الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

قوله تعالى : " لكن الراسخون في العلم منهم " استثنى مؤمني أهل الكتاب ، وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا ؛ فنزل " لكن الراسخون في العلم " والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ الثبوت ؛ وقد تقدم في " آل عمران{[5129]} " والمراد عبدالله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما . " والمؤمنون " أي من المهاجرين والأنصار ، أصحاب محمد عليه السلام . " والمقيمين الصلاة " وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة : " والمقيمون " على العطف ، وكذا هو في حرف عبدالله ، وأما حرف أبي فهو فيه " والمقيمين " كما في المصاحف . واختلف في نصبه على أقوال ستة ، أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح ، أي وأعني المقيمين ، قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ، ومن ذلك " والمقيمين الصلاة " وأنشد :

وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم *** إلا نُمَيرا أطاعت أمر غاويها

ويروى ( أمر مرشدهم ) .

الظاعنين{[5130]} ولما يظعنوا أحدا *** والقائلون لمن دارٌ نُخَلِّيها

وأنشد{[5131]} :

لا يبعدن قومي الذين هم *** سُمُّ العُداة وآفة الجُزْرِ

النازلين بكل معترك *** والطيبون معاقد الأُزْرِ

قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في " المقيمين " . وقال الكسائي : " والمقيمين " معطوف على " ما " . قال النحاس قال الأخفش : وهذا بعيد ؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين . وحكى محمد بن جرير{[5132]} أنه قيل له : إن المقيمين ههنا الملائكة عليهم السلام ؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار ، واختار هذا القول ، وحكى أن النصب على المدح بعيد ؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الراسخين في " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " فلا ينتصب " المقيمين " على المدح . قال النحاس : ومذهب سيبويه في قوله : " والمؤتون " رفع بالابتداء . وقال غيره : هو مرفوع على إضمار مبتدأ ، أي هم المؤتون الزكاة . وقيل : " والمقيمين " عطف على الكاف التي في " قبلك " . أي من قبلك ومن قبل المقيمين . وقيل : " المقيمين " عطف على الكاف التي في " إليك " . وقيل : هو عطف على الهاء والميم ، أي منهم ومن المقيمين ، وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز ؛ لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض . والجواب السادس : ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية وعن قوله : " إن هذان لساحران{[5133]} " [ طه : 63 ] ، وقوله : " والصابئون{[5134]} " في " المائدة : 69 ] ، فقالت للسائل : يا ابن أخي{[5135]} الكتاب أخطؤوا . وقال أبان بن عثمان : كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون " ثم قال له : ما أكتب ؟ فقيل له : اكتب " والمقيمين الصلاة " فمن ثم وقع هذا .

قال القشيري : وهذا المسلك باطل ؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة ، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل . وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل ، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري ، والله أعلم{[5136]} .


[5129]:راجع ج 4ص 16 وما بعدها.
[5130]:قوله: (الظاعنين ولما يظعنوا أحدا) أي يخافون من عدوهم لقلتهم وذلهم فيظعنون، ولا يخاف منهم عدوهم فيظعن عن دارهم خوفا منهم. وقوله: (لمن دار نخليها) أي إذا ظعنوا عن دار لم يعرفوا من يحلها بعدهم لخوفهم من جميع القبائل. والبيتان لابن خياط.
[5131]:البيتان لخرنق بنت عفان من بني قيس، وصفت قومها بالظهور على العدو، ونحر الجزر للأضياف والملازمة للحرب، والعفة عن الفواحش.
[5132]:في الأصول: محمد بن يزيد.
[5133]:راجع ج 11 ص 215.
[5134]:راجع ص 246 من هذا الجزء.
[5135]:في الطبري (يابن أختي).
[5136]:من ك.