : قتلته لتكون العزة لك . فيقول : فإنها لي " . قال : " ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول قتلته لتكون العزة لفلان " . قال : " فإنها ليست له بؤْ بإثمه " . قال : " فيهوى في النار سبعين خريفا " .
وقد رواه عن النسائي ، عن إبراهيم بن المُسْتَمِرِّ العَوْفي ، عن عمرو بن عاصم ، عن معتمر بن سليمان ، به{[8040]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به{[8041]} .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا سَمُّوَيْه ، حدثنا عبد الأعلى بن مُسْهِر ، حدثنا صَدَقَةُ بن خالد ، حدثنا خالد بن دِهْقان ، حدثنا ابن أبي زكريا قال : سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا " .
وهذا غريب جدا من هذا الوجه . والمحفوظ حديث معاوية المتقدم{[8042]} فالله أعلم .
ثم روى ابن مَردويه من طريق بَقَيَّةَ بن الوليد ، عن نافع بن يزيد ، حدثني ابن جبير الأنصاري ، عن داود بن الحُصَين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل " .
وهذا حديث منكر أيضا ، وإسناده تُكُلم{[8043]} فيه جدا{[8044]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي ، فقال لنا : هلما فأنتما أشب شيئًا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بِشْر بن عاصم - فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك . فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فأغارت على قوم ، فشد من القوم رجل ، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم : إني مسلم . فلم ينظر فيما قال ، فضربه فقتله ، فَنَمَى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ، فبلغ القاتلَ . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذ قال القاتلُ : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضا : يا رسول الله ، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم لم يصبر ، فقال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل .
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعْرف المساءةُ في وجهه ، فقال : " إن الله أبى على من قتل مؤمنا " ثلاثًا .
ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة{[8045]}
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته .
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ]{[8046]} . إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[8047]} } [ الفرقان : 68 ، 69 ] وهذا خبر لا يجوز نسخه . وحمله على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .
وقال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ]{[8048]} } [ الزمر : 53 ] وهذا عام في جميع الذنوب ، من كفر وشرك ، وشك ونفاق ، وقتل وفسق ، وغير ذلك : كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه .
وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] . فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم .
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ! ثم أرشده إلى بلد يَعْبد الله فيه ، فهاجر إليه ، فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة . كما ذكرناه غير مرة ، إن{[8049]} كان هذا في بني إسرائيل فَلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة . فأما الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ]{[8050]} } فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه ، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا ، من طريق محمد بن جامع العطار ، عن العلاء بن ميمون العنبري ، عن حجاج الأسود ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولكن لا يصح{[8051]} ومعنى هذه الصيغة : أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط . وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب . وبتقدير دخول القاتل إلى النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا{[8052]} ينجو به ، فليس يخلد فيها أبدًا ، بل الخلود هو المكث الطويل . وقد تواردت{[8053]} الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة{[8054]} من إيمان . وأما حديث معاوية : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " : " عسى " للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفي وقوع ذلك في أحدهما ، وهو القتل ؛ لما ذكرنا من الأدلة . وأما من مات كافرا ؛ فالنص أنه لا يغفر له البتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغضوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة ، وقد{[8055]} يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به{[8056]} الجنة ، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء ، من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم .
ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة{[8057]} أما [ في ]{[8058]} الدنيا فتسلط{[8059]} أولياء المقتول عليه ، قال الله تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ]{[8060]} } [ الإسراء : 33 ] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا : ثلاثون حِقَّة ، وثلاثون جَذْعَة ، وأربعون خَلِفَه{[8061]} كما هو مقرر{[8062]} في كتب الأحكام .
واختلف الأئمة : هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ؟ على أحد القولين ، كما تقدم في كفارة الخطأ ، على قولين : فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم ، يجب{[8063]} عليه ؛ لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى . وطردوا هذا في كفارة اليمين الغَمُوس ، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا ، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ .
قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر ، فلا كفارة فيه ، وكذا اليمين الغموس ، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا ، فإنهم يقولون : بوجوب قضائها وإن تركت عمدًا .
وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة ، عن الغَرِيف بن عياش ، عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب . قال : " فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضوا{[8064]} منه من النار " {[8065]} .
وقال أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة ، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغَريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا : حدثنا حديثا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، فقال : " أعتقوا عنه ، يُعْتق الله بكل عضو منه عضوا{[8066]} منه من النار " .
وكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، به{[8067]} ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي{[8068]} قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان . فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار " {[8069]} .
{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } لما فيه من التهديد العظيم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . " لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا " . ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه . والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب } ونحوه وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم .
«المتعمد » في لغة العرب القاصد إلى الشيء ، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه ،
وقالت فرقة : «المتعمد » كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور وهو الأصح ، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد ، ورأوا فيه تغليظ الدية ، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء ، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمداً وخطأ لا غير ، والقتل بالسم عنده عمد ، وإن قال ما أردت إلا سكره ، وقوله :
{ فجزاؤه جهنم } تقديره عند أهل السنة ، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره ، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[4201]} وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يرد نزلت { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء 48-116 ] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتماً على كل قاتل يقتل مؤمناً ، ويرونه عموماً ماضياً لوجهه ، مخصصاً للعموم في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 و 116 ] كأنه قال : إلا من قتل عمداً{[4202]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وأهل الحق يقولون لهم : هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين ، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقرأ بالقتل عمداً ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قوداً ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعاً متركباً . على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت ، ( أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له ){[4203]} ، وهذا نقض للعموم ، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم ، بل لفظ مشترك يقع كثيراً للخصوص ، كقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }{[4204]} وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه ، وكقول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] : [ الطويل ]
وَمَنْ لا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ *** يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ{[4205]}
وهذا إنما معناه الخصوص ، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم ، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب ، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه ، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان ، ومراده باللينة قوله تعالى : { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }{[4206]} ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال : أنزلت الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 -116 ] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص ، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن ، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن صبابة{[4207]} ، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتداً ، وجعل ينشد : [ الطويل ]
قَتَلْتُ بِهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ . . . سراةَ بني النَّجَّارِ أربابَ فَارِعِ
حَللْتُ بِهِ وِتْرِي وأدْرَكْتُ ثورتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجِعِ{[4208]}
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا في حرم » وأمر بقتله يوم فتح مكة ، وهو متعلق بالكعبة ، وإما{[4209]} أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال { متعمداً } معناه مستحلاً لقتله . فهذا يؤول أيضاً إلى الكفر ، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل ، فجزاؤه_إن جازاه_ ويكون قوله { خالداً } إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك ، ويدل على هذا سقوط قوله «أبداً » فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار .
واختلف العلماء في قبول توبة القاتل ، فجماعة على أن لا تقبل توبته ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر ، وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل مبهمان{[4210]} ، من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان ، إذ الفرقان مكية{[4211]} والجمهور على قبول توبته ، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحياناً ، فيطلقون : لا تقبل توبة القاتل ، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له : توبتك مقبولة ، وإذا سأله من لم يفعل ، قال له : لا توبة للقاتل ، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلاً سأله أللقاتل توبة ؟ فقال له : لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم ، فلما مضى السائل قال له أصحابه : ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة ، فقال لهم : إني رأيته مغضباً وأظنه يريد أن يقتل ، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه ، فإذا هو كذلك . وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 - 116 ] وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر ، فإنهما قالا : هي محكمة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفيما قاله هبة الله نظر ، لأنه موضع عموم وتخصيص ، لا موضع نسخ ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل ، والله أعلم .
هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل ، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس ، وإنّما أخّر لتهويل أمره ، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } [ النساء : 92 ] .
والمتعمّد : القاصد للقتل ، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب . والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس ، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء . ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء : القتل نوعان عمد وخطأ ، وهو الجاري على وفق الآية ، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد ، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية ، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه . وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة{[217]} وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار ، ولم يُعرف قاتله ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل ، دية أخيه ، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله ، واستاق الإبل ، وانصرف إلى مكة كافراً ، وأنشد في شأن أخيه :
قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَــه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع{[218]}
حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أوّلَ راجع
وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة ، فقتِل بسوق مكة .
وقوله : { خالداً فيها } مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً ، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله ، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر ، على قول علمائنا من أهل السنّة ، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث ، وهو استعمال عربي . قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :
ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضِ عامِرا
ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر ، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة .
وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً ، كما تَرِد على غيرها من الكبائر ، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية : فروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس : أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة ، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به ، أخذاً بهذه الآية ، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال : آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس ، فسألتُه عنها ، فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية .
هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء ، فلم يأخذ بطريق التأويل . وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس : فحمله جماعة على ظاهره ، وقالوا : إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل ، فقد نَسخَت الآياتِ التي قبلها ، التي تقتضي عموم التوبة ، مثل قوله : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 116 ] ، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله { واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، ومثل قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 68 ، 69 ] . والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره ، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة . فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه ، وهو طولُ المدّة في العقاب ، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد ، وكيف يُحرم من قبول التوبة ، والتوبةُ من الكفر ، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة ، فكيف بما هو دونه من الذنوب .
وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر ، لئلاّ يجترىء الناس على قتل النفس عمداً ، ويرجون التوبة ، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال : « ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة » فقال : « لاَ إلاّ النار » ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه « أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة » فقال : « إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً » ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك . وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له : « توبتُك مقبولة » وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس ، قال له : لا توبةَ للقاتل .
وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد : من محامِل التأويل ، أو الجمععِ بين المتعارضات ، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان ( 68 ، 69 ) :
{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلاّ من تاب } لأنّ قوله : ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها . ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء . ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة . وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، بناء على أنّ عموم { من يشاء } نَسَخ خصوصَ القتل . وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسٍ بن صُبابة ، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ « من » شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه . وهذه كلّها ملاجىء لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر . على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود . إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض . وهو الوعيد ، لا أنواعه . وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة . وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله، مريدا إتلاف نفسه، {فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ}: فثوابه من قتله إياه جهنم، يعني: عذاب جهنم، {خَالدا فيها}: باقيا فيها. والهاء والألف في قوله: «فيها» من ذكر جهنم.
{وَغَضبَ اللّهِ عَلَيْهِ}: وغضب الله عليه بقتله إياه متعمدا،
{وَلَعَنَهُ}: وأبعده من رحمته وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره.
واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحقّ صاحبه أن يسمّى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحدّ حديد يجرح بحدّه، أو يَبْضَع ويقطع، فلم يقلع عنه ضربا به، حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك؛ فقال بعضهم: لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا. قال عطاء: العمد: السلاح أو قال: الحديد.
وقال آخرون: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل. عن عبيد بن عمير، أنه قال: وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت.
عن إبراهيم، قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود.
وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ، ما:
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كُلّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلاّ السّيْفَ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ».
وعلة من قال: حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد، ما:
حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا أبو الوليد، قا: حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقتله بين حجرين.
قالوا: فأقاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد. قالوا: وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين.
والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء¹ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها} فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه؛ فقال بعضهم: معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه.
وقال آخرون: عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاّ قتله، فجزاؤه جهنم خالدا فيها... عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الدية قبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج وقال غيره: ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا، فضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أظُنّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا، أمَا وَاللّهِ لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمّنُهُ فِي حِلّ وَلا حَرَمٍ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ» فقتل يوم الفتح، قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا...}
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب. عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد، فقال: إلا من ندم.
وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله. قالوا: فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في سورة الفرقان...
عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأني له التوبة والهدي، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «ثَكِلَتْهُ أُمّهُ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمّدا، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرّحْمَنِ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى يقولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَتَنِي». والذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدهما من برهان.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما} فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحا؟ فقال: وأنّى له التوبة!.
وقال [ابن عباس] في هذه الآية: {وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما} قال: نزلت في أهل الشرك.
عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا} قال: ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله.
وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه -إنْ جزاه- جهنم خالدا فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا}.
فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله: {إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} والقتل دون الشرك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} لدينه، يقتله عمدا غير غالط ولا جاهل عالما بذلك، وإلى قتله ليدينه قاصدا، ومن كان هذه صفته فقد كفر، ووجب له هذا الوعيد الذي ذكره في كتابه الكريم إلا أن يجدد إيمانه، فإن الله تعالى يقبل إيمانه وتوبته...
ثم الدليل أن الآية في من قتل مسلما لدينه قاصدا لنفسه دون دينه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة: 178) وإنما كتب عليهم إذا كان القتل قتل عمد، وأبقى لهم بعد القتل اسم الإيمان. ثم قال: {فمن عفي له من أخيه شيء} فأبقى لهم اسم الأخوة. ثم قال: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} أطمعه في رحمته عز وجل، وبعيد أن يكون له مع هذا خلود في النار. فدلت الآية على بقاء اسم الإيمان وعلى رجاء الرحمة،... وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كان في من قبلكم رجل قتل تسعا وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه، فقال: إني قتلت تسعا وتسعين نفسا بغير حق فهل لي من توبة؟ فقال: لا، فقتله، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل، فأتاه، فقال: إني قتلت مئة نفس بغير حق، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها ناسا يعبدون الله، فاعبده معهم. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصم به ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأتاهم ملك، فجعلوه حكما بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، قال: أيهما كان أدنى وأقرب فهو له، فقاسوه، فوجدوه أدنى من الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة" (البخاري: 3470)...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
غلظ الله وعيد قاتل المؤمن عمدا للمبالغة في الردع والزجر...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟
فقال قوم: هي محكمة، واحتجوا بأنها خبر، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إحداهما قالت: هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلد في النار. والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العام المخصص، فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قتله مستحلا، فيستحق الخلود لاستحلاله. وقال قوم: هي مخصوصة في حق من لم يتب، واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70]. وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]...
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد، وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية، وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله: {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الإثم والوعيد...
نقل عن ابن عباس أنه قال: توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة، وقال جمهور العلماء: إنها مقبولة، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: أن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول.
الحجة الثانية: قوله تعالى في آخر الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة: فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى.
الحجة الثالثة: قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى، والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفراً عنه هذا التنفير، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك، إذ كان ضبط النفس بعد إرسالها شديداً، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام! وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى والقدرة فقال: {ومن يقتل مؤمناً} ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان، وهو لا يكون إلا كفراً، وترك الكلام محتملاً زيادة تنفير من قتل المسلم {متعمّداً} أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره {فجزاؤه} أي على ذلك {جهنم} أي تتلقاه بحالة كريهة جداً كما تجهم المقتول {خالداَ فيها} أي ماكثاً إلى ما لا آخر له {وغضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك {عليه ولعنه} أي وأبعده من رحمته {وأعد له عذاباً عظيماً} أي لا تبلغ معرفته عقولكم، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48 و116] لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن تعمدا بما يوافق مفهوم هذه الآية من كونه ليس من شأنه أن يقع من مؤمن فلم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعد به الكافرين فقال: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما}.
هذا فرع عن كون القتل ليس من شأن المؤمن مع المؤمن لأنه ينافي الإيمان. وقال ابن عباس هذه الآية آخر آية نزلت في عقاب القتل. وقال بعض الصحابة إن قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء:48] نزل قبل هذه الآية بستة أشهر فهذه الآية مخصصة له وقد قلنا من قبل إن قوله تعالى: {لمن يشاء} فيه مع تغليظ أمر الشرك أن كل شيء بمشيئته تعالى فلو شاء أن يخصص أحدا بالمغفرة فلا مردّ لمشيئته.
وقد يقال إنه أخرج من هذه المشيئة من يقتل مؤمنا متعمدا فآية: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} نزلت ترغيبا للمشركين الذين آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، وهم الذين نزل فيهم: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:8] وقد نقل عن ابن عباس أن قاتل العمد لا توبة له وقالوا إن آية الفرقان نزلت في المشركين والتوبة فيها متعلقة بعدة أعمال منها القتل ومنها الشرك.
أقول ويعني بآية الفرقان قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان:70] بعد أن ذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، وتوعد على ذلك كله بمضاعفة العذاب والخلود فيه.
قال: وقد يقال كيف تقبل التوبة من المشرك القاتل الزاني ولا تقبل من المؤمن الذي ارتكب القتل وحده؟ ويمكن أن يُجاب من القائلين بعدم توبة القاتل بأن المشرك الذي لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور له شبه عذر لأنه كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة وما يتبع ذلك، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه هو كفر وضلال تاب وأناب وآمن وعمل الصالحات، فهو جدير بالعفو وإن كان في إجرامه السابق مقصرا في النظر والاستدلال، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وتحريم الله للقتل وجعل قاتل النفس البريئة كقاتل الناس جميعا فلا عذر له، بل لا يعقل أن يرجح هواه على إيمانه مع أنه لم يطرأ على إيمانه من الشك الاضطراري ما يكون له شبه عذر. أما إذا طرأ عليه ذلك فإن حكمه حكم القاتل الكافر. وذلك أن الكافر الذي بلغته الدعوة ولم يؤمن لم يعرض عن الإيمان إلا لأن الدليل لم يظهر له على صحة النبوة، وهو يعاقب على التقصير في النظر وتصحيح الاستدلال حتى يخلد في النار. وإذا أحسن النظر وتبين له الهدى فآمن واهتدى يغفر له ما قد سلف في زمن الكفر، لأنه كان عملا مرتبا على الكفر، والكفر نفسه كان خطأ منه فأشبه قتله قتل الخطأ. ومثله من أخطأ في الدليل بعد التسليم به لشبهة عرضت على إيثاره لهواه على ما عند الله.
أما القاتل المؤمن فأمره على غير ذلك فإنه مؤمن بالله وبرسوله وبما جاء به إيمان يقين وإذعان لما جاء به الدين من تعظيم أمر الدماء، وهو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير بحكم الإيمان فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه، وحل ما عقده وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته وتجرئة الناس على مثل ذلك حتى يهن المسلمون ويضعفوا ويكون بأسهم بينهم شديدا. لا جرم أن عقابه يكون شديدا بحيث لا تقبل توبته.
ومن نظر إلى انحلال أمر الإسلام والمسلمين بعدما أقدم بعضهم على سفك دم بعض من زمن طويل يظهر له وجه هذا وأن القاتل لا يعذر بهذه الجراءة على هذه الجريمة وهو لم تعرض له شبهة في أمر الله، إذ لا رائحة للعذر في عمله بل هو مرجح للغضب وحب الانتقام وشهوة النفس على أمر الله تعالى، ومن فضل شهوة نفسه الخسيسة الضارة على نظر الله وعلى كتابه ودينه ومصلحة المؤمنين بغير شبهة ما فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، ويدل على هذا قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران:134] وتأمل قوله: {يعلمون} ولو سمح الله أن يفضل أحد شهوته أو حميته وغضبه على الله ورسوله وكتابه ودينه والمؤمنين، ووعده بالمغفرة، لتجرأ الناس على كل شيء ولم يكن للدين ولا للشرع حرمة في قلوبهم. فهذا تقرير قول من قالوا إن القاتل لا تقبل توبته ولابد من عقابه والروايات فيه عن الصحابة والسلف كثيرة تراجع في تفسير ابن جرير.
هذا ما عندنا عن الأستاذ الإمام في الآية وهو من خير ما يبين به وجه ما ذهب إليه المشددون في هذه الجناية...
أقول: وقد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار وأوّله بعضهم بطول المكث فيها وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار فيقال إن المراد به طول المكث أيضا. وقال بعضهم إن هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله تعالى وقد يعفو عنه فلا يجازيه، رواه ابن جرير عن أبي مجلز. وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد وأن العفو والتجاوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله تعالى، فليس في هذا التأويل تفص من خلود بعض القاتلين في النار، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين، لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين. وقال بعضهم إن هذا الوعيد مقيد بقيد الاستحلال والمعنى ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له فجزاؤه جهنم خالدا فيها الخ. وفيه أن الآية ليس فيها هذا القيد ولو أراده الله تعالى لذكره كما ذكر قيد العمد، وأن الاستحلال كفر فيكون الجزاء متعلقا به لا بالقتل، والسياق يأبى هذا.
وقال بعضهم إن هذا نزل في رجل بعينه فهو خاص به. وهذا أضعف التأويلات، لا لأن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب فقط، بل لأن نص الآية على مجيئه بصيغة العموم "من "الشرطية جاء بفعل الاستقبال فقال: "ومن يقتل" ولم يقل: "ومن قتل". وقال آخرون إن هذا الجزاء حتم إلا من تاب وعمل من الصالحات ما يستحق به العفو عن هذا الجزاء كله أو بعضه. وفيه أنه اعتراف بخلود غير التائب المقبول التوبة في النار، ولعل أظهر هذه التأويلات قول من قال إن المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود وهم لا يعتقدون أن شيئا يدوم دواما لا نهاية له. وكون حياة الآخرة لا نهاية لها لم يؤخذ من هذا اللفظ وحده بل من نصوص أخرى.
إن ابن عباس (رضي الله عنهما) كان يقول: إن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له كما ذكرنا ذلك في عبارة شيخنا وعبارة الكشاف، ونقل ابن جرير القول بقبول توبته عن مجاهد وهو تلميذ ابن عباس. وذكر روايات كثيرة عن ابن عباس في عدم قبول توبته...
وقد بين الأستاذ الإمام الفرق بين قبول توبة المشرك من الشرك وما يتبعه من الجرائم وعدم قبول توبة المؤمن من القتل على قول ابن عباس، وهو فرق واضح معقول من وجه وغير معقول من وجه آخر، وهو أنه لا ينطبق على قاعدتنا في حكمة الله في الجزاء على الشرك والذنوب وعلى الإيمان والأعمال الصالحة وقد بيناها مرارا كثيرة، وهي أن الجزاء تابع لتأثير الاعتقاد والعمل في تزكية النفس أو تدسيتها.
نعم إن إقدام المرء بعد الإيمان ومعرفة ما عظم الله تعالى من تحريم الدماء وما شدد من الجزاء على جريمة القتل يكاد يكون ردة عن الإسلام وهو أولى بما ورد في الصحيح (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...) وقد تقدم في بحث التوبة في تفسير هذه السورة، فإن القتل أكبر إثما وأشد جرما من الزنا والسرقة وشرب الخمر التي ورد بها الحديث، ولكن لا نسلم ما قاله شيخنا من أنه ليس لفاعله شبهة عذر بعد الإسلام، وإذا سلمنا ذلك وحكمنا بأن نفس القاتل قد صارت بالقتل شر النفوس وأشدها رجسا، وأبعدها عن موجبات الرحمة، وهو معنى ما في الآية من اللعنة، فلا نستطيع أن نحكم بأن صلاحها بالتوبة النصوح والمواظبة على الأعمال الصالحة متعذر ولا متعسر.
أما شبهة العذر أو شبهه فقد يظهر فيمن كان شديد الغضب حديد المزاج، إذا رأى من خصمه ما يثير غضبه وينسيه ربه، فقد يندفع إلى القتل لا يملك فيه نفسه، إلا أن يقال إن هذا القتل لا يعد من العمد أو التعمد الذي هو أبلغ من العمد لما في صيغة التفعل من الدلالة على معنى التربص أو التروي في الشيء. وقد ذكروا أن الضرب بما لا يقتل في الغالب إذا أفضى إلى القتل لا يسمى عمدا بل شبه عمد كالضرب بالعصا. وإنما العمد ما كان بمحدد وما في معناه مما جرت العادة بكونه يقتل كبندق الرصاص المستعمل في هذا الزمان بآلاته الجديدة كالبندقية والمسدس، واشترطوا فيه أن يقصد به القتل فإنه قد يطلق الرصاص عليه بقصد الإرهاب وهو ينوي أن لا يصيبه فيصيبه بدون قصد. ولفظ التعمد يدل على هذا وعلى أكثر منه كما قلنا آنفا.
وأما كون القاتل قد تصلح نفسه وتتزكى بالتوبة النصوح فهو معقول في نفسه وواقع ويدخل في عموم ما ورد في التوبة، ولا نعرف نفسا غير قابلة للصلاح، إلا نفس من أحاطت به خطيئته وران على قلبه ما كان يكسب من الأوزار، بطول الممارسة والتكرار، إذ يألف بذلك الشر ويأنس به حتى لا تتوجه نفسه إلى حقيقة التوبة بكراهة ما كان عليه ومقته والرجوع عنه، لا أنه يتوب ولا يقبل الله توبته.
فمن وقعت منه جريمة القتل فأدرك عقبها أنه تعرض بذلك للخلود في النار، واستحق لعنة الله تعالى والطرد من رحمته، وباء بغضبه وتهول في عذابه العظيم، فعظم عليه ذنبه، وضاقت عليه نفسه، فندم أشد الندم، فأناب واستغفر، وعزم على أن لا يعود إلى هذا الحنث العظيم، ولا إلى غيره من المعاصي والأوزار، وأقبل على المكفرات، وواظب على الباقيات الصالحات، إلى أن أدركه الممات، وهو على هذه الحال، فهو ولا شك في محل الرجاء، وحاش لله أن يخلد مثله في النار.
نعم إن أمراء الجور الذين يسفكون دماء من يخالفون أهواءهم، وزعماء السياسة الذين يجعلون من قوانين جمعياتهم اغتيال من يعارضهم في سياستهم، وكبراء اللصوص الذين يقتلون المؤمن وغير المؤمن بغير الحق لأجل التمتع بماله، كل أولئك الفجار، الذين يقتلون مع التعمد وسبق الإصرار، جديرون بأن ينالوا الجزاء الذي توعدت به الآية من الخلود في النار، ولعنة الله وغضبه وعذابه العظيم الذي لا يعرف كنهه سواه عز وجل، لأنهم وإن كان فيهم من يعدون في كتب تقويم البلدان ودفاتر الإحصاء وسجلات الحكومة من المسلمين ليسوا في الحقيقة من المؤمنين بالله وبصدق كتابه ورسوله فيما أخبرا به من وعيده على القتل وغيره، فهم لا يراقبون الله في عمل، ولا يخافون عقابه على ذنب، وقلما يوجد فيهم من يذكر التوبة بقلبه أو لسانه، إلا ما يذكر عن بعض عوام اللصوص من حركة اللسان ببعض الألفاظ التي لا يعقلون حقيقة معناها، ومنها: أستغفر الله وأتوب إليه، وهو يكذب في ذلك عليه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق شمس الدين بن القيم رحمه الله في "المدارج "فإنه قال -بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال:
وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه. وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين. ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك القتل الخطأ. فأما القتل العمد، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله:
(من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه. وأعد له عذابا عظيمًا)..
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب -بغير حق- ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم. إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها.
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم -ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).. فرجا للقاتل التائب المغفرة.. وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل.
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم، -قبل إسلامهم- يمشون على الأرض -وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة. ولكنهم لا يفكرون في قتلهم. لا يفكرون مرة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة. بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس، وإنّما أخّر لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ}... والمتعمّد: القاصد للقتل،... والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس...
وقوله: {خالداً فيها} مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر، على قول علمائنا من أهل السنّة، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي...
والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة...
المؤكّدات هنا [في قوله: وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما] مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض. وهو الوعيد، لا أنواعه...
هكذا يبشع الحق لنا جريمة القتل العمد. لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكرة أن يقتل، ولذلك يقال في القانون "قتل مع سبق الإصرار". أي أن القاتل قد عاش القتل في تخيله ثم في فعله، وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها القتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، ومادام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، ومادام الإنسان قد غاب باله عن الله فالله يغيبه عن رحمته... وهنا نجد أكثر من مرحلة في العذاب: جزاء جهنم، خلود في النار، غضب من الله، لعنة من الله، إعداد من الله لعذاب عظيم؟ فكان جهنم ليست كل العذاب؛ ففيه عذاب وفيه خلود في النار وفيه غضب وفيه لعنة ثم إعداد لعذاب عظيم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
لقد أعطى الإسلام للإنسان أهمية كبيرة في مفاهيمه وتشريعاته، فاعتبر الحياة الإنسانية قيمة عظيمة في وعي الإنسان المسلم ووجدانه، مما ولّد في داخله شعوراً باحترامها على مستوى وجوب الاحتياط في حفظها وسلامتها، لكونها ملكاً لله الذي لا يبيح لأحد التصرف فيها بالقتل إلا بإذن الله،... وعلى هذا الأساس تكون المعادلة الإسلامية التشريعية أن الإنسان كلما ازداد إيماناً، كلما ازداد بُعداً عن الاعتداء على أرواح الناس واحتراماً لحياتهم؛ مما يجعل من الإيمان عنصر ضمانٍ للحياة العامة، كما هو عنصر ضمان للحياة الخاصة...
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} إذ ذاك من الكبائر التي يستحق عليها الخلود في النار، لأن تعمّد قتل المؤمن يدل على نفسية خبيثة حاقدة، لا تحترم الحياة ولا تحترم الإيمان. وقد وردت في السنَّة أحاديث تدل على أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرة، مما يوحي بالفكرة التي قدمناها في بداية الحديث بأنَّ قيمة حياة المؤمن عند الله في المستوى الكبير من الأهمية والاحترام...
ولكن ذلك لا يمنع من قبول توبة القاتل إذا تاب لله وندم على فعله، مع الاحتفاظ بحق أولياء الدم في القصاص أو الدية، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ويقبل التوبة عن عباده، حتى أن الشرك يمكن أن يغفرْه الله لمن تاب عنه ودخل في الإسلام. أما قضية الحديث عن الخلود في النار للقاتل، فإنها تتصل بالاستحقاق كأية معصية كبيرة، ولا تتصل بالفعلية، كأيّ ذنبٍ من الذنوب التي يستحق الإنسان عليها العقاب، ولكن يمكن للعفو الإلهي أن ينال المذنبين إذا تابوا وإذا انفتحت عليهم رحمة الله. وعلى ضوء هذا، فلا بد من تأويل الروايات الدالة على أنه «لا توبة لقاتل المؤمن إلا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب» كما عن ابن عباس بحملها على عدم سقوط القصاص بتوبته، باعتبار أن ذلك يدخل في حقوق الناس لا في حق الله المجرد، مما يجعل القضية خاضعةً لموقف أولياء الدم، وربما تحمل هذه الروايات على سلوك سبيل التغليظ في القتل، كما روي عن سفيان الثوري أنّه سئل عن توبة القاتل، فقال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي الرّجل قالوا له: تب...
وقد نقل صاحب مجمع البيان عن بعض الإمامية أن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة، بمعنى أنه لا يختار التوبة. ونلاحظ عليه أنّ هذا خلاف الواقع، لأننا نعرف الكثيرين من القتلة تابوا توبة نصوحاً، وندموا على ذلك...