فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا} (15)

{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( 15 ) }

{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } بين سبحانه أن ثواب العلم الصالح ضده يختصان بفاعلهما لا يتعديان منه إلى غيره فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه عنه وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد .

{ وَمَن ضَلَّ } عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به ولم يترك ما نهى عنه { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها فكل أحد محاسب عن نفسه مجزي بطاعته معاقب بمعصيته ، وهذا حاصل ما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطريق ولزوم الأعمال لصاحبها .

ثم أكد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } الوزر الإثم يقال وزر يزر وزورا ووزرة أي إثما والجمع أوزار والوزر الثقل ومنه يحملون أوزارهم على ظهورهم أي أثقال ذنوبهم ومعنى الآية لا تحتمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى وقد تقدم مثل هذا في الأنعام .

قال الزجاج في تفسير هذه الآية : إن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره وهذا تحقيق معنى قوله وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، وأما ما يدل عليه قوله تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } وقوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئتها فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له ، وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة .

وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الضلال وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق ، فالشفاعة على أسلافهم الذين قلدوهم .

أخرج ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة قالت : ( سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أولاد المشركين فقال : ( هم من آبائهم ) ثم سألته بعد ذلك فقال : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت : { ولا تزر وازرة } الآية فقال : هم على الفطرة أو قال في الجنة ) قال السيوطي وسنده ضعيف .

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين قال : ( هم منهم ) وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل ، وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليه .

{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ } أحدا { حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته والضال بضلالته وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدى ولا أخذهم قبل إقامة الحجة عليهم ، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل ، وبه قالت طائفة من أهل العلم وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة ؛ وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل .