فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

قوله : { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ } استدراك من قوله : { وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أو { منَ الذين هَادُوا } وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل ، وأنت تحلها ، فنزل : { لكن الراسخون } والراسخ : هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ : الثبوت . وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران . والمراد عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ونحوهما . والراسخون مبتدأ ، ويؤمنون خبره ، والمؤمنون معطوف على الراسخون . والمراد بالمؤمنين : إما من آمن من أهل الكتاب ، أو من المهاجرين والأنصار ، أو من الجميع . قوله : { والمقيمين الصلاة } قرأ الحسن ، ومالك بن دينار ، وجماعة : «والمقيمون الصلاة » على العطف على ما قبله ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال : الأوّل قول سيبويه أنه نصب على المدح ، أي : وأعني المقيمين . قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ، ومن ذلك : { والمقيمين الصلاة } وأنشد :

وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم *** إلا نميراً أطاعت أمر غاويها

الطاعنين ولما يطعنوا أحدا *** والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد :

لا يبعدنّ قومي الذين هم *** سمّ العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك *** والطيبون معاقد الأزر

قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين . وقال الكسائي ، والخليل : هو معطوف على قوله : { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } قال الأخفش : وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا : ويؤمنون بالمقيمين . ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة ، فيكون المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك ، وبما أنزل من قبلك ، وبالملائكة ، واختار هذا . وحكى أن النصب على المدح بعيد ؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الرّاسخون هو قوله : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } وقيل : إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله : { مِنْهُمْ } وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض .

وحكى عن عائشة أنها سئلت ، عن المقيمين في هذه الآية ، وعن قوله تعالى : { إِنْ هاذان لساحران } [ طه : 63 ] وعن قوله : { والصابئون } [ المائدة : 69 ] في المائدة ؟ فقالت : يا ابن أخي الكتاب أخطئوا . أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله ، وسعيد ابن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر . وقال أبان بن عثمان كان الكاتب يملي عليه ، فيكتب فكتب : { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ والمؤمنون } ثم قال ما أكتب ؟ فقيل له أكتب : { والمقيمين الصلاة } فمن ثم وقع هذا . أخرجه عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر . قال القشيري : وهذا باطل ؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة ، فلا يظن بهم ذلك . ويجاب عن القشيري بأنه قد روي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتى به إليه قال : أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنها . أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق . وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير ، ورجح قول الخليل ، والكسائي ابن جرير الطبري ، والقفال ، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال : إن خبر { الرّاسخون } هو قوله : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ } أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا الرّاسخون هو يؤمنون ، وجعلنا قوله : { والمؤتون الزكاة } عطفاً على المؤمنون لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء ، أو على تقدير مبتدأ محذوف ، أي : هم المؤتون الزكاة . قوله : { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } هم مؤمنو أهل الكتاب ، وصفوا أوّلاً بالرسوخ في العلم ، ثم بالإيمان بكتب الله ، وأنهم يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بالله ، واليوم الآخر . وقيل المراد بهم : المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، كما سلف ، وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف ، والإشارة بقوله : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } إلى { الرّاسخون } ، وما عطف عليه .

/خ165