قوله تعالى { فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاستفته يا محمد هؤلاء المشركين الذين ينكرون المبعث والنشور ، وسلهم أهم أشد خلقا أو أقوى أجسادا وعزما أم من خلقنا ؟ وفي قراءة عبد الله بن مسعود( أهم أشد خلقا أم من عددنا ) ، و{ أم من خلقنا } أي السموات والأرض والجبال ، وقد أجاب الله سبحانه وتعالى المشركين بقوله { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } . . . الآية ، وعن السدي أنه قال في { فاستفتهم أهم أشد خلقا } يعني المشركين ، { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } .
وقوله :{ أنا خلقناهم من طين لازب } أي من طين لاصق ، وإنما وصفه جل ثناؤه باللزوب لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء ، والتراب إذا خلط بماء صار طينا لازبا ، وعن ابن عباس في قوله :{ من طين لازب } قال : هو الطين الحر الجيد اللزج ، وقال في موضع آخر :{ من طين لازب } ملتصق ، وقال : { من طين لازب } من التراب والماء فيصير طينا يلزق . أما ابن زيد فقال : اللازب هو الذي يلتصق كأنه غراء .
ولما بين هذه المخلوقات العظيمة قال : { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : اسأل منكري خلقهم بعد موتهم . { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا } أي : إيجادهم بعد موتهم ، أشد خلقا وأشق ؟ . { أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } من [ هذه ] المخلوقات ؟ فلا بد أن يقروا أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس .
فيلزمهم إذا الإقرار بالبعث ، بل لو رجعوا إلى أنفسهم وفكروا فيها ، لعلموا أن ابتداء خلقهم من طين لازب ، أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم ، ولهذا قال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ } أي : قوي شديد كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَآ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاستفت يا محمد هؤلا المشركين الذي يُنكرون البعث بعد الممات والنشور بعد البلاء : يقول : فسَلْهم : أهم أشدّ خلقا ؟ يقول : أخلقُهم أشدّ ؟ أم يخلق من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض ؟ .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : «أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ خَلَقْنا ؟ قال : السموات والأرض والجبال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك أنه قرأ : «أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » ؟ . وفي قراءة عبد الله بن مسعود «عَدَدْنا » يقول : رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبّ المَشارِقِ يقول : أهم أشدّ خلقا ، أم السموات والأرض ؟ يقول : السموات والأرض أشدّ خلقا منهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة «فاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » من خَلْق السموات والأرض ، قال الله : لَخَلَقُ السّمَواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ . . . الاَية .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدّ خَلْقا قال يعني المشركين ، سلهم أهم أشدّ خلقا أمْ مَنْ خَلَقْنا .
وقوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يقول : إنا خلقناهم من طين لاصق . وإنما وصفه جلّ ثناؤه باللّزوب ، لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خَلْق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء والتراب إذا خُلط بماء صار طينا لازبا ، والعرب تُبدل أحيانا هذه الباء ميما ، فتقول : طين لازم ومنه قول النجاشي الحارثي :
بَنَى اللّؤْمُ بَيْتا فاسْتَقَرّتْ عِمادُهُ *** عليكُمْ بَنِي النّجّارِ ضَرْبَةَ لازِمِ
ومن اللازب قول نابغة بني ذُبيان :
وَلا يَحْسِبُونَ الخَيْرَ لا شَرّ بَعْدهُ *** وَلا يَحْسَبُونَ الشّرّ ضَرْبَةَ لازِبِ
وربما أبدلوا الزاي التي في اللازب تاء ، فيقولون : طين لاتب ، وذُكر أن ذلك في قَيس زعم الفراء أن أبا الجرّاح أنشده :
صُدَاعٌ وَتَوْصِيمُ العِظامِ وَفَتْرَةٌ *** وَغَثْيٌ معَ الإشْراقِ في الجوْفِ لاتِبَ
بمعنى : لازم ، والفعل من لازب : لَزِبَ يَلْزُب ، لزْبا ولُزوبا ، وكذلك من لاتب : لَتَبَ يَلْتُب لُتُوبا . وبنحو الذي قلنا في معنى لازِبِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيري ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : هو الطين الحرّ الجيد اللزج .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : اللازب : الجيد .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : اللازب : اللّزج ، الطيب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ يقول : ملتصق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : من التراب والماء فيصير طينا يَلْزَق .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : اللازب : اللّزِج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ واللازب : الطين الجيد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ واللازب : الذي يَلْزَق باليد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : لازم .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله : مِن طِينٍ لازِبٍ قال : هو اللازق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : اللازب : الذي يلتصق كأنه غِراء ، ذلك اللازب .
{ فاستفتهم } فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم . { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب . و { من } لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك . وقراءة من قرأ " أم من عددنا " ، وقوله : { إنا خلقناهم من طين لازب } فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود ، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد ، وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة ، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك ، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاستفتهم} يقول: سلهم {أهم أشد خلقا}: سل هؤلاء أهم أشد خلقا بعد موتهم لأنهم كفروا بالبعث.
{أم من خلقنا} يعني خلق السماوات والأرض، وما بينهما والمشارق، لأنهم يعلمون أن الله جل وعز خلق هذه الأشياء، ثم أخبر عن خلق الإنسان، فقال جل وعز: {إنا خلقناهم} يعني آدم {من طين لازب} يعني لازب بعضه في البعض، فهذا أهون خلقا عند هذا المكذب بالبعث من خلق السماوات والأرض وما بينهما والمشارق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاستفت يا محمد هؤلاء المشركين الذي يُنكرون البعث بعد الممات والنشور بعد البلاء: يقول: فسَلْهم:"أهم أشدّ خلقا"؟ يقول: أخلقُهم أشدّ؟ أم يخلق من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض؟...
وقوله: "إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ "يقول: إنا خلقناهم من طين لاصق. وإنما وصفه جلّ ثناؤه باللّزوب، لأنه تراب مخلوط بماء، وكذلك خَلْق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء، والتراب إذا خُلط بماء صار طينا لازبا، والعرب تُبدل أحيانا هذه الباء ميما، فتقول: طين لازم... عن ابن عباس، في قوله: "مِنْ طِينٍ لازِبٍ "قال: هو الطين الحرّ الجيد اللزج.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
سلهم: أخلقهم وإعادتهم أشد وأكبر وأعظم؟ وإذا أقررتم أنتم بقدرته على خلق السماوات والأرض كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم بعد ما متّم، وكنتم ترابا ورُفاتا.
{إنا خلقناهم من طين لازِب} يذكر ضعفهم وشدة ما خلق من سواهم، إنكم تعلمون ضعف أنفسكم وعجزها وشدة من سواكم وقوتها وصلابتها، ثم إنها مع شدتها وقوّتها وصلابتها أخضع لله وأطوع منكم نحو ما ذكر من طاعتها له وخضوعها حين قال عز وجل: {ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11].
{فاستفتهم} يخرّج من الله عز وجل على وجوه:
أحدها: على التقدير عندهم والتنبيه لهم.
والثاني: على التعيير لهم والتوبيخ.
والثالث على التعليم للنبي صلى الله عليه وسلم جهة الحِجاج والمناظرة في ما بينهم وبيّن خصومهم. وهكذا كل سؤال أو استفتاء كان من خبير عليم لمن دونه؛ يخرّج على هذه الوجوه. وكل سؤال أو استفتاء كان من الجهّال لخبير عليم، يخرّج على استرشاد وطلب للصواب.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ}: من الأُمم الخالية، وقد أهلكناهم بذنوبهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَرّفهم عَجْزَهم عن الإثبات، وضعفهم في كل حال، ثم ذكرهم نسبتهم أنها إلى الطين اللازب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قوله تهكماً بهم: {فاستفتهم} أي سلهم أن يتفتوا بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث، وأصله من الفتوة وهي الكرم.
{إنا خلقناهم} أي على عظمتنا {من طين} أي تراب رخو مهين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا ينتظر منهم جواباُ، فالأمر ظاهر؛ إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب، وغفلتهم عما حولهم، والسخرية من تقديرهم للأمور، ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى، وهي طين رخو لزج من بعض هذه الأرض، التي هي إحدى تلك الخلائق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستفتاء: طلب الفَتوى بفتح الفاء وبالواو، ويقال: الفُتْيَا بضم الفاء وبالياء، وهي إخبار عن أمر يخفَى عن غير الخواصّ في غرض مَّا.
فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمراً محتاجاً إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء.