28- إن حالكم تثير العجب ! كيف تكفرون ولا توجد شبهة تعتمدون عليها في كفركم ؟ ونظرة إلى حالكم تأبى هذا الكفر ولا تدع لكم عذراً فيه ، فقد كنتم أمواتاً فخلقكم الله ووهبكم الحياة وحسن التقويم ، ثم هو الذي يعيدكم أمواتاً عند انتهاء أجلكم ، ثم يبعثكم أحياء مرة أخرى للحساب والعقاب ثم إليه - لا إلى غيره - تعودون فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم .
قوله تعالى : { كيف تكفرون بالله } . بعد نصب الدلائل ووضوح البراهين ثم ذكر الدلائل فقال :
قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً } . نطفاً في أصلاب آبائكم .
قوله تعالى : { فأحياكم } في الأرحام والدنيا .
قوله تعالى : { ثم يميتكم } . عند انقضاء آجالكم .
قوله تعالى : { ثم يحييكم } . للبعث .
قوله تعالى : { ثم إليه ترجعون } . أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم . قرأ يعقوب ترجعون كل القرآن بفتح الياء والتاء على تسمية الفاعل .
ثم قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار ، أي : كيف يحصل منكم الكفر بالله ، الذي خلقكم من العدم ، وأنعم عليكم بأصناف النعم ، ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ، ويجازيكم في القبور ، ثم يحييكم بعد البعث والنشور ، ثم إليه ترجعون ، فيجازيكم الجزاء الأوفى ، فإذا كنتم في تصرفه ، وتدبيره ، وبره ، وتحت أوامره الدينية ، ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي ، أفيليق بكم أن تكفروا به ، وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة{[82]} ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه ، وترجوا ثوابه .
وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم :
( كيف تكفرون بالله ، وكنتم أمواتا فأحياكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ؟ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) . .
والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع ، مجرد من كل حجة أو سند . . والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته ، والاعتراف به ، والتسليم بمقتضياته . يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم . لقد كانوا أمواتا فأحياهم . كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة . إنهم أحياء ، فيهم حياة . فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة ؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت ؟ إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات . فمن أين جاءت ؟ إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس ؛ ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات . من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من الموات ؟ . . لقد جاءت من عند الله . . هذا هو أقرب جواب . . وإلا فليقل من لا يريد التسليم : أين هو الجواب !
وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام :
( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ؟ ) . .
كنتم أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض فأنشا فيكم الحياة ( فأحياكم ) . . فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة ؟
ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلا ، فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة ، وتفرض نفسها عليهم فرضا ، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال .
وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون ؛ كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين ، المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة . وهي حين يتدبرون النشأة الأولى ، لا تدعو إلى العجب ، ولا تدعو إلى التكذيب .
كما بدأكم تعودون ، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون ، وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة ، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه . .
وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوى ، وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة الباريء : ينشرها من همود الموت أول مرة ، ثم يقبضها بيد الموت في الأولى ، ثم يحييها كرة أخرى ، وإليه مرجعها في الآخرة ، كما كانت منه نشأتها في الأولى . . وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة ، ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة .
يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته ، وأنه الخالق المتصرف في عباده : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } أي : كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره ! { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } أي : قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود ، كما قال تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ } [ الطور : 35 ، 36 ] ، وقال { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } [ الإنسان : 1 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [ غافر : 11 ] قال : هي التي في البقرة : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
وقال ابن جُريج{[1449]} ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } أمواتا في أصلاب آبائكم ، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم ، ثم يميتكم موتة الحق ، ثم يحييكم حين يبعثكم . قال : وهي مثل قوله : { [ رَبَّنَا ]{[1450]} أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قال : كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم{[1451]} ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى . فهذه ميتتان وحياتان ، فهو كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
وهكذا روي عن السدي بسنده ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة - وعن أبي العالية والحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نَحْوُ ذلك .
وقال الثوري ، عن السدي عن أبي صالح : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قال : يحييكم{[1452]} في القبر{[1453]} ، ثم يميتكم .
وقال ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ خلقهم في{[1454]} ظهر آدم ثم أخذ{[1455]} عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة . وذلك كقول الله تعالى : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } وهذا غريب والذي قبله . والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس ، وأولئك الجماعة من التابعين ، وهو كقوله تعالى : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [ الجاثية : 26 ] .
[ وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس ، كما قال في الأصنام : { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } [ النحل : 21 ] ، وقال { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [ يس : 33 ]{[1456]} .
القول في تأويل قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم بما حدثني به موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة عن بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم يقول لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة .
وحدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال هي كالتي في البقرة كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم .
وحدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا عبثر قال حدثنا حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ثم أحييتنا .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم عن حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كانوا أمواتا فأحياهم الله ثم أماتهم ثم أحياهم .
وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج عن بن جريج عن مجاهد في قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم قال لم تكونوا شيئا حين خلقكم ثم يميتكم الموتة الحق ثم يحييكم ، وقوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين مثلها .
وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن بن جريج قال حدثني عطاء الخرساني عن بن عباس قال هو قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين .
وحدثت عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال حدثني أبو العالية في قول الله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا يقول حين لم يكونوا شيئا ثم أحياهم حين خلقهم ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ثم رجعوا إليه بعد الحياة .
وحدثت عن المنجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن بن عباس في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه إحياءة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه إحياءة فهما ميتتان وحياتان فهو قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .
وقال آخرون بما حدثنا به أبو كريب قال حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي صالح كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون قال يحييكم في القبر ثم يميتكم .
وقال آخرون بما حدثنا به بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية .
قال كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان .
وقال بعضهم بما حدثني به يونس قال أنبأنا بن وهب قال قال ابن زيد في قول الله تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق وقرأ : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حتى بلغ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون قال فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق . قال وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيري فخلق منه حواء ذكره عن النبي ، قال وذلك قول الله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، قال وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، قال خلقا بعد ذلك ، قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة فذلك قول الله ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ، وقرأ قول الله : وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ؛ قال يومئذ ، قال : وقرأ قول الله : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا .
قال أبو جعفر ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل :
فأما وجه تأويل من تأول قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم أي لم تكونوا شيئا فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر هذا شيء ميت وهذا أمر ميت يراد بوصفه بالموت خمول ذكره ودروس أثره من الناس ، وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه هذا أمر حي وذكر حي يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس كما قال أبو نخيلة السعدي :
فأحييت لي ذكري وما كنت خاملا *** ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
يريد بقوله فأحييت لي ذكري أي رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا بعد أن كان خاملا ميتا ، فكذلك تأويل قول من قال في قوله : ( وكنتم أمواتا ) لم تكونوا شيئا أي كنتم خمولا لا ذكر لكم وذلك كان موتكم ، فأحياكم فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم من دروس ذكركم وتعفي آثاركم وخمول أموركم ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ونفخ الروح فيها وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم .
وأما وجه تأويل من تأول ذلك أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله وكنتم أمواتا إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم ، وذلك معنى بعيد لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم لا استعتاب واسترجاع ، وقوله جل ذكره كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا توبيخ مستعتب عباده وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الإنابة ولا إنابة في القبور بعد الممات ولا توبة فيها بعد الوفاة .
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ؛ فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها ، وإحياؤه إياها تعالى ذكره نفخه الأرواح فيها وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود .
وأما ابن زيد فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك وأن الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة .
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول الله الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وزعم ابن زيد في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات وأماتهم ثلاث إماتات ، والأمر عندنا وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف ، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين ، أعني قوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية ، وقوله : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، في شيء ، لأن أحدا لم يدع أن الله أمات من ذرأ يومئذ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد .
وقال بعضهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور فيرد في جسده روحه فيعود حيا سويا لبعث القيامة فذلك موتتان وحياتان .
وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول لأنهم قالوا موت ذي الروح مفارقة الروح إياه فزعموا أن كل شيء من بن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح ، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح فارقته الحياة فصار ميتا ، كالعضو من أعضائه مثل اليد من يديه والرجل من رجليه لو قطعت وأبينت والمقطوع ذلك منه حي كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح ، قالوا فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه وهذا قول ووجه من التأويل لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم .
وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية ، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله وكنتم أمواتا أموات الذكر خمولا في أصلاب آبائكم نطفا لا تعرفون ولا تذكرون فأحياكم بانشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك كما قال : ثم إليه ترجعون لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم ثم يحشرهم لموقف الحساب كما قال جل ذكره : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، وقال : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون .
والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ما قد قدمنا ذكره للقائلين به وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل .
وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين آمنا بالله وباليوم الآخر الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم غير مؤمنين به وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين ، فعذلهم الله بقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة ، فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم .
ثم عدد ربنا عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم التي عظمت منهم مواقعها ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها بما ركبوا من الآثام واجترموا من الإجرام وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، يحذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم ، ويخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم ، ويعرفهم مالهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه وتعجيل التوبة من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب ؛ فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه وما سلف منه من كرامته إليه وآلائه لديه وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به ، وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه ، وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل إذا استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة .
منبها لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة وقضائه في المستكبرين عن الإنابة إعذارا من الله بذلك إليهم وإنذارا لهم ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب ، وخاصا أهل الكتاب بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان ، بالاحتجاج عليهم دون غيرهم من سائر أصناف الأمم الذين لا علم عندهم بذلك لنبيه محمد ليعلموا بإخباره إياهم بذلك أنه لله رسول مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده .
إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص من مكنون علومهم ومصون ما في كتبهم وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم ، وكان معلوما من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ولا لأسفارهم تاليا ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا ، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم فقال جل ذكره في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه مع كفرهم به وتركهم شكره عليها مما يجب له عليهم من طاعته .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 )
وقوله تعالى : { كيف تكفرون } لفظه الاستفهام وليس به ، بل هو تقرير وتوبيخ ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه ؟ و { كيف } في موضع نصب على الحال والعامل فيها { تكفرون } ، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون ؟ و { كيف } مبنية ، وخصت بالفتح لخفته ، ومن قال إن { كيف } تقرير وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم ، والواو في قوله { وكنتم } واو الحال( {[389]} ) ، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين : فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد .
«فالمعنى كنتم أمواتاً معدومين قبل أن تخلقوا دارسين ، كما يقال للشيء الدارس ميت ، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة »( {[390]} ) .
وقال آخرون : «كنتم أمواتاً بكون آدم من طين ميتاً قبل أن يُحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما تقدم » .
وقال قتادة : «كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم كما تقدم » .
وقال غيره : «كنتم أمواتاً في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم » .
وقال ابن زيد : «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتاً ، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم » .
وقال ابن عباس وأبو صالح : «كنتم أمواتاً بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور ، ثم أماتكم فيها ، ثم أحياكم للبعث » .
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : «وكنتم أمواتاً بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والقول الأول هو أولى هذه الأقوال ، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه ، ثم إن قوله أولاً { كنتم أمواتاً } وإسناده آخراً الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها ، والضمير في { إليه } عائد على الله تعالى أي إلى ثوابه أو عقابه ، وقيل هو عائد على الاحياء ، والأول أظهر .
وقرأ جمهور الناس «تُرجَعون » بضم التاء وفتح الجيم .
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان( {[391]} ) ويعقوب الحضرمي : «يَرجع ويَرجعون وتَرجعون » بفتح الياء والتاء حيث وقع . ( {[392]} )