التفسير الصحيح لبشير ياسين - بشير ياسين  
{مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا} (15)

قوله تعالى { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها }

قال الشيخ الشنقيطي : ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من اهتدى فعمل بما يرضى الله جل وعلا أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه لأنه هو الذي ترجع إليه فائدة الاهتداء وثمرته في الدنيا والآخرة ، وأن من ضل عن طريق الصواب فعمل بما يسخط ربه جل وعلا ، أن ضلاله ذلك إنما هو نفسه لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة ، فيخلد به في النار ، وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله : { من عمل صالحا ومن أساء فعليها . . . } الآية ، وقوله : { من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } وقوله { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ } وقوله : { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل } ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

قوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى }

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة { ولا تزر وازرة وزر أخرى } والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره ، ولا يؤاخذ إلا بعمله .

قال ابن كثير : ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } ، وقوله : { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } فإن الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك ، ولا يحملوا عنهم شيئا ، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده .

قوله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }

قال ابن كثير : إخبار عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه ، كما قال تعالى : { كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } أ . ه .

واستدل بهذه الآية أن ولدان المشركين الذين ماتوا هم في الجنة ، وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال : القول الأول : أنهم يمتحنون يوم القيامة .

والدليل ما رواه الإمام أحمد قال : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة عن الأحنف بن قيس ، عن الأسود بن سريع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : ربّ ، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ، ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما .

( المسند4/24 ) بدون كلمة " يحتجون " وقد أكملناها من نسخة الحافظ ابن كثير من مسند أحمد ثم قال ابن كثير : وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة ، مثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره : " من دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها " . وكذا رواه إسحاق بن راهويه ، عن معاذ بن هشام ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد ، من حديث حنبل بن إسحاق عن علي بن عبد الله المديني به ، وقال هذا إسناد صحيح أ . ه ، وذكره الهيثم ونسبه إلى أحمد والبزار وذكر أن رجاليهما رجال الصحيح ( مجمع الزوائد216/7 ) ، وصححه الألباني في ( السلسلة الصحيحة رقم1434 ) ، وقال ابن حجر العسقلاني : وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحه ، وحكى البيهقي في كتاب الاعتقاد أنه المذهب الصحيح ( فتح الباري3/246وانظر الاعتقاد ص169 ) .

القول الثاني : أنهم في الجنة واستدلوا بهذه الآية وبالأحاديث التالية :

أولا : حديث سمرة بن جندب الطويل والشاهد فيه : وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء ، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط . . . وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم ، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة ، قال : فقال بعض المسلمين : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله : وأولاد المشركين .

( الصحيح-التعبير ، ب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح رقم4047 ) . قال الحافظ ابن حجر في قوله { وأولاد المشركين } وظاهره أنه ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة ولا يعارض قوله : هم من آبائهم لأن ذلك حكم الدنيا . ( فتح الباري12/445 ) .

ثانيا : حديث عم حسناء بنت معاوية الصريمية قال : قلت : يا رسول الله من في الجنة قال صلى الله عليه وسلم : " النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموؤدة في الجنة " .

( رواه أحمد ومحمد بن سنجر من طريق عوف عن حسناء به ، وحسنه ابن حجر( انظر مسند أحمد5/58 ، انظر التذكرة في أحوال الموتى ص515 ، وفتح الباري3/246 ) ، قال ابن كثير : وهذا استدلال صحيح ولكنه أحاديث الامتحان أخص منه فمن علم الله منه أن يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة ، ومن علم أنه لا يجيب ، فأمره إلى الله تعالى ، ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان ، ونقله الأشعري عن أهل السنة أ . ه .

ثالثا : حديث أنس الذي رواه أبو يعلى مرفوعا : " سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم " .

قال الهيثمي : رواه أبو يعلى من طرق ورجاله أحدها رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن المتوكل وهو ثقة( مجمع الزوائد7/219 ) ، قال ابن حجر : إسناده حسن ، وورد تفسير اللاهين بأنهم الأطفال ، قال النووي : وهو المذهب الصحيح الذي صار إليه المحققون وهو رأي البخاري كما نقل ابن حجر( فتح الباري3/246 ، 247 ) .

القول الثالث : التوقف أنهم في مشيئة الله تعالى لحديث ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين ، فقال : " الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين " .

رواه البخاري ورواه من حدث أبي هريرة بنحوه ( الصحيح-الجنائز ، ب ما قيل في أولاد المشركين رقم3831و4831 )وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق ونقله البيهقي في( الاعتقاد )عن الشافعي .

القول الرابع : أنهم في النار مع آبائهم لحديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم مع آبائهم ، فقلت : يا رسول الله بلا عمل ؟ قال : الله عز وجل أعلم بما كانوا عاملين .

رواه أحمد عن أبي المغيرة ثنا عتبة بن ضمرة بن الحبيب قال ثني عبد الله بن أبي قيس عنها به ، ورواه أبو داود من طريق محمد بن حرب عن محمد بن زياد الألهاني عن عبد الله بن أبي قيس عنها نحوه ( مسند أحمد6/48 ) ، ( سنن أبي داود-السنة ، ب في ذراري المشركين رقم2174 ، وصححه الألباني ( صحيح سنن أبي داود ح343 ) ، وقد أشار ابن حجر إلى هذا الحديث قال : فذاك ورد في حكم الحربي ، وقال أيضا أنه في حكم الدنيا كما تقدم ( فتح الباري3/642و12/445 ) ، وأما أطفال المسلمين فهم في الجنة .

قال ابن كثير : وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي ، عن الإمام أحمد أنه قال : لا يختلف فيهم أنه من أهل الجنة ، وهذا هو المشهور بين الناس ، وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز وجل .