قوله تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } ، لها ثوابه ، { ومن ضل فإنما يضل عليها } ، لأن عليها عقابه . { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ، أي : لا تحمل حاملة حمل أخرى من الآثام ، أي : لا يؤخذ أحد بذنب أحد ، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ، إقامةً للحجة وقطعاً للعذر ، وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل .
{ 15 } { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }
أي : هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد ، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر ، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة .
وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه .
واستدل بهذه الآية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين ، لا يعذبهم الله حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم .
ثم ساق - سبحانه - قاعدة كلية ، لتحمل كل إنسان نتيجة عمله ، فقال - تعالى - : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } .
والفعل { تزر } من الوزر بمعنى الإِثم والحمل والثقل . يقال : وزر يزر وزرا ، أى : أثم ، أو حمل حملا ثقيلا ، ومنه سمى الوزير ، لأنه يحمل أعباء تدبير شئون الدولة .
أى : من اهتدى إلى الطريق المستقيم ، وقدم فى حياته العمل الصالح فثمرة هدايته راجعة إلى نفسه ، ومن ضل عن الطريق القويم ، وفسق عن أمر ربه فوبال ضلاله راجع إليه وحده ، ولا تحمل نفس آثمة ، إثم نفس أخرى ، وإنما تسأل كل نفس عن آثامها فحسب .
وقد تكرر هذا المعنى فى كثير من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى . . } ولا يتنافى هذا مع قوله - تعالى - : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ . . } وقوله - تعالى - : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . } لأن المقصود فى هاتين الآيتين وأشباههما ، أن دعاة الكفر والفسوق والعصيان ، يحملون ذنوبهم يوم القيامة ، ويحملون فوق ذلك جانبا من ذنوب من كانوا هم سببا فى ضلالهم ، لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها - كما جاء فى الحديث الصحيح - فهم يحملون آثام أنفسهم ، والآثام التى كانوا سببا فى ارتكاب غيرهم لها .
كذلك لا يتنافى قوله - تعالى - : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } مع ما ثبت فى الحديث الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما من " أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . . " .
لأن العلماء حملوا الحديث على أن يكون الميت قد أوصى بذلك قبل موته ، أو أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته ، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه ويشقون الجيوب ، ويلطمون الخدود . . فتعذيبه بسبب تفريطه ، وعدم تنفيذه لقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة . . } وقوله - تعالى - : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده - ورأفته بهم ، وكرمه معهم .
معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره ، وروي أن سببها أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لأهل مكة : اكفروا بمحمد وإثمكم علي ، فنزلت هذه الآية ، أي إن الوليد لا يحمل إثمكم وإنما إثم كل واحد عليه ، وقالت فرقة نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسد{[7495]} ، والإشارة بالضلال إلى الوليد بن المغيرة ، و { وزر } معاه حمل ، والوزر الثقل{[7496]} ، ومنه وزير السلطان أي يحمل ثقل دولته ، وبهذه الآية نزعت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الرد على من قال : إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه ، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يعنّ إذا كان البكاء من سنة الميت ، وسببه كما كانت العرب تفعل{[7497]} وقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } قالت فرقة هي الجمهور : هذا في حكم الدنيا ، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار ، وقالت فرقة : هذا عام في الدنيا والآخرة .
قال القاضي أبو محمد : وتلخيص هذا المعنى : أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا ، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة ، ويؤيد ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية ، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل ، كقوله تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى }{[7498]} [ الملك : 8-9 ] ، وظاهر { كلما } [ الملك : 8 ] الحصر ، وكقوله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير }{[7499]} [ فاطر : 24 ] ، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم عليه السلام بالتوحيد وبَثِ المعتقدات في نبيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله ، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار ، وهذه الآية أيضاً يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا ، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم ، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليس دار تكليف ،
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} الخير، {ومن ضل} عن الهدى،
{فإنما يضل عليها}، أي على نفسه، يقول: فعلى نفسه إثم ضلالته،
{ولا تزر وازرة وزر أخرى}، يقول: لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى،
{وما كنا معذبين} في الدنيا أحدا، {حتى نبعث رسولا} لينذرهم بالعذاب في الدنيا بأنه نازل بهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: من استقام على طريق الحقّ فاتبعه، وذلك دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عليه وسلم "فإنّما يَهتَدي لِنَفسِهِ "يقول: فليس ينفع بلزومه الاستقامة، وإيمانه بالله ورسوله غير نفسه، "وَمَنْ ضَلّ" يقول: ومن جار عن قصد السبيل، فأخذ على غير هدى، وكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من الحقّ، فليس يضرّ بضلاله وجوره عن الهدى غير نفسه، لأنه يوجب لها بذلك غضب الله وأليم عذابه.. وإنما عنى بقوله "فإنّمَا يَضِلّ عَلَيها" فإنما يكسب إثم ضلاله عليها لا على غيرها..
"وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" يعني تعالى ذكره: ولا تحمل حاملة حمل أخرى غيرها من الآثام. وقال: "وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" لأن معناها: ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى... والوزر: هو الإثم... وكأن معنى الكلام: ولا تأثم آثمة إثم أخرى، ولكن على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس...
"وَما كُنّا مَعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً" يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} أي من اهتدى إلى ما جعل الله عليه من أنواع النعم، وقام بأداء شكرها، فإنما فعل ذلك لنفسه، لأنه هو المُنتفِع به، أو يقول: من اختار الهدى، وأجاب إلى ما دعاه مولاه {فإنما يهتدي لنفسه} أي فإنما اختار ذلك لنفسه، لأنه هو المنتفع به، وهو الساعي في فكاك رقبته.
{ومن ضل} أي اختار الضلال، {فإنما يضل عليها} أي فإنما يرجع عليها ضرره، وهو ما ذكر: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} (فصلت: 46) وقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء: 7).
وقوله تعالى {ومن ضل} عن ذلك {فإنما يضل عليها} أي إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه كقوله: {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه} (النمل: 40).
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} هو ما ذكرنا، أي لا تحمل نفس خطيئة أخرى، ولا تأثم بوزر أخرى، ذكر هذا والله أعلم، لوجهين:
أحدهما: أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا لأن في الدنيا قد تؤخذ نفس مكان أخرى، وتحمل نفس مؤنة أخرى، وفي الآخرة لا تؤخذ نفس بدل أخرى.
والثاني: قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤنات والقيام في فكاكها في الدنيا، وأما في الآخرة فلا يتبرع بذلك.
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} يحتمل: ما كنا معذبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه ورفعها عن الحجج من كل وجه وبعد تمامها، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه. ويحتمل أن يكون قوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} إفضالا منه ورحمة، وإن كان العذاب قد يلزمهم والحجة قد قامت عليهم. والعذاب الذي كانوا يعذبونه في الدنيا ليس، هو عذاب الكفر، لأن عذاب الكفر دائم أبدا لا انقطاع له، وهذا مما ينقطع، وينفصل. لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات. وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبدا، لا ينقطع...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قضايا أعمال العبد مقصورةٌ عليه؛ إنْ كانت طاعةً فضياؤها لأصحابها، وإنْ كانت زَلَّةً فبلاؤها لأربابها. والحقُّ غنيٌّ مُقَدَّسٌ، أَحَدِيٌّ مُنَزَّهٌ.
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. كُلُّ مُطَالَبٌ بجريرته. وكلُّ نَفْسٍ تحمل أوزارها لا وِزْرَ نَفْسٍ أخرى...
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}: دلَّ ذلك على أن الواجبات إنما تَتَوَجَّهُ من حيث السمع.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{وَمَا كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً}: يدل على صحة قول أهل الحق في أنه لا تكليف قبل السمع، وأنه لا وجوب قبل إرسال الرسل، ولا يقبح ولا يحسن بالعقل، خلافاً لمن عدا أهل الحق، في كون العقل طريقاً إلى معرفة وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: كل نفس حاملة وزراً، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ} وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوماً إلا بعد أن {نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولاً} فتلزمهم الحجة.
فإن قلت: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان. قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا: كنا غافلين فلو لا بعث إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، والوزر: الثقل، ومنه وزير السلطان أي يحمل ثقل دولته...
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} قالت فرقة هي الجمهور: هذا في حكم الدنيا، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار، وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة... وتلخيص هذا المعنى: أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة، ويؤيد ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل، كقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى}
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يهتدي لِنَفْسِهِ} فذلكةٌ لما تقدم من بيان كونِ القرآن هادياً لأقوم الطرائقِ ولزومِ الأعمال لأصحابها، أي من اهتدى بهدايته وعمِل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعةُ اهتدائِه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتدِ
{وَمَن ضَلَّ} عن الطريقة التي يهديه إليها
{فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فإنما وبالُ ضلاله عليها لا على من عداه ممّن يباشره حتى يمكن مفارقةُ العمل صاحبَه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} تأكيد للجملة الثانية، أي لا تحمل نفسٌ حاملةٌ للوزر وزرَ نفسٍ أخرى حتى يمكن تخلّصُ النفس الثانية عن وزرها ويختلَّ ما بين العامل وعملِه من التلازم، بل إنما تحمل كلٌّ منها وزرها...
{وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ} بيانٌ للعناية الربانية إثرَ بيان اختصاصِ آثارِ الهداية والضلال بأصحابها وعدم حِرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدمِ مؤاخذة النفس بجناية غيرها، أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنيةِ على الحِكَم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائِنا السابق أن نعذب أحداً من أهل الضلال والأوزارِ اكتفاءً بقضية العقل
{رَسُولاً} يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحججَ ويمهد الشرائع حسبما في تضاعيف الكتاب المنزل عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه وما من نفس تحمل وزر أخرى، وما من أحد يخفف حمل أحد. إنما يسأل كل عن عمله وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{من اهتدى فإنما يعتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}
هذه الجملة بيان أو بدل اشتمال من جملة {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} مع توابعها. وفيه تبيين اختلاف الطائر بين نافع وضار، فطائر الهداية نفع لصاحبه وطائر الضلال ضر لصاحبه. ولكون الجملة كذلك فصلت ولم تعطف على التي قبلها.
وجملة {ولا تزر وازرة وزر أخرى} واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {ومن ضل فإنما يضل عليها} لما في هذه من عموم الحكم فإن عَمل أحد لا يُلحق نفعُه ولا ضَره بغيره.
ولما كان مضمون هذه الجملة معنى مهما اعتبر إفادة أنفاً للسامع، فلذلك عطفت الجملة ولم تُفصل. وقد روعي فيها إبطال أوهام قوم يظنون أن أوزارهم يحملها عنهم غيرهم. وقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من أيمة الكفر كان يقول لقريش: اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، أي تبعاتكم ومؤاخذتكم بتكذيبه إن كان فيه تبعة. ولعله قال ذلك لما رأى ترددهم في أمر الإسلام وميلهم إلى النظر في أدلة القرآن خشية الجزاء يوم البعث، فأراد التمويه عليهم بأنه يتحمل ذنوبهم إن تبين أن محمداً على حق، وكان ذلك قد يروج على دهمائهم لأنهم اعتادوا بالحملات والكفالات والرهائن، فبين الله للناس إبطال ذلك إنقاذاً لهم من الاغترار به الذي يهوي بهم إلى المهالك مع ما في هذا البيان من تعليم أصل عظيم في الدين وهو {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. فكانت هذه الآية أصلاً عظيماً في الشّريعة، وتفرع عنها أحكام كثيرة.
ولمّا روى ابن عمر عن النّبيء صلى الله عليه وسلم "أنّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليْه "قالت عائشة رضي الله عنها: « يرحم الله أبا عبد الرحمان، ما قال رسول الله ذلك والله يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
ولما مُرّ برسول الله جنازةُ يهودية يبكي عليها أهلها فقال: « إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب».
والمعنى أن وزر أحد لا يحمله غيره فإذا كان قد تسبب بوزره في إيقاع غيره في الوِزر حُمل عليْه وزر بوزر غيره لأنه متسبب فيه، وليس ذلك بحمل وزر الغير عليه ولكنه حمل وزر نفسه عليها وهو وزر التسبب في الأوزار. وقد قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون، وكذلك وزر من يَسُنّ للناس وزراً لم يكونوا يعملونه من قبل. وفي « الصحيح»: « مَا من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأولِ كِفْل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل».
وسكتت الآية عن أن لا ينتفع أحد بصالح عمل غيره اكتفاء إذ لا داعي إلى بيانه لأنه لا يوقع في غرور، وتعلم المساواة بطريق لحن الخطاب أو فحواه، وقد جاء في القرآن ما يومئ إلى أن المتسبب لأحد في هدي ينال من ثواب المهتدي قال تعالى: {واجعلنا للمتقين إماماً} [الفرقان: 74] وفي الحديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير.
ومن التخليط توهم أن حمل الدية في قتل الخطأ على العاقلة منافٍ لهذه الآية، فإن ذلك فرع قاعدة أخرى وهي قاعدة التعاون والمواساة وليست من حمل التبعات.
و {تزر} تحمل الوزر، وهو الثقل. والوازرة: الحاملة، وتأنيثها باعتبار أنها نفس لقوله قبله {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصّلت: 46].
وأطلق عليها {وازرة} على معنى الفرض والتقدير، أي لو قدرت نفس ذات وزر لا تزاد على وزرها وزر غيرها، فعلم أن النفس التي لا وزر لها لا تزر وزر غيرها بالأوْلى.
والوزر: الإثم لتشبيهه بالحمل الثقيل لما يجره من التعب لصاحبه في الآخرة، كما أطلق عليه الثقل، قال تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} [العنكبوت: 13].
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}
عطف على آية {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} الآية.
وهذا استقصاء في الإعذار لأهل الضلال زيادة على نفي مؤاخذتهم بأجرام غيرهم، ولهذا اقتصر على قوله: {وما كنا معذبين} دون أن يقال ولا مثيبين. لأن المقام مقام إعذار وقطع حجة وليس مقام امتنان بالإرشاد.
والعذاب هنا عذاب الدنيا بقرينة السياق وقرينة عطف {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها} [الإسراء: 16] الآية. ودلت على ذلك آيات كثيرة، قال الله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين} [الشعراء: 209] وقال: {فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} [يونس: 47].
على أن معنى (حتى) يؤذن بأن بعثة الرسول متصلة بالعذاب شأن الغاية، وهذا اتصال عرفي بحسب ما تقتضيه البعثة من مدةٍ للتبليغ والاستمرار على تكذيبهم الرسول والإمهال للمكذبين، ولذلك يظهر أن يكون العذاب هنا عذاب الدنيا وكما يقتضيه الانتقال إلى الآية بعدها.
على أننا إذا اعتبرنا التوسع في الغاية صح حمل التعذيب على ما يعم عذاب الدنيا والآخرة.
ووقوع فعل {معذبين} في سياق النفي يفيد العموم، فبعثة الرسل لتفصيل ما يريده الله من الأمة من الأعمال.
ودلت الآية على أن الله لا يؤاخذ الناس إلا بعد أن يرشدهم رحمة منه لهم. وهي دليل بين على انتفاء مؤاخذة أحد ما لم تبلغه دعوة رسول من الله إلى قوم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
حقائق تؤكدها هذه الآية الكريمة:
الحقيقة الأولى: أن الإنسان في الأعمال الدنيوية إن اهتدى فهدايته عائدة بالخير عليه، وإن ضل فضلاله مغبته عليه.
الحقيقة الثانية: أن الإنسان ليس له إلا ما سعى، فوزره هو الذي يتحمله، ولا يتحمل وزر غيره.