تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا} (15)

الآية15 : وقوله تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } أي من اهتدى إلى ما جعل الله عليه من أنواع النعم ، وقام بأداء شكرها ، فإنما فعل ذلك لنفسه ، لأنه هو المُنتفِع {[10717]} به ، أو يقول : من اختار الهدى ، وأجابه إلى ما دعاه مولاه { فإنما يهتدي لنفسه } أي فإنما اختار ذلك لنفسه ، لأنه هو المنتفع {[10718]} به ، وهو الساعي في فكاك رقبته .

وقوله تعالى : { ومن ضل } أي من ضل ، أي اختار الضلال { فإنما يضل عليها }أي فإنما يرجع عليها ضرره ، وهو ما ذكر : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها }( فصلت : 46 )وقوله : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها }( الإسراء : 7 ) .

وقوله تعالى { ومن ضل }عن ذلك { فإنما يضل عليها } أي إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه كقوله : { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه }( النمل : 40 ) .

وقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } هو ما ذكرنا ، أي لا تحمل نفس خطيئة أخرى ، ولا تأثم بوزر أخرى ( ذكر هذا والله أعلم ، لوجهين :

أحدهما ){[10719]} : أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا لأن في الدنيا قد تؤخذ نفس مكان أخرى ، وتحمل{[10720]} نفس مؤنة أخرى ، وفي الآخرة لا تؤخذ نفس بدل أخرى .

والثاني : قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤنات والقيام في فكاكها ( في الدنيا ){[10721]} وأما في الآخرة فلا يتبرع بذلك .

وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } يحتمل : ما كنا معذبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه ورفعها عن الحجج من كل وجه وبعد تمامها ، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث {[10722]} الرسل ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه .

ويحتمل{[10723]} أن يكون قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } إفضالا منه ورحمة ، وإن كان العذاب قد يلزمهم والحجة قد قامت عليهم . والعذاب الذي كانوا يعذبونه {[10724]} في الدنيا ليس ، هو عذاب الكفر ، لأن عذاب الكفر دائم أبدا .

لا انقطاع له ، وهذا مما ينقطع ، وينفصل . لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات . وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبدا ، لا ينقطع .

وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم ، وقامت عليهم بالعقل حين{[10725]}قال : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون{[10726]} : من أنتم ؟ ومن بعثكم إلينا ؟ فإذا لم يكن لهم الاحتجاج دل أن الحجة قامت عليهم .

لكن الله بفضله أراد أن يدفع الشبهة عنهم ، ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة : فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة ، ومنها ما يفهم بالتأمل والنظر ، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه .

وقال القتبي : { ويخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا }( الإسراء : 13 ) وهو ما ذكرنا أي{[10727]} نخرج بذلك العمل كتابا . وقال أبو عوسجة : أي نكتب ما عمل ، ثم نقلده{[10728]} في عنقه ، فنجيء به يوم القيامة .

وقال أبو عبيدة : طائره حظه . وقال غيره من المفسرين : ما عمل من خير أو شر ألزمناه في عنقه .

وقال القتبي : وهذان المعنيان يحتاجان إلى بيان ، والمعنى في ما أرى ، والله أعلم : أن لكل امرئ حظا من الخير والشر ، وقد قضاه الله ، فهو لازم عنقه ، والعرب تقول : إن كل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه ، وهو لازم ، طائر ( في ){[10729]}عنقه ، وهذا لك علي ، وفي عنقي ، حتى أخرج منه . وإنما قيل للحظ من الخير والشر : طائر لقول العرب ما ذكرنا : جرى له الطائر بكذا من الخير ، وجرى له الطائر على وجه الفأل والطيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببا ، وهو ما ذكر .

وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسلا } التعذيب يكون على وجوه ثلاثة :

أحدها{[10730]} : يعذبهم في الدنيا ابتداءا بتعذيب امتحانا وابتلاء بجريمة كانت منهم كقوله : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة }( الأنبياء : 35 ) وقوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات }( الأعراف : 168 ) ونحوه ، فيكون تنبيها وتذكيرا لهم لا تكفيرا .

والثاني : يعذب تعذيب العناد والمكابرة ، وهو تعذيب إهلاك واستئصال ؛ فهو عقوبة لهم موعظة للمتقين وعبرة لغيرهم ، وهم الذي يأتي على إثر وعيد .

والثالث : عذاب الموعود في الآخرة يقول : { وما كنا معذبين } في الآخرة { حتى نبعث رسولا } في الدنيا .

والأشبه أن يكون ما ذكر من التعذيب ، وهو تعذيب استئصال ، والله أعلم .


[10717]:من م،: في الأصل المشفع.
[10718]:من م،: في الأصل: المشفع.
[10719]:في الأصل و.م :والله أعلم ذكر هذا.
[10720]:في الأصل و.م: ويحتمل.
[10721]:ساقطة من الأصل و.م.
[10722]:من م، في الأصل: البعث.
[10723]:في الأصل و.م: و.
[10724]:في الأصل و.م: يعذبونهم.
[10725]:في الأصل و.م: حيث.
[10726]:في الأصل و.م: يقول.
[10727]:من م، في الأصل: إن.
[10728]:في الأصل و.م: نقلد.
[10729]:ساقطة من الأصل و.م.
[10730]:من م، في الأصل: أحدهم.