قوله تعالى : { وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً لكن الراسخون في العلم منهم } ، يعني : ليس كل أهل الكتاب بهذه الصفة ، لكن الراسخون البالغون في العلم أولوا البصائر ، وأراد به : الذين أسلموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه . قوله تعالى : { والمؤمنون } ، يعني : المهاجرين والأنصار .
قوله تعالى : { يؤمنون بما أنزل إليك } ، يعني : القرآن .
قوله تعالى : { وما أنزل من قبلك } ، يعني : سائر الكتب المنزلة .
قوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } ، اختلفوا في وجه انتصابه ، فحكي عن عائشة رضي الله عنها ، وأبان بن عثمان ، أنه غلط من الكاتب ، ينبغي أن يكتب : والمقيمون الصلاة ، وكذلك قوله في سورة المائدة : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون } [ المائدة :62 ] ، وقوله { إن هذان لساحران } [ طه :63 ] قالوا : ذلك خطأ من الكاتب . وقال عثمان : إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيره ؟ فقال : دعوه فإنه لا يحل حراماً ، ولا يحرم حلالاً . وعامة الصاحبة وأهل العلم على أنه صحيح ، واختلفوا فيه ، قيل : هو نصب على المدح ، وقيل : نصب على إضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصلاة ، وهم المؤتون الزكاة ، وقيل : موضعه خفض . واختلفوا في وجهه ، فقال بعضهم : معناه لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة ، وقيل : معناه يؤمنون بما أنزل إليك ، وإلى المقيمين الصلاة .
قوله تعالى : { والمؤتون الزكاة } . رجوع إلى النسق الأول .
قوله تعالى : { والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } ، قرأ حمزة : { سيؤتيهم } بالياء ، والباقون بالنون .
{ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا }
لما ذكر معايب أهل الكتاب ، ذكر الممدوحين منهم فقال : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أي : الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ الإيقان في أفئدتهم فأثمر لهم الإيمان التام العام { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }
وأثمر لهم الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللذين هما أفضل الأعمال ، وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود والإحسان إلى العبيد . وآمنوا باليوم الآخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد .
{ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان والعمل الصالح ، والإيمان بالكتب والرسل السابقة واللاحقة .
ولا يترك السياق الموقف مع اليهود ، حتى ينصف القليل المؤمن منهم ؛ ويقرر حسن جزائهم ، وهو يضمهم إلى موكب الإيمان العريق ، ويشهد لهم بالعلم والإيمان ، ويقرر أن الذي هداهم إلى التصديق بالدين كله : ما أنزل إلى الرسول [ ص ] وما أنزل من قبله ، هو الرسوخ في العلم وهو الإيمان :
( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك . والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ، أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا ) . .
فالعلم الراسخ ، والإيمان المنير ، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله . كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد .
وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور ، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك ؛ كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين . فالعلم السطحي كالكفر الجاحد ، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة . . ونحن نشهد هذا في كل زمان . فالذين يتعمقون في العلم ، ويأخذون منه بنصيب حقيقي ، يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية ؛ أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة ، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا ، وذا إرادة واحدة ، وضعت ذلك الناموس الواحد . . وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى - المؤمنون - يفتح الله عليهم ، وتتصل أرواحهم بالهدى . . أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء ، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان ، أو لا تبرز لهم - بسبب علمهم الناقص السطحي - علامات الاستفهام . وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق . . وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان ، أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد ، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين .
وقد ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني - أول من تعني - أولئك النفر من اليهود ، الذين استجابوا للرسول [ ص ] وذكرنا أسماءهم من قبل ، ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين ، يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير . .
ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين ، الذين تعينهم صفاتهم :
( والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) .
وهي صفات المسلمين التي تميزهم : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالله واليوم الآخر . . وجزاء الجميع ما يقرره الله لهم .
ونلاحظ أن ( المقيمين الصلاة ) تأخذ إعرابا غير سائر ما عطفت عليه . وقد يكون ذلك لإبراز قيمة إقامة الصلاة في هذا الموضع على معنى - وأخص المقيمين الصلاة - ولها نظائر في الأساليب العربية وفي القرآن الكريم ، لإبراز معنى خاص في السياق له مناسبة خاصة . وهي هكذا في سائر المصاحف وإن كانت قد وردت مرفوعة : والمقيمون الصلاة في مصحف عبدالله بن مسعود .
ثم قال تعالى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي : الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع . وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ } عطف على الراسخين ، وخبره { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ }
قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية . وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد ، الذين دخلوا في الإسلام ، وصدقوا بما أرسل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } هكذا هو في جميع المصاحف الأئمة ، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بن كعب . وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود : " والمقيمون الصلاة " ، قال : والصحيح قراءة الجميع . ثم رَدّ على من زعم أن ذلك من غلط الكُتَّاب{[8717]} ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم : هو منصوب على المدح ، كما جاء في قوله : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [ البقرة : 177 ] ، قالوا : وهذا سائغ في كلام العرب ، كما قال الشاعر{[8718]} :
لا يَبْعَدَن قومي الذين همُو *** سُمّ{[8719]} العداة وآفة الجُزرِ
النازلين بكل مُعَْتركٍ *** والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ
وقال آخرون : هو مخفوض عطفا على قوله : { بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني : وبالمقيمين الصلاة .
وكأنه يقول : وبإقامة الصلاة ، أي : يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم ، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة ، وهذا اختيار ابن جرير ، يعني : يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، وبالملائكة . وفي هذا نظر والله أعلم .
وقوله : { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ، ويحتمل زكاة النفوس ، ويحتمل الأمرين ، والله أعلم .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يصدقون بأنه لا إله إلا الله ، ويؤمنون بالبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها .
وقوله : { أُولَئِكَ } هو الخبر عما تقدم { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر مؤمني أهل التوراة، فقال سبحانه: {لكن الراسخون في العلم منهم}، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن اليهود لتعلم أن الذي جئت به حق، وأنك لمكتوب عندهم في التوراة، فقالت اليهود: ليس كما تقولون، وإنهم لا يعلمون شيئا، وإنهم ليغرونك ويحدثونك بالباطل، فقال الله عز وجل: {لكن الراسخون في العلم}، منهم يعني المتدارسين علم التوراة، يعني ابن سلام وأصحابه، {منهم} من اليهود، {والمؤمنون} أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من غير أهل الكتاب، {يؤمنون بما أنزل إليك} من القرآن، {وما أنزل من قبلك} من الكتب على الأنبياء: التوراة والإنجيل. ثم نعتهم، فقال سبحانه: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، المعطون الزكاة، {والمؤمنون بالله واليوم الآخر} أنه واحد لا شريك له، والبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {أولئك سنؤتيهم أجرا}، يعني جزاء {عظيما}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا من الله جلّ ثناؤه استثناء، استثنى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات التي مضت من قوله:"يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ" ثم قال جلّ ثناؤه لعباده، مبينا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده: ما كُلّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم، لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وهم الذين قد رسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه، وأتقنوا ذلك، وعرفوا حقيقته. "وَالمُؤْمِنُونَ": والمؤمنون بالله ورسله، وهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك يا محمد، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل، ولا يسألونك كما سأل هؤلاء الجهلة منهم أن تنزل عليهم كتابا من السماء، لأنهم قد علموا بما قرأوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم، أنك لله رسول واجب عليهم اتباعك، لا يسعهم غير ذلك، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة، ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من أخبار أنبيائهم إياهم بذلك وبما أعطيتك من الأدلة على نبوّتك، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ من الكتاب وبما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من سائر الكتب.
ثم اختلف في "المقيمين الصلاة"، أهم الراسخون في العلم، أم هم غيرهم؟ فقال بعضهم: هم هم.
وقال آخرون: بل المقيمون الصلاة من صفة غير الراسخين في العلم في هذا الموضع وإن كان الراسخون في العلم من المقيمين الصلاة. وقال قائلو هذه المقالة جميعا: موضع المقيمين في الإعراب خفض، فقال بعضهم: موضعه خفض على العطف على «ما» التي في قوله: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.
ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل في معنى الكلام؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبإقام الصلاة. قالوا: ثم ارتفع قوله: «والمؤتون الزكاة»، عطفا على ما في «يؤمنون» من ذكر المؤمنين، كأنه قيل: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك هم والمؤتون الزكاة.
وقال آخرون: بل المقيمون الصلاة: الملائكة. قالوا: وإقامتهم الصلاة: تسبيحهم ربهم واستغفارهم لمن في الأرض. قالوا: ومعنى الكلام: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة.
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، هم والمؤتون الزكاة، كما قال جلّ ثناؤه: يُؤْمِنُ باللّهِ وَيُؤْمِنُ للِمُؤْمِنِينَ. وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون المقيمين منصوبا على المدح وقالوا: إنما تنصب العرب على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره قالوا: وخبر الراسخين في العلم قوله: "أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أجْرا عَظِيما". قال: فغير جائز نصب المقيمين على المدح وهو في وسط الكلام ولما يتمّ خبر الابتداء.
وقال آخرون: معنى ذلك: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة. وقالوا: موضع المقيمين خفض.
وقال آخرون: معناه: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة.
وهذا الوجه والذي قبله منكر عند العرب، ولا تكاد العرب تعطف لظاهر على مكنيّ في حال الخفض وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها.
وأولى الأقوال عندي بالصواب، أن يكون المقيمين في موضع خفض نسقا على «ما» التي في قوله: "بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ "وأن يوجه معنى المقيمين الصلاة إلى الملائكة، فيكون تأويل الكلام: والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب وبما أنزل من قبلك من كتبي وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة ثم يرجع إلى صفة الراسخين في العلم فيقول: لكن الراسخون في العلم منهم، والمؤمنون بالكتب، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الاَخر. وإنما اخترنا هذا على غيره، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب: «والمقيمين»، وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا. وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك، ما يدلّ على أن الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ، مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقنوه للأمة تعليما على وجه الصواب. وفي نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به في الخطّ مرسوما أدلّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب.
وأما من وجه ذلك إلى النصب على وجه المدح للراسخين في العلم وإن كان ذلك قد يحتمل على بعد من كلام العرب لما قد ذكرنا قبل من العلة، وهو أن العرب لا تعدل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نعته إلا بعد تمام خبره، وكلام الله جلّ ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو به من الفصاحة.
وأما توجيه من وجه ذلك إلى العطف به على الهاء والميم في قوله: "لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ" أو إلى العطف به على الكاف من قوله: "بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ" أو إلى الكاف من قوله: "وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح لما قد ذكرت قبل من قبح ردّ الظاهر على المكني في الخفض.
وأما توجيه من وجه المقيمين إلى الإقامة، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل ولا خبر تثبت حجته، وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان.
وأما قوله: "وَالمُؤْتُونَ الزّكاةَ" فإنه معطوف به على قوله: "وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ" وهو من صفتهم. وتأويله: والذين يعطون زكاة أموالهم من جعلها الله له وصرفها إليه "والُمؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ": والمصدّقون بوحدانية الله وألوهيته، والبعث بعد الممات، والثواب والعقاب "أولئك سَنُؤْتِيهمْ أجْرا عَظِيما": هؤلاء الذين هذه صفتهم سنؤتيهم، يقول: سنعطيهم أجرا عظيما، يعني: جزاء على ما كان منهم من طاعة الله، واتباع أمره، وثوابً عظيما، وذلك الجنة..
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
والرسخ هو: إثبات الشيء في القلب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الراسخ في العلم هو ألا يكون في الدليل مُقَلِّداً، كما لا يكون في الحكم مقلداً، بل يضع النظر موضعه إلى أن ينتهي إلى حد لا يكون للشكِّ في عقله مساغ. ويقال الراسخ في العلم من يرتقي عن حد تأمل البرهان ويصل إلى حقائق البيان. ويقال الراسخ في العلم أن يكون بعلمه عامِلاً حتى يفيد عِلمَ ما خفي على غيره، ففي الخبر:"من عمل بما علمه ورَّثه الله علم ما لم يعلم". وخَصَّ {وَالمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} في الإعراب فَنَصَب اللفظ بإضمار أعني على المدح لِمَا للصلاة من التخصيص من بين العبادات لأنها تالية الإيمان في أكثر المواضع في القرآن، ولأن الله -سبحانه- أمر الرسول صلى الله عليه وسلم (بها) ليلةَ المعراج بغير واسطة جبريل عليه السلام... وغير هذا من الوجوه. قوله تعالى: {أَجْرًا عَظِيمًا}: الأجر العظيم هو الذي يزيد على قدر الاستحقاق بالعمل.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
" لكن "للإضراب عن كلام، والدخول في كلام آخر، (والراسخون): المبالغون في العلم أولوا البصائر فيه، وأراد به: الذين أسلموا من علماء اليهود: مثل عبد الله بن سلام، ويمين بن يمين، وأسد وأسيد ابني كعب، وجماعة (والمؤمنون) أراد به: المهاجرين، والأنصار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لكن الراسخون} يريد من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، والراسخون في العلم الثابتون فيه المتقنون المستبصرون {والمؤمنون} يعني المؤمنين منهم، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وارتفع الراسخون على الابتداء. و {يُؤْمِنُونَ} خبره. و {وَالمقيمين} نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع. وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم. وقيل: هو عطف على {بِمآ أُنزَلَ إِلَيْكَ} أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء.
وصفهم بكونهم راسخين في العلم، ثم شرح ذلك فبين أولا: كونهم عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بتلك الأحكام، فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله {والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}، وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكواة} وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات؛ لأن الصلاة أشرف الطاعات البدينة، والزكاة أشرف الطاعات المالية، ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله، وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد، فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله {والمؤمنون بالله} والعلم بالمعاد هو المراد من قوله {واليوم الآخر}، ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد، وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة، ثم أخبر عنهم بقوله {أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين تعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب، بين ما لنّيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال: {لكن الراسخون في العلم منهم} أي الذي هيئت قلوبهم في أصل الخلقة لقبول العلم فأبعد عنها الطبع، وجلت الحكمة، ورسخت بالرحمة، فامتلأت من نور العلم، وتمكنت بأنس الإيمان.
ولما ذكر نعت العلم المفيد لجميع الفضائل أبتعه ما نشأ عنه فقال: {والمؤمنون} أي الذين هيئوا للإيمان ودخلوا فيه، فصار لهم خلقاً لازماً، منهم ومن غيرهم {يؤمنون} أي يجددون الإيمان في كل لحظة {بما أنزل إليك} لأنهم أعرف الناس بأنه حق {وما أنزل من قبلك} أي على موسى عليه الصلاة والسلام، وبسبب إيمانهم الخالص أمنوا بما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم بما أنزل إليك.
ولما كانت الصلاة أعظم دعائم الدين، ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر، نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها، فقال تعالى: {والمقيمين الصلاة} أي بفعلها بجميع حدودها، ويجوز على بُعد أن يكون المقتضي لنصبها جعل "لكن "بالنسبة إليها بمعنى "إلا" وتضمينها لفظها، لما بينهما من التآخي، فيكون المعنى أنهم مستثنون ممن أعد لهم العذاب الأليم على معنى أن الله سبحانه وتعالى -و هو الفاعل المختار- سبق علمه بأن مقيم الصلاة بجميع حدودها لا يموت كما يموت كافر، بل تناله بركتها فيسلم، وهذا أعظم مدح لها، والحاصل أن (لكن) استعيرت لمعنى (إلا) بجامع أن ما بعد كل منهما مخالف في الحكم لما قبله، كما استعيرت "إلا" لمعنى "لكن" في الاستثناء المنقطع.
ولما كان الرجوع بما بعدها إلى الأسلوب الماضي أبين في مدحها قال: {والمؤتون الزكاة} ولما ذكر أنهم جمعوا إلى صلة الخالق الإحسان إلى الخلائق ذكر الإيمان بانياً على عظمته مفصلاً له بعض التفصيل ومشيراً إلى أن نفعه كما يشترط أن يكون فاتحاً يشترط أن يكون خاتماً فقال: {والمؤمنون بالله} أي مستحضرين ما له من صفات الكمال، وضم إليه الحامل على كل خير والمقعد عن كل شر ترغيباً وترهيباً فقال: {واليوم الآخر} فصار الإيمان مذكوراً خمس مرات، فإن هذه الأوصاف لموصوف واحد عطفت بالواو تفخيماً لها وإشارة إلى أن وصف الرسوخ في العلم مقتض لأنهم في الذروة من كل وصف منها، والاتصافُ بكل منها يتضمن الإيمان بيوم الدين، فإنه لا يمدح أحد اتصف بشيء منها عرياً عن الإيمان به، لا جرم نبه على فخامة أمرهم وعلو شأنهم بأداة البعد فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة والهمم، ولكون السياق في الراسخين العاملين أنهى في التأكيد بالسين لأن المكر هنا أقل منه في الأولى، ولم يعرف الأجر، ووصفه بالعظم فقال: {سنؤتيهم} أي بعظمتنا الباهرة بوعد لا خلف فيه {أجراً عظيماً}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لكن الراسخون في العلم منهم} أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين من اليهود، الآخذون فيه بالدليل دون التقليد، الراسخون أي الثابتون فيه ثبات الأطواد، بحيث لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه {والمؤمنون} من عامتهم أو من أمتك أيها الرسول إيمان إذعان يبعث على العمل، لا إيمان دعوى وعصبية وجدل، كما هو المعروف عن المقلدة في كل الملل، كل منهم {يؤمنون بما أنزل إليك} أيها الرسول من البينات والهدى في القرآن {وما أنزل من قبلك} على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم السلام، لا يفرقون بين الله ورسله بالهوى والعصبية... وقد يرد هاهنا سؤال وهو أن من سنة القرآن أن يذكر الإيمان بالله قبل العمل الصالح سواء ذكر الإيمان غفلا مطلقا أو ذكرت أركانه كلها أو بعضها كقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا} [الكهف:107] ومثلها كثير وكقوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله باليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم} [البقرة:62] والجواب أن القاعدة الأساسية في التقديم والتأخير هي أن يقدم الأهم الذي يقتضيه السياق لا الأهم في ذاته. ولذلك قال تعالى في سياق تخطئة المفاخرين بدينهم بالأماني {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} [النساء:124] بعد ما قال في الآية التي قبلها {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. من يعمل سوءا يجز به} [النساء:123] فالسياق لبيان أن العبرة بالعمل بالدين لا بالانتماء إليه وإلى الرسول الذي جاء به والفخر بذلك، فقدم ذكر العمل على الإيمان. والسياق الذي نحن فيه هو بيان أحوال أهل الكتاب في عصر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فكان المهم أولا بيان إيمان خيارهم بما أنزل إليه كإيمانهم بما أنزل إلى أنبيائهم من قبله، ثم كون هذا الإيمان إذعانيا يترتب عليه العمل، واكتفى منه بأعلى أنواع العبادات البدنية والمالية. ثم ختم الكلام، بوصفهم بأول صفات الكمال، أي بالإيمان بالله واليوم الآخر، ويجوز أن يراد بالمؤمنين هنا المهاجرين والأنصار وبالمؤمنين في أول الآية المؤمنون من أهل الكتاب.
{أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما} أي أولئك الموصوفون بما ذكر كله سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يدرك كنهه في الدنيا أحد منهم..
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما ذكر معايب أهل الكتاب، ذكر الممدوحين منهم فقال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي: الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ الإيقان في أفئدتهم فأثمر لهم الإيمان التام العام {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} وأثمر لهم الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللذين هما أفضل الأعمال، وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود والإحسان إلى العبيد. وآمنوا باليوم الآخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد. {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان والعمل الصالح، والإيمان بالكتب والرسل السابقة واللاحقة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا يترك السياق الموقف مع اليهود، حتى ينصف القليل المؤمن منهم؛ ويقرر حسن جزائهم، وهو يضمهم إلى موكب الإيمان العريق، ويشهد لهم بالعلم والإيمان، ويقرر أن الذي هداهم إلى التصديق بالدين كله: ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، هو الرسوخ في العلم وهو الإيمان: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك. والمقيمين الصلاة، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الآخر، أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا).. فالعلم الراسخ، والإيمان المنير، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله. كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد. وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك؛ كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين. فالعلم السطحي كالكفر الجاحد، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة.. ونحن نشهد هذا في كل زمان. فالذين يتعمقون في العلم، ويأخذون منه بنصيب حقيقي، يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية؛ أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا، وذا إرادة واحدة، وضعت ذلك الناموس الواحد.. وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى -المؤمنون- يفتح الله عليهم، وتتصل أرواحهم بالهدى.. أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان، أو لا تبرز لهم -بسبب علمهم الناقص السطحي- علامات الاستفهام. وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق.. وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان، أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني -أول من تعني- أولئك النفر من اليهود، الذين استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم وذكرنا أسماءهم من قبل، ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين، يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير.. ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين، الذين تعينهم صفاتهم: (والمقيمين الصلاة، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الآخر). وهي صفات المسلمين التي تميزهم: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالله واليوم الآخر.. وجزاء الجميع ما يقرره الله لهم. أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي، لا يتزلزل؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العِلم} في سورة آل عمران (7). والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت، فليس بينه وبين الحقّ حاجب، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نستوحي من كلمة {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أن مشكلة الكثيرين من المعاندين والكافرين ليست مشكلةً فكريةً عميقةً، في ما ينكرونه من قضايا الإيمان وحدوده، بحيث يتوقفون أمامها في حالة حيرة أو موقف مضاد، بل هي مشكلة السطحية في الفكر التي تسمح للعُقد النفسية أن تتحكم في القناعات الفكرية في مسائل الكفر والإيمان؛ لأن الفكر السطحي، لا يستطيع مواجهة التحديات الضاغطة بقوة، وبالتالي فإنه لا يستطيع حماية صاحبه من المؤثرات الذاتية التي تترك بصماتها على طريقة تفكيره؛ ولهذا كان الأسلوب القرآني جارياً على أساس الدعوة إلى التأمُّل والتدبُّر والتعمُّق في القضايا، وإلى مواجهة الحجة بالحجة في أسلوب الحوار العميق المنفتح الذي يعمل على فحص الأمور من أعماق الداخل لا من سطح الخارج، ويؤدي بالنتيجة إلى تعميق الذهنية الفكرية في تقييم الأشياء. وبهذا كان التأكيد على صفة {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يمثل التأكيد على ما لهذه الصفة من أثر بعيد في سلامة التفكير، وسلامة الوصول إلى النتائج الصحيحة، في ما تفرضه على شخصية الإنسان من الوقوف مع المشاكل الفكرية موقف الدقّة في ترتيب المقدمات ومناقشتها، وصحة النتائج، بعيداً عن كل الانفعالات والرواسب والتشنّجات النفسية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وقد أشارت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة إِلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مراراً في آيات متعددة، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق، لأنّ الإِسلام لم يذم أبناء أي طائفة أو عنصر لانتمائهم الطائفي أو العرقي، بل وجه الذم والانتقاد للمنحرفين والظالمين منهم فقط، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم، حيث تقول الآية الكريمة: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إِليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر اُولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً).
وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإِسلام حين بعث النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّية الإِسلام، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإِسلام، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر المسلمين.