المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

178- ومن الشرائع التي فرضناها على المؤمنين أحكام القتل العمد ، فقد فرضنا عليكم القصاصَ بسبب القتل ، ولا تأخذوا بظلم أهل الجاهلية{[11]} الذين كانوا يقتلون الحر غير القاتل بالعبد ، والذكر الذي لم يقتل بالأنثى ، والرئيس غير القاتل بالمرءوس القاتل دون مجازاة القاتل نفسه ، فالحر القاتل يقتل بالحر المقتول ، وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فأساس القصاص هو دفع الاعتداء في القتل بقتل القاتل للتشفي ومنع البغي ، فإن سَمَت نفوس أهل الدم ودفعوا بالتي هي أحسن فآثروا العفو عن إخوانهم وجب لهم دية قتيلهم ، وعلى أولياء الدم اتباع هذا الحكم بالتسامح دون إجهاد للقاتل أو تعنيف ، وعلى القاتل أداء الدين دون مماطلة أو بخس ، وفى حكم القتل الذي فرضناه على هذا الوجه تخفيف على المؤمنين بالنسبة إلى حكم التوراة الذي يوجب في القتل القصاص ، كما فيه رحمة بهم بالنسبة إلى الذين يدعون إلى العفو من غير تعرض للقاتل ، فمن جاوز هذا الحكم بعد ذلك فله عذاب أليم في الدنيا والآخرة .


[11]:كان العرب في الجاهلية لا يسوون بين الأشراف والضعفاء، فإذا قتل زعيم لا يكتفي يقاتله بل قد يترك القاتل ليقتص من زعيم قبيلة القاتل، فالدماء عندهم ليست متساوية والنفوس ليست واحدة، وما كان الإسلام ليسمح بهذا بل شرع القصاص، فالنفس بالنفس فمن قتل يقتل. فالحر أيا كان يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد والأنثى تقتل بالأنثى، فهذا موجب المساواة في الدماء ليس هناك دم أزرق شريف ودم غير شريف. وقد يفهم بالإشارة أن العبد لا يقتل بالحر أو الحر لا يقتل بالعبد ولكن صريح العبارة في آية أخرى وفي أحاديث نبوية تفيد أن القصاص فيه النفس بالنفس، وهي شريعة خالدة كانت في التوراة والإنجيل والقرآن فقد قال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفسي بالنفس} راجع سورة المائدة. والنبي يقول: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" ويقول: "النفس بالنفس". ويلاحظ أن الإسلام في القصاص للقتلى نظر إلى أمر لم ينظر إليه القانونيون، وهو أنه جعل القصاص حقا لأولياء الدم شفاء لغيظ نفوسهم ومنعا لإهدار دم بريء، ولذلك كان لهم حق العفو أو القصاص، ولم يمنع ولي الأمر من أن يقتل تعزيزا إذا رأى في ذلك مصلحة. ولم ينظر الإسلام إلى البواعث لأن القاتل ظالم مهما تكن البواعث، وقد أدى النظر في البواعث إلى الرأفة بالجاني وإهمال المجني عليه مما أدى إلى عادة الأخذ بالثأر وتسلسل جرائم القتل، لأنه لم يشف أولياء الدم، وإن هذه النظرية الإسلامية تدرس الآن في الجامعات الأوربية.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } . قال الشعبي والكلبي وقتادة : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام ، قال قتادة ومقاتل بن حيان : كانت بين بني قريظة والنضير ، وقال سعيد بن جبير : وكانت بين الأوس والخزرج ، وقالوا جميعاً : وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، فأقسموا : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ؛ وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وبالرجلين منا أربعة رجال منهم ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا .

قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص } . أي فرض عليكم القصاص . والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات ، وأصله من قص الأثر إذا اتبعه ، فالمفعول به يتبع ما فعل به فيفعل مثله . ثم بين المماثلة فقال : قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان في الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم ، قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى ، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ، ولا والد بولد ، ولا مسلم بذمي ، ويقتل الذمي بالمسلم ، والعبد بالحر ، والولد هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال : سألت علياً رضي الله عنه هل عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن ؟ فقال لا : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر .

وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد " .

وذهب الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالكافر الذمي ، وإلى أن الحر يقتل بالعبد ، والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم بقتل الذمي ، وتقتل الجماعة بالواحد .

روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة ، وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعاً .

ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس ، إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض الزمن ، وفي الأطراف لو قطع يداً شلاء أو ناقصة بأصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأطراف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ، ولا يجري بين الذكر والأنثى ، ولا بين الحر والعبد ، وعند الآخرين : الطرف في القصاص مقيس على النفس .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن منيرة أنه سمع عبد الله بن بكر السهمي ، أخبرنا حميد عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو ، فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فقال أنس بن النضر : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس كتب الله القصاص فرضي القوم فعفوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " .

قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } . أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين ، قالوا : العفو أن تقبل الدية في قتل العمد وقوله : من أخيه . أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله : له ومن أخيه ترجعان إلى من وهو القاتل ، وقوله : شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود ، لأن شيئاً من الدم قد بطل .

قوله تعالى : { فاتباع بالمعروف } . أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه .

قوله تعالى : { وأداء إليه بإحسان } . أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة ، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه ، ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية ، وإن لم يرض به القاتل ، وقال قوم : لا دية له إلا برضا القاتل ، وهو قول الحسن والنخعي وأصحاب الرأي ، وحجة المذهب الأول :

ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل " .

قوله تعالى : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص ، وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة ، وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتماً في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية ، وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص ، فخير الله هذه الأمة بين القصاص وبين العفو على الدية تخفيفاً منه ورحمة .

قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك } . فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية .

قوله تعالى : { فله عذاب أليم } . وهو أن يقتل قصاصاً ، قال ابن جريج : يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو ، وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً بالقتل ، لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) وقال في آخر الآية : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) وأراد به أخوة الإيمان ، فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بأنه فرض عليهم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي : المساواة فيه ، وأن يقتل القاتل على الصفة ، التي قتل عليها المقتول ، إقامة للعدل والقسط بين العباد .

وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين ، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم ، حتى أولياء القاتل ، حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول ، إذا طلب القصاص وتمكينه{[120]}  من القاتل ، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد ويمنعوا الولي من الاقتصاص ، كما عليه عادة الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين .

ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها ، الذكر بالذكر ، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر ، والذكر بالأنثى ، فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله : " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة ، على أن الذكر يقتل بالأنثى ، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا ، فلا يقتلان بالولد ، لورود السنة بذلك ، مع أن في قوله : { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه ليس من العدل ، أن يقتل الوالد بولده ، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة ، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله ، أو أذية شديدة جدا من الولد له .

وخرج من العموم أيضا ، الكافر بالسنة ، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة .

وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه ، والعبد بالعبد ، ذكرا كان أو أنثى ، تساوت قيمتهما أو اختلفت ، ودل بمفهومها على أن الحر ، لا يقتل بالعبد ، لكونه غير مساو له ، والأنثى بالأنثى ، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة ، وتقدم وجه ذلك .

وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل ، وأن الدية بدل عنه ، فلهذا قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي : عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية ، أو عفا بعض الأولياء ، فإنه يسقط القصاص ، وتجب الدية ، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي .

فإذا عفا عنه وجب على الولي ، [ أي : ولي المقتول ] أن يتبع القاتل { بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه ، ولا يحمله ما لا يطيق ، بل يحسن الاقتضاء والطلب ، ولا يحرجه .

وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص ، ولا إساءة فعلية أو قولية ، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو ، إلا الإحسان بحسن القضاء ، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان ، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف ، ومن عليه الحق ، بالأداء بإحسان{[121]} .

وفي قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية ، وأحسن من ذلك العفو مجانا .

وفي قوله : { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر ، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان ، فلم يخرج بالقتل منها ، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر ، لا يكفر بها فاعلها ، وإنما ينقص بذلك إيمانه .

وإذا عفا أولياء المقتول ، أو عفا بعضهم ، احتقن دم القاتل ، وصار معصوما منهم ومن غيرهم ، ولهذا قال : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد العفو { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة ، وأما قتله وعدمه ، فيؤخذ مما تقدم ، لأنه قتل مكافئا له ، فيجب قتله بذلك .

وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل ، فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله ، ولا يجوز العفو عنه ، وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول ، لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره .


[120]:- في ب: ويمكنه.
[121]:- في ب: بالإحسان.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

يعني تعالى ذكره بقوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى فرض عليكم .

فإن قال قائل : أفرض على وليّ القتيل القصاص من قاتل وليه ؟ قيل : لا ولكنه مباح له ذلك ، والعفو ، وأخذ الدية .

فإن قال قائل : وكيف قال : كُتِبَ عَلَيْكُم القِصَاصُ ؟ قيل : إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه ، وإنما معناه : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى . أي أن الحرّ إذا قتل الحرّ ، فدم القاتل كفء لدم القتيل ، والقصاص منه دون غيره من الناس ، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل ، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غير قاتله . والفرض الذي فرض الله علينا في القصاص هو ما وصفت من ترك المجاوزة بالقصاص قتل القاتل بقتيله إلى غيره ، لا أنه وجب علينا القصاص فرضا وجوب فرض الصلاة والصيام حتى لا يكون لنا تركه ، ولو كان ذلك فرضا لا يجوز لنا تركه لم يكن لقوله : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ ) معنى مفهوم ، لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال : فمن عفي له من أخيه شيء .

وقد قيل : إن معنى القصاص في هذه الآية مقاصة ديات بعض القتلى بديات بعض ، وذلك أن الآية عندهم نزلت في حزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بعضهم بعضا ، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم ، بأن تسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الاَخرين ، وديات رجالهم بديات رجالهم ، وديات عبيدهم بديات عبيدهم قصاصا ، فذلك عندهم معنى القصاص في هذه الآية .

فإن قال قائل : فإنه تعالى ذكره قال : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنَثى بالأُنَثى . فما لنا أن نقتصّ للحرّ إلا من الحرّ ، ولا للأنثى إلا من الأنثى ؟ قيل : بل لنا أن نقتصّ للحرّ من العبد وللأنثى من الذكر ، بقول الله تعالى ذكره : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيّهِ سُلْطانا ) وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «المسلمونَ تتكافأُ دِماؤُهُمْ » .

فإن قال : فإذ كان ذلك ، فما وجه تأويل هذه الآية ؟ قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عبد قوم آخرين لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله من أجل أنه عبد حتى يقتلوا به سيده ، وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلاً لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة ، حتى يقتلوا رجلاً من رهط المرأة وعشيرتها ، فأنزل الله هذه الآية ، فأعلمهم أن الذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره ، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال ، وبالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار ، فنهاهم أن يتعدّوا القاتل إلى غيره في القصاص . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قالا : حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : الحُرّ بالحُرّ وَالَعبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى . قال : نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمية ، فقالوا : نقتل بعبدنا فلان ابن فلان ، وبفلانة فلان ابن فلان ، فأنزل الله : الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ وَالأنْثَى بالأنْثَى .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : كُتِبَ عَلَيْكُم القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى قال : كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي إذا كان فيهم عدّة ومنعة ، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم ، قالوا : لا نقتل به إلا حرا تعززا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم ، وإذا قتلت لهم امرأة قتلتها امرأة قوم آخرين ، قالوا : لا نقتل بها إلا رجلاً . فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فنهاهم عن البغي . ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالعَيْنَ بالعَيْن وَالأنْفَ بالأنْفِ وَالأُذُنَ بالأذُنِ وَالسّنّ بالسّنّ والجُروحَ قِصَاصٌ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كُتِبَ عَلَيْكُم القِصَاص فِي القُتْلَى قال : لم يكن لمن قبلنا دية إنما هو القتل أو العفو إلى أهله ، فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم ، فكانوا إذا قتل من الحي الكثير عبد ، قالوا : لا نقتل به إلا حرا ، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلاً ، فأنزل الله : الحُرّ بالحُر والعَبْدُ بالعَبْد وَالأنْثَى بالأنْثَى .

حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن عامر في هذه الآية : كُتِبَ عَلَيْكُم القِصَاص فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ وَالأُنْثَى بالأُنْثَى قال : إنما ذلك في قتال عمية إذا أصيب من هؤلاء عبد ومن هؤلاء عبد تكافآ ، وفي المرأتين كذلك ، وفي الحرين كذلك ، هذا معناه إن شاء الله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : دخل في قول الله تعالى ذكره : الحُرّ بالحُرّ الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل . وقال عطاء : ليس بينهما فضل .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل من كلا الفريقين جماعة من الرجال والنساء ، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصا بديات النساء من الفريق الاَخر ، وديات الرجال بالرجال ، وديات العبيد بالعبيد فذلك معنى قوله : كُتِب عَلَيْكُم القِصَاص فِي القَتْلَى . ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : كُتِبَ عَلْيكُم القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ وَالأُنْثَى بالأُنْثَى . قال : اقتتل أهل ملّتين من العرب أحدهما مسلم والاَخر معاهد في بعض ما يكون بين العرب من الأمر ، فأصلح بينهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء على أن يؤدي الحرّ دية الحرّ ، والعبد دية العبد ، والأنثى دية الأنثى ، فقاصهم بعضهم من بعض .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن السدي عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتال ، كان لأحدهما على الاَخر الطّوْل ، فكأنهم طلبوا الفضل ، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية : الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْد والأُنْثَى بالأُنْثَى فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى قال : نزلت في قتال عمية قال شعبة : كأنه في صلح قال : اصطلحوا على هذا .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى قال : نزلت في قتال عمية ، قال : كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره بمقاصة دية الحر ودية العبد ودية الذكر ودية الأنثى في قتل العمد إن اقتص للقتيل من القاتل ، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى . قال : حُدثنا عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول : أيما حر قتل عبدا فهو قَوَدٌ به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه ، وقاصّوهم بثمن العبد من دية الحر ، وأدوا إلى أولياء الحر بقية ديته . وإن عبد قتل حرا فهو به قود ، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد ، وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقية دية الحر ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوا العبد . وأيّ حرّ قتل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدّوا نصف الدية إلى أولياء الحرّ . وإن امرأة قتلت حرّا فهي به قود ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوها ، وأخذوا نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها وإن شاءوا عفوا .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن أن عليا قال في رجل قتل امرأته ، قال : إن شاءوا قتلوه وغرموا نصف الدية .

حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى ، عن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، قالا : لا يقتل الرجل بالمرأة حتى يعطوا نصف الدية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سماك ، عن الشعبي ، قال في رجل قتل امرأته عمدا ، فأتوا به عليا ، فقال : إن شئتم فاقتلوه ، وردّوا فضل دية الرجل على دية المرأة .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في حال ما نزلت والقوم لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة حتى سوّى الله بين حكم جميعهم بقوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ فجعل جميعهم قود بعضهم ببعض . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : والأُنْثَى بالأُنْثَى وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله تعالى : النّفْسَ بالنّفْس فجعل الأحرار في القصاص ، سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد في النفس وما دون النفس ، رجالهم ونساؤهم .

فإذ كان مختلفا الاختلاف الذي وصفت فيما نزلت فيه هذه الآية ، فالواجب علينا استعمالها فيما دلت عليه من الحكم بالخبر القاطع العذر . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العام أن نفس الرجل الحرّ قود قصاصا بنفس المرأة الحرّة ، فإذ كان ذلك كذلك ، وكانت الأمة مختلفة في التراجع بفضل ما بين دية الرجل والمرأة على ما قد بينا من قول عليّ وغيره ، وكان واضحا فساد قول من قال بالقصاص في ذلك والتراجع بفضل ما بين الديتين بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حراما على الرجل أن يتلف من جسده عضوا بعوض يأخذه على إتلافه فدع جميعه ، وعلى أن حراما على غيره إتلاف شيء منه مثل الذي حرم من ذلك بعوض يعطيه عليه ، فالواجب أن تكون نفس الرجل الحرّ بنفس المرأة الحرّة قودا .

وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره : الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى أن لا يقاد العبد بالحرّ ، وأن لا تقتل الأنثى بالذكر ، ولا الذكر بالأنثى . وإذا كان ذلك كذلك كان بينا أن الآية معنيّ بها أحد المعنيين الاَخرين : إما قولنا من أن لا يتعدى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني ، فيؤخذ بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحرّ . وإما القول الاَخر وهو أن تكون الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصاصا بعضها من بعض ، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله .

وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن المقاصة في الحقوق غير واجبة ، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نسخه ، وإذا كان كذلك ، وكان قوله تعالى ذكره : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص . ينبىء عن أنه فرض ، كان معلوما أن القول خلاف ما قاله قائل هذه المقالة ، لأن ما كان فرضا على أهل الحقوق أن يفعلوه فلا خيار لهم فيه ، والجميع مجمعون على أن لأهل الحقوق الخيار في مقاصتهم حقوقهم بعضها من بعض ، فإذا تبين فساد هذا الوجه الذي ذكرنا ، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا .

فإن قال قائل إذ ذكرت أن معنى قوله : كُتِب عَلَيْكُمُ القِصَاصُ بمعنى : فرض عليكم القِصاصُ : لا يعرف لقول القائل «كُتب » معنى إلا معنى خط ذلك فرسم خطا وكتابا ، فما برهانك على أن معنى قوله «كتب » فرض ؟ قيل : إن ذلك في كلام العرب موجود ، وفي أشعارهم مستفيض ، ومنه قول الشاعر :

كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتالُ عَلَيْنا وَعَلى المُحْصَناتِ جَرّ الذّيُولِ

وقول نابغة بني جعدة :

يا بِنْتَ عَمّي كِتابُ اللّهِ أخْرَجَنِي عَنْكُمْ فَهَلْ أمْنَعَنّ اللّهَ ما فَعَلا

وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى . غير أن ذلك وإن كان بمعنى فرض ، فإنه عندي مأخوذ من الكتاب الذي هو رسم وخط ، وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميع ما فرض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ ، فقال تعالى ذكره في القرآن : بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وقال : إنّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا ففي اللوح المحفوظ مكتوب .

فمعنى قول إذْ كان ذلك كذلك : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصاص في القتلى فرضا أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله .

وأما القِصاص فإنه من قول القائل : قاصصت فلانا حقيّ قِبَله من حقه قِبَلي ، قصاصا ومُقاصّةً فَقْتُل القاتل بالذي قتله قصاص ، لأنه مفعول به مثل الذي فعل بمن قتله ، وإن كان أحد الفعلين عدوانا والاَخر حقّا ، فهما وإن اختلفا من هذا الوجه ، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به ، وجعل فعل وليّ القتيل الأول إذا قتل قاتل وليه قصاصا ، إذ كان بسبب قتله استحقّ قتل من قتله ، فكأنّ وليه المقتول هو الذي ولى قتل قاتله فاقتصّ منه .

وأما القتلى ، فإنها جمع قتيل ، كما الصرعى جمع صريع ، والجرحى جمع جريح . وإنما يجمع الفعيل على الفعلى ، إذا كان صفة للموصوف به بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه ، نحو القتلى في معاركهم ، والصرعى في مواضعهم ، والجرحى وما أشبه ذلك .

فتأويل الكلام إذن : فرض عليكم أيها المؤمنون القصاص في القتلى أن يقتصّ الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى . ثم ترك ذكر أن يقتص اكتفاء بدلالة قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ عليه .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْه بإحسانٍ .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : فمن ترك له من القتل ظلما من الواجب كان لأخيه عليه من القصاص ، وهو الشيء الذي قال الله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فاتّباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قِبَله من الدية ، وأداء من المعفوّ عنه ذلك إليه بإحسان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فالعفو أن يقبل الدية في العمد . واتباع بالمعروف أن يطلب هذا بمعروف ويؤدي هذا بإحسان .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْه بإحْسانِ . فقال : هو العمد يرضى أهله بالدية وَاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ أمر به الطالب وأدَاءٌ إليه باحْسانٍ من المطلوب .

حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن سفيان ، قال : حدثنا أبي ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر قالا جميعا : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الذي يقبل الدية ذلك منه عفو ، واتباع بالمعروف ، ويؤدي إليه الذي عفي له من أخيه بإحسان .

حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوف وأدَاءٌ إليْه بإحْسانٍ ؛ وهي الدية أن يحسن الطالب الطلب وأدَاءٌ إلَيْهِ بإحْسانٍ وهو أن يحسن المطلوب الأداء .

حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوف وأدَاءٌ إلَيْهِ بإحْسانٍ . والعفوّ الذي يعفو عن الدم ويأخذ الدية .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ قال : الدية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد ، عن إبراهيم ، عن الحسن : وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ قال : على هذا الطالب أن يطلب بالمعروف ، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْروُفِ والعَفْوّ : الذي يعفو عن الدم ، ويأخذ الدية .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ قال : هو العمد يرضى أهله بالدية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن داود ، عن الشعبي ، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ يقول : قتل عمدا فعفى عنه ، وقبلت منه الدية ، يقول : فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف ، وأمر المؤدي أن يؤدي بإحسان ، والعمد قود إليه قصاص ، لا عَقْل فيه إلا أن يرضوا بالدية ، فإن رضوا بالدية فمائة خَلِفَة ، فإن قالوا : لا نرضى إلا بكذا وكذا فذاك لهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ قال : يتبع به الطالب بالمعروف ، ويؤدي المطلوب بإحسان .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ . يقول : فمن قتل عمدا فعفي عنه وأخذت منه الدية ، يقول : فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ : أمر صاحب الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف ، وأمر المؤدي أن يؤدي بإحسان .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ قال : ذلك إذا أخذ الدية فهو عفو .

حدثنا الحسن ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قال : إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص ، فذلك قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ . قال ابن جريج : وأخبرني الأعرج عن مجاهد مثل ذلك ، وزاد فيه : فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف ، وعلى الذي عفي عنه أن يؤدي بإحسان .

حدثنا المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا أبو عقيل قال : قال الحسن : أخذ الدية عفو حسن .

حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وأدَاءٌ إلَيْهِ بإحْسانٍ قال : أنت أيها المعفوّ عنه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ وهو الدية أن يحسن الطالب ، وأداء إليه بإحسان : هو أن يحسن المطلوب الأداء .

وقال آخرون معنى قوله : فَمَنْ عُفِيَ فمن فضل له فضل وبقيت له بقية . وقالوا : معنى قوله : مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ من دية أخيه شيء ، أو من أَرْش جراحته فاتباع منه القاتل أو الجارح الذي بقي ذلك قبله بمعروف وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان .

وهذا قول من زعم أن الآية نزلت ، أعني قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى ، في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم فيقاص ديات بعضهم من بعض ويردّ بعضهم على بعض بفضل إن بقي لهم قبل الاَخرين . وأحسب أن قائلي هذا القول وجهوا تأويل العفو في هذا الموضع إلى الكثرة من قول الله تعالى ذكره : حَتى عَفَوْا ، فكان معنى الكلام عندهم : فمن كثر له قِبَل أخيه القاتل . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ يقول : بقي له من دية أخيه شيء أو من أرش جراحته ، فليتبع بمعروف وليؤدّ الاَخر إليه بإحسان .

والواجب على تأويل القول الذي روينا عن عليّ والحسن في قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ أنه بمعنى مقاصة دية النفس الذكر من دية النفس الأنثى ، والعبد من الحرّ ، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما أن يكون معنى قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ ، فمن عفي له من الواجب لأخيه عليه من قصاص دية أحدهما بدية نفس الاَخر إلى الرضى بدية نفس المقتول ، فاتباع من الوليّ بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان .

وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ ، فمن صفح له من الواجب كان لأخيه عليه من القود عن شيء من الواجب على دية يأخذها منه ، فاتباع بالمعروف من العافي عن الدم الراضي بالدية من دم وليه ، وأداء إليه من القاتل ذلك بإحسان لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل من أن معنى قول الله تعالى ذكره : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ . إنما هو القصاص من النفوس القاتلة أو الجارحة والشاجة عمدا ، كذلك العفو أيضا عن ذلك .

وأما معنى قوله : فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ فإنه يعني : فاتباع على ما أوجبه الله له من الحق قِبَل قاتل وليه من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه في أسنان الفرائض أو غير ذلك ، أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه . كما :

حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : بلغنا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَن زَادَ أو ازدَادَ بَعِيرا » يعني في إبل الديات وفرائضها «فمِنْ أمْرِ الجاهِلِيةِ » .

وأما إحسان الاَخر في الأداء ، فهو أداء ما لزمه بقتله لولي القتيل على ما ألزمه الله وأوجبه عليه من غير أن يبخسه حقا له قِبَله بسبب ذلك ، أو يُحْوجه إلى اقتضاء ومطالبة .

فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَيْه بإحْسانٍ . ولم يقل : فاتباعا بالمعروف وأداء إليه بإحسان ، كما قال : فإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقاب ؟ قيل : لو كان التنزيل جاء بالنصب ، وكان : فاتباعا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان ، كان جائزا في العربية صحيحا على وجه الأمر ، كما يقال : ضربا ضربا ، وإذا لقيت فلانا فتبجيلاً وتعظيما . غير أنه جاء رفعا ، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه ، وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرا له مما يكون فرضا عاما فيمن قد فعل وفيمن لم يفعل إذا فعل ، لا ندبا وحَثّا . ورفعه على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء فالأمر فيه اتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ، أو : فالقضاء والحكم فيه اتباع بالمعروف .

وقد قال بعض أهل العربية : رفع ذلك على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء فعليه اتباع بالمعروف . وهذا مذهبي ، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام ، وكذلك كل ما كان من نظائر ذلك في القرآن فإنّ رفعه على الوجه الذي قلناه ، وذلك مثل قوله : وَمَن قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَم وقوله : فإمساكٌ بمَعْرُوفٍ أو تَسْريحٌ بإحْسانٍ .

وأما قوله : فَضَرْبَ الرّقابِ فإن الصواب فيه النصب ، وهو وجه الكلام لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عباده على القتل عند لقاء العدوّ كما يقال : إذا لقيتم العدوّ فتكبيرا وتهليلاً ، على وجه الحضّ على التكبير لا على وجه الإيجاب والإلزام .

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ تَخْفيفٌ مِن رَبّكُم وَرَحَمةٌ .

يعني تعالى ذكره بقوله ذلك : هذا الذي حكمت به وسننته لكم من إباحتي لكم أيتها الأمة . العفو عن القصاص من قاتل قتيلكم على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت منعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة ، تَخْفيفٌ مِنْ رَبّكم . يقول : تخفيف مني لكم مما كنت ثقلته على غيركم بتحريم ذلك عليهم ورحمة مني لكم . كما :

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي ، قالا : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية ، فقال الله في هذه الآية : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ إلى قوله : فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبّكُمْ يقول : خفف عنكم ما كان على من كان قبلكم أن يطلب هذا بمعروف ويؤدي هذا بإحسان .

حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان من قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل لا تقبل منهم الدية ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ إلى آخر الآية . ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبّكُمْ . يقول : خفف عنكم ، وكان على من قبلكم أن الدية لم تكن تقبل ، فالذي يقبل الدية ذلك منه عفو .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبّكُم وَرَحَمةٌ مما كان على بني إسرائيل ، يعني من تحريم الدية عليهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان على بني إسرائيل قصاص في القتل ليس بينهم دية في نفس ولا جرح ، وذلك قول الله : وكَتَبْنا عَلَيْهِم فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالعَيْنَ بالعَيْن الآية كلها . وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة ، وذلك قوله تعالى : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبّكُم بينكم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ذَلِكَ تَخْفِيف مِن رَبكُم وَرَحَمَةٌ وإنما هي رحمة رحم الله بها هذه الأمة أطعمهم الدية ، وأحلها لهم ، ولم تحلّ لأحد قبلهم . فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ، وليس بينهما أرش . وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به ، فجعل الله لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا أحلها لهم ، ولم تكن لأمة قبلهم .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله سواء ، غير أنه قال : ليس بينهما شيء .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاص فِي القَتْلَى قال : لم يكن لمن قبلنا دية ، إنما هو القتل أو العفو إلى أهله ، فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وأخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : إن بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص ، وخفف عن هذه الأمة . وتلا عمرو بن دينار : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبّكُمْ وَرَحْمَة .

وأما على قول من قال : القصاص في هذه الآية معناه : قصاص الديات بعضها من بعض على ما قاله السدي ، فإنه ينبغي أن يكون تأويله : هذا الذي فعلت بكم أيها المؤمنون من قصاص ديات قتلى بعضكم بديات بعض وترك إيجاب القود على الباقين منكم بقتيله الذي قتله وأخذه بديته ، تخفيف مني عنكم ثقل ما كان عليكم من حكمي عليكم بالقود أو الدية ورحمة مني لكم .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ .

يعني تعالى ذكره بقوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ . فمن تجاوز ما جعله الله له بعد أخذه الدية اعتداء وظلما إلى ما لم يجعل له من قتل قاتل وليه وسفك دمه ، فله بفعله ذلك وتعدّيه إلى ما قد حرمته عليه عذاب أليم . وقد بينت معنى الاعتداء فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فقتل ، فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فمن اعتدى بعد أخذ الدية فله عذاب أليم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ . يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل ، فله عذاب أليم . قال : وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا أعُافِي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أخْذِهِ الدّيَة » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ قال : هو القتل بعد أخذ الدية ، يقول : من قتل بعد أن يأخذ الدية فعليه القتل لا تقبل منه الدية .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ . يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية فله عذاب أليم .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن ، قال : كان الرجل إذا قتل قتيلاً في الجاهلية فرّ إلى قومه ، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية . قال : فيخرج الفارّ وقد أمن على نفسه . قال : فيقتل ثم يرمى إليه بالدية ، فذلك الاعتداء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو عقيل قال : سمعت الحسن في هذه الآية : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ قال : القاتل إذا طلب فلم يقدر عليه ، وأخذ من أوليائه الدية ، ثم أمن فأخذ فقتل ، قال الحسن : ما أكل عدوان .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هارون بن سليمان ، قال : قلت لعكرمة : من قتل بعد أخذه الدية ؟ قال : إذا يقتل ، أما سمعت الله يقول : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ بعد ما يأخذ الدية فيقتل ، فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية ، فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : أخذ العقل ثم قتل بعد أخذ العقل قاتل قتيله فله عذاب أليم .

واختلفوا في معنى العذاب الأليم الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليه ، فقال بعضهم : ذلك العذاب هو القتل بمن قتله بعد أخذ الدية منه وعفوه عن القصاص منه بدم وليه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : يقتل ، وهو العذاب الأليم ، يقول : العذاب الموجع .

حدثني يعقوب ، قال : حدثني هشيم ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هارون بن سليمان ، عن عكرمة : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : القتل .

وقال بعضهم : ذلك العذاب عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يرى من عقوبته . ذكر من قال ذلك :

حدثني القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن الليث غير أنه لم ينسبه ، وقال : ثقة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أوجب بقسم أو غيره أن لا يُعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل .

قال ابن جريج : وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، قال : في كتاب لعمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «والاعتداء » الذي ذكر الله أن الرجل يأخذ العقل أو يقتصّ ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح ، ثم يعتدي بعضهم من بعد أن يستوعب حقه ، فمن فعل ذلك فقد اعتدى ، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة . قال : ولو عفا عنه لم يكن لأحد من طلبة الحق أن يعفو ، لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله : فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهِ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ وَإلى أُولي الأمْرِ مِنْكُمْ .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ، عن الحسن في رجل قتل فأخذت منه الدية ، ثم إن وليه قتل به القاتل ، قال الحسن : تؤخذ منه الدية التي أخذ ولا يقتل به .

وأولى التأويلين بقوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ تأويل من قال : فمن اعتدى بعد أخذه الدية ، فقتل قاتل وليه ، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا وهو القتل لأن الله تعالى جعل لكل وليّ قتيل قتل ظلما سلطانا على قاتل وليه ، فقال تعالى ذكره : وَمنْ قُتِلَ مَظْلُوما فقدْ جَعَلْنا لوَلِيّه سُلْطانا فَلا يُسْرفْ فِي القَتْلِ .

فإذْ كان ذلك كذلك ، وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قتل قاتل وليه بعد عفوه عنه وأخذه منه دية قتيله أنه بقتله إياه له ظالم في قتله ، كان بينا أن لا يولّي من قتله ظلما كذلك السلطان عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية ، أيّ ذلك شاء . وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن ذلك عذابه ، لأن من أقيم عليه حده في الدنيا كان ذلك عقوبته من ذنبه ولم يكن به متبعا في الاَخرة ، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما ما قاله ابن جريج من أن حكم من قتل قاتل وليه بعد عفوه عنه وأخذه دية وليه المقتول إلى الإمام دون أولياء المقتول ، فقول خلاف لما دلّ عليه ظاهر كتاب الله وأجمع عليه علماء الأمة . وذلك أن الله جعل لوليّ كل مقتول ظلما السلطان دون غيره من غير أن يخصّ من ذلك قتيلاً دون قتيل ، فسواء كان ذلك قتيل ولي من قتله أو غيره . ومن خصّ من ذلك شيئا سئل البرهان عليه من أصل أو نظير وعكس عليه القول فيه ، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله . ثم في إجماع الحجة على خلافه ما قاله في ذلك مكتفى في الاستشهاد على فساده بغيره .