8- ألم تر - أيها الرسول - هؤلاء الذين نُهوا عن المسارة فيما بينهم بما يثير الشك في نفوس المؤمنين ، ثم يرجعون إلى ما نهوا عنه ، ويتسارون فيما بينهم بالذنب يقترفونه ، والعدوان يعتزمونه ، ومعصيتهم لرسول الله ، وإذا جاءوك حيوك بقول محرف لم يحيِّك به الله ، ويقولون في أنفسهم : هلا يعذبنا الله بما نقول إن كان رسولا حقاً ؟ حسبهم جهنم يدخلونها ويحترقون بنارها ، فبئس المآل مآلهم{[222]} .
قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم ، فيحزنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا وقد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك عليهم وكثر شكوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } أي المناجاة ، { ثم يعودون لما نهوا عنه } أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ، { ويتناجون } قرأ الأعمش وحمزة : وينتجون ، على وزن يفتعلون ، وقرأ الآخرون يتناجون ، لقوله : { إذا تناجيتم فلا تتناجوا }( المجادلة :10 ) { بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ، وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان نهاهم عن النجوى فعصوه ، { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } ، وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، { ويقولون } السام عليك . والسام : الموت ، وهم يوهمونه أنهم يقولون : السلام عليك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول : عليكم ، فإذا خرجوا قالوا : { في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } يريدون : لو كان نبياً حقاً لعذبنا الله بما نقول ، قال الله عز وجل :{ حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أبو أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : ( أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : السام عليك ، قال : وعليكم ، فقالت عائشة : السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم ، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في ) .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ *( 8 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 ) } .
النجوى هي : التناجي بين اثنين فأكثر ، وقد تكون في الخير ، وتكون في الشر .
فأمر الله تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر ، وهو اسم جامع لكل خير وطاعة ، وقيام بحق لله ولعباده{[1010]} والتقوى ، وهي [ هنا ] : اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم ، فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي ، فلا تجده مناجيا ومتحدثا إلا بما يقربه من الله ، ويباعده من سخطه ، والفاجر يتهاون بأمر الله ، ويناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } أي : يسيئون الأدب معك في تحيتهم لك ، { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } أي : يسرون في أنفسهم{[1011]} ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم ، وهو قولهم : { لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك ، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم ، أن ما يقولون غير محذور ، قال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [ عليهم ] ، تحيط بهم ، ويعذبون بها { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين ، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وضد الجماعة المسلمة بالمدينة . مع التعجيب من موقفهم المريب :
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ، ويقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول ! حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير .
والآية توحي بأن خطة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص ، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدنية وبوحيهم . وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة ، وفي دسائسهم الخفية ، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة ، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين .
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيء خفي : وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله . كأن يقولوا - كما كان اليهود يقولون - السام عليكم . وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليكم . بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم ! أو أية صيغة أخرى ظاهرها بريء وباطنها لئيم ! وهم يقولون في أنفسهم : لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا . أي في تحيتهم ، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات .
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بما كانوا يقولونه في أنفسهم ، وبمجالسهم ومؤامراتهم . فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة ؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم . . الخ . مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم ! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم .
( حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ) .
وكشف هذه المؤامرات الخفية ، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها ، وكذلك فضح ما كانوا بقولونه في أنفسهم : ( لولا يعذبنا الله بما نقول ) . . هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض ، وحضوره لكل نجوى ، وشهوده لكل اجتماع . وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح ، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق .
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد [ في قوله ]{[28393]}{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى } قال : اليهود وكذا قال مقاتل بن حيان ، وزاد : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، وكانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم ، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله - أو : بما يكره المؤمن - فإذا رأى المؤمن ذلك خَشيهم ، فترك طريقه عليهم ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثني سفيان بن حمزة ، عن كثير عن زيد ، عن رُبَيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نبيت عنده ؛ يطرُقه من الليل أمر{[28394]} وتبدو له حاجة ، فلما كانت ذات ليلة كَثُر أهل النّوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما هذا النجوى ؟ ألم تُنْهَوا عن النجوى ؟ ) ، قلنا : تبنا إلى الله يا رسول الله ، إنا كنا في ذكر المسيح ، فَرقا منه ، فقال : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه ؟ ) ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : ( الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ) هذا إسناد غريب ، وفيه بعض الضعفاء{[28395]} .
وقوله :{ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي : يتحدثون فيما بينهم بالإثم ، وهو ما يختص بهم ، والعدوان ، وهو ما يتعلق بغيرهم ، ومنه معصية الرسول ومخالفته ، يُصِرون عليها ويتواصون بها .
وقوله :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا بن نمير ، عن الأعمش ، [ عن مسلم ]{[28396]} عن مسروق ، عن عائشة قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاس ، . فقالت عائشة : وعليكم السام و[ اللعنة ]{[28397]} ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة ، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) ، قلت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك ؟ فقال رسول الله : ( أو ما سمعت أقول{[28398]} وعليكم ؟ ) . فأنزل الله :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } {[28399]} .
وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم : عليكم السام والذام واللعنة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنه يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا ){[28400]} .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه ، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم ، فردوا عليه ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تدرون ما قال ؟ ) ، قالوا : سلم يا رسول الله . قال : ( بل قال : سام عليكم ، أي : تسامون دينكم ) . قال رسول الله : ( ردوه ) . فردوه عليه . فقال نبي الله : ( أقلت : سام عليكم ؟ ) ، قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا : عليك ) أي : عليك ما قلت {[28401]} . وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح ، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة ، بنحوه{[28402]} .
وقوله :{ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } أي : يفعلون هذا ، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام ، وإنما هو شتم في الباطن ، ومع هذا يقولون في أنفسهم : لو كان هذا نبيًا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن ؛ لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان هذا نبيًا حقًّا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا ، فقال الله تعالى :{ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي : جهنم كفايتهم في الدار الآخرة{ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سام عليك ، ثم يقولون في أنفسهم :{ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ؟ ، فنزلت هذه الآية :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } إسناد حسن ولم يخرجوه{[28403]} .
وقال العوفي ، عن بن عباس :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله إذا حيوه : " سام عليك " ، قال الله :{ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم ، { ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } أي بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول وقرأ حمزة وينتجون وهو يفتعلون من النجوى ، وروي عن يعقوب مثله { وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله } فيقولون السام عليك أو أنعم صباحا والله تعالى يقول : { وسلام على عباده الذين اصطفى } ، ويقولون في أنفسهم فيما بينهم { لولا يعذبنا الله بما نقول }هلا يعذبنا الله بذلك لو كان محمد نبيا ، { حسبهم جهنم }عذابا { يصلونها }يدخلونها { فبئس المصير }جهنم .
هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول الله عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد وقتادة . وقال ابن عباس نزلت في اليهود والمنافقين .
وقرأ جمهور القراء والناس : «ويتناجون » على وزن يتفاعلون ، وقرأ حمزة والأعمش وطلحة وابن وثاب «وينتجون »{[11005]} على وزن يفتعلون وهما بمعنى واحد كيقتتلون ويتقاتلون وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «وعصيان الرسول » .
وقوله تعالى : { وإذا جاؤوك حيوك } الآية ، يريد بذلك ما كانت اليهود تفعله من قولهم في التحية السام عليك يا محمد ، وذلك أنه روي أن اليهود كانت تأتي فتقول : السام عليك يا محمد ، والسام : الموت ، وإياه كانوا يريدون ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وعليكم » ، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت : بل عليكم السام واللعنة ، فقال رسول الله : «مهلاً يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش » ، قالت : أما سمعت ما قالوا ؟ قال : «أما سمعت ما قلت لهم ؟ إني قلت وعليكم »{[11006]} .
ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون ، وذلك أنهم كانوا يقولون : نحن الآن نلقى محمداً بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنا سوء ، ولا يعاقبنا الله بذلك ، ولو كان نبياً لهلكنا بهذه الأقوال ، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم ، فأخبر الله بذلك وأنها كافيتهم . وقال ابن عباس : هذه الآية كلها في منافقين ، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} يعني اليهود كان بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم موادعة، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده يتناجون بينهم، فيظن المسلم أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فقال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما} للذي {نهوا عنه ويتناجون بالإثم} يعني بالمعصية {والعدوان} يعني الظلم {ومعصيت الرسول} يعني حين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فعصوه...
ثم أخبر عنهم، فقال: {وإذا جاءوك حيوك} يعني كعب بن الأشرف، وحيى بن أخطب، وكعب بن أسيد، وأبو ياسر، وغيرهم {حيوك بما لم يحيك به الله} يعني اليهود، قالوا: انطلقوا بنا إلى محمد، فنشتمه علانية كما نشتمه في السر، فقالوا: السام، يعنون بالسام السآمة والفترة، ويقولون: تسأمون يعني تتركون دينكم، فقالت عائشة، رضي الله عنها: عليكم السام، والذام، والفان، يا إخوان القردة والخنازير، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عائشة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، فإنه ما وضع في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.. فلما خرجت اليهود من عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: إن كان محمد لا يعلم ما نقول له، فالله يعلمه، ولو كان نبيا لأعلمه الله ما نقول، فذلك قوله: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} لنبيه وأصحابه يقول الله {حسبهم جهنم} شدة عذابها {يصلونها فبئس المصير} يعني بئس المرجع إلى النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى "من اليهود "ثُمّ يَعودُون" فقد نهى الله عزّ وجلّ إياهم عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول...
قوله: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} يقول جلّ ثناؤه: ثم يرجعون إلى ما نهوا عنه من النجوى {وَيَتَناجُونَ بالإثْمِ والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ} يقول جلّ ثناؤه: ويتناجون بما حرّم الله عليهم من الفواحش والعدوان، وذلك خلاف أمر الله ومعصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم...
وقوله: {وَإذا جاءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى، الذين وصف الله جلّ ثناؤه صفتهم، حيوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحية، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار، أنهم كانوا يقولون: السام عليك... حدثنا ابن حُمَيد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم وفعل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عائِشَةُ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفُحْشَ»، فقلت: يا رسول الله، ألست ترى ما يقولون؟ فقال: «أَلَسْتِ تَرَيْنَنِي أرُدّ عَلَيْهِمْ ما يَقُولُونَ؟ أقُول: عَلَيْكُمْ» وهذه الآية في ذلك نزلت {وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهمْ لَوْلا يُعَذّبُنا الله بِمَا نَقُول، حَسْبُهُمْ جَهَنّم يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المَصِيرِ}...
وقوله جلّ ثناؤه: {وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذّبُنا اللّهُ بِمَا نَقُولُ} يقول جل ثناؤه: ويقول محيوك بهذه التحية من اليهود: هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيعجل عقوبته لنا على ذلك، يقول الله: حسب قائلي ذلك يا محمد جهنم، وكفاهم بها يصلونها يوم القيامة، فبئس المصير جهنم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِم الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْك؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ [فِي رِوَايَةٍ]، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ؛ وَجَهِلُوا أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ نَبِيَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبرُ عَلَى الْأَذَى من اللَّهِ تَعَالَى، يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ، وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ...
{ويتناجون بالإثم والعدوان} يحتمل؛
(أحدهما) أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان، لاسيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد.
(والثاني) أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم...
{حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة، أو بحسب المصلحة، فإذا لم تقتض المشيئة تقديم العذاب، ولم يقتض الصلاح أيضا ذلك، فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول [صلى الله عليه وسلم] وضد الجماعة المسلمة بالمدينة. مع التعجيب من موقفهم المريب:
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله، ويقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول! حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير.
والآية توحي بأن خطة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدنية وبوحيهم. وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة، وفي دسائسهم الخفية، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين.
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيء خفي: وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله. كأن يقولوا -كما كان اليهود يقولون- السام عليكم. وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليكم. بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم! أو أية صيغة أخرى ظاهرها بريء وباطنها لئيم! وهم يقولون في أنفسهم: لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا. أي في تحيتهم، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات.
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] بما كانوا يقولونه في أنفسهم، وبمجالسهم ومؤامراتهم. فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.. الخ. مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم.
(حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير).
وكشف هذه المؤامرات الخفية، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها، وكذلك فضح ما كانوا بقولونه في أنفسهم: (لولا يعذبنا الله بما نقول).. هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض، وحضوره لكل نجوى، وشهوده لكل اجتماع. وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثماً لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نُهوا عنها فقد زادوا به تمرداً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقّة للمسلمين. فالجملة مُستأنفة استئنافاً ابتدائياً اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10]. ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سَدًّا للذريعة...وأُلْحِقَ بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما. وصيغة المضارع في {يعودون} دالة على التجدد، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا. و « ما نهوا عنه» هو النجوى...
{حسبهم جهنم على ما في الصلة من التسجيل على سفههم. والياء للملابسة، أي يتناجون ملابسين الإِثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإِثم والعدوان ملابسة المتناجَى في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله: {نهوا عن النجوى} وقوله: {ومعصيت الرسول} دلالة على أنهم منافقون لا يهود...
{لولا يعذبنا الله} فإن {لولا} للتحْضيض مستعملة كناية عن جحد نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم أي لو كان نبيئاً لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له...
{حسبهم جهنم} أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب. وأصل {يصلونها} يصْلَون بها، فضمّن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن. وقوله: {فبئس المصير} تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.