المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

178- ومن الشرائع التي فرضناها على المؤمنين أحكام القتل العمد ، فقد فرضنا عليكم القصاصَ بسبب القتل ، ولا تأخذوا بظلم أهل الجاهلية{[11]} الذين كانوا يقتلون الحر غير القاتل بالعبد ، والذكر الذي لم يقتل بالأنثى ، والرئيس غير القاتل بالمرءوس القاتل دون مجازاة القاتل نفسه ، فالحر القاتل يقتل بالحر المقتول ، وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فأساس القصاص هو دفع الاعتداء في القتل بقتل القاتل للتشفي ومنع البغي ، فإن سَمَت نفوس أهل الدم ودفعوا بالتي هي أحسن فآثروا العفو عن إخوانهم وجب لهم دية قتيلهم ، وعلى أولياء الدم اتباع هذا الحكم بالتسامح دون إجهاد للقاتل أو تعنيف ، وعلى القاتل أداء الدين دون مماطلة أو بخس ، وفى حكم القتل الذي فرضناه على هذا الوجه تخفيف على المؤمنين بالنسبة إلى حكم التوراة الذي يوجب في القتل القصاص ، كما فيه رحمة بهم بالنسبة إلى الذين يدعون إلى العفو من غير تعرض للقاتل ، فمن جاوز هذا الحكم بعد ذلك فله عذاب أليم في الدنيا والآخرة .


[11]:كان العرب في الجاهلية لا يسوون بين الأشراف والضعفاء، فإذا قتل زعيم لا يكتفي يقاتله بل قد يترك القاتل ليقتص من زعيم قبيلة القاتل، فالدماء عندهم ليست متساوية والنفوس ليست واحدة، وما كان الإسلام ليسمح بهذا بل شرع القصاص، فالنفس بالنفس فمن قتل يقتل. فالحر أيا كان يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد والأنثى تقتل بالأنثى، فهذا موجب المساواة في الدماء ليس هناك دم أزرق شريف ودم غير شريف. وقد يفهم بالإشارة أن العبد لا يقتل بالحر أو الحر لا يقتل بالعبد ولكن صريح العبارة في آية أخرى وفي أحاديث نبوية تفيد أن القصاص فيه النفس بالنفس، وهي شريعة خالدة كانت في التوراة والإنجيل والقرآن فقد قال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفسي بالنفس} راجع سورة المائدة. والنبي يقول: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" ويقول: "النفس بالنفس". ويلاحظ أن الإسلام في القصاص للقتلى نظر إلى أمر لم ينظر إليه القانونيون، وهو أنه جعل القصاص حقا لأولياء الدم شفاء لغيظ نفوسهم ومنعا لإهدار دم بريء، ولذلك كان لهم حق العفو أو القصاص، ولم يمنع ولي الأمر من أن يقتل تعزيزا إذا رأى في ذلك مصلحة. ولم ينظر الإسلام إلى البواعث لأن القاتل ظالم مهما تكن البواعث، وقد أدى النظر في البواعث إلى الرأفة بالجاني وإهمال المجني عليه مما أدى إلى عادة الأخذ بالثأر وتسلسل جرائم القتل، لأنه لم يشف أولياء الدم، وإن هذه النظرية الإسلامية تدرس الآن في الجامعات الأوربية.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } . قال الشعبي والكلبي وقتادة : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام ، قال قتادة ومقاتل بن حيان : كانت بين بني قريظة والنضير ، وقال سعيد بن جبير : وكانت بين الأوس والخزرج ، وقالوا جميعاً : وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، فأقسموا : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ؛ وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وبالرجلين منا أربعة رجال منهم ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا .

قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص } . أي فرض عليكم القصاص . والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات ، وأصله من قص الأثر إذا اتبعه ، فالمفعول به يتبع ما فعل به فيفعل مثله . ثم بين المماثلة فقال : قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان في الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم ، قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى ، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ، ولا والد بولد ، ولا مسلم بذمي ، ويقتل الذمي بالمسلم ، والعبد بالحر ، والولد هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال : سألت علياً رضي الله عنه هل عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن ؟ فقال لا : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر .

وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد " .

وذهب الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالكافر الذمي ، وإلى أن الحر يقتل بالعبد ، والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم بقتل الذمي ، وتقتل الجماعة بالواحد .

روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة ، وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعاً .

ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس ، إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض الزمن ، وفي الأطراف لو قطع يداً شلاء أو ناقصة بأصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأطراف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ، ولا يجري بين الذكر والأنثى ، ولا بين الحر والعبد ، وعند الآخرين : الطرف في القصاص مقيس على النفس .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن منيرة أنه سمع عبد الله بن بكر السهمي ، أخبرنا حميد عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو ، فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فقال أنس بن النضر : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس كتب الله القصاص فرضي القوم فعفوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " .

قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } . أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين ، قالوا : العفو أن تقبل الدية في قتل العمد وقوله : من أخيه . أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله : له ومن أخيه ترجعان إلى من وهو القاتل ، وقوله : شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود ، لأن شيئاً من الدم قد بطل .

قوله تعالى : { فاتباع بالمعروف } . أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه .

قوله تعالى : { وأداء إليه بإحسان } . أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة ، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه ، ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية ، وإن لم يرض به القاتل ، وقال قوم : لا دية له إلا برضا القاتل ، وهو قول الحسن والنخعي وأصحاب الرأي ، وحجة المذهب الأول :

ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل " .

قوله تعالى : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص ، وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة ، وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتماً في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية ، وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص ، فخير الله هذه الأمة بين القصاص وبين العفو على الدية تخفيفاً منه ورحمة .

قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك } . فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية .

قوله تعالى : { فله عذاب أليم } . وهو أن يقتل قصاصاً ، قال ابن جريج : يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو ، وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً بالقتل ، لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) وقال في آخر الآية : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) وأراد به أخوة الإيمان ، فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بأنه فرض عليهم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي : المساواة فيه ، وأن يقتل القاتل على الصفة ، التي قتل عليها المقتول ، إقامة للعدل والقسط بين العباد .

وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين ، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم ، حتى أولياء القاتل ، حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول ، إذا طلب القصاص وتمكينه{[120]}  من القاتل ، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد ويمنعوا الولي من الاقتصاص ، كما عليه عادة الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين .

ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها ، الذكر بالذكر ، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر ، والذكر بالأنثى ، فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله : " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة ، على أن الذكر يقتل بالأنثى ، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا ، فلا يقتلان بالولد ، لورود السنة بذلك ، مع أن في قوله : { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه ليس من العدل ، أن يقتل الوالد بولده ، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة ، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله ، أو أذية شديدة جدا من الولد له .

وخرج من العموم أيضا ، الكافر بالسنة ، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة .

وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه ، والعبد بالعبد ، ذكرا كان أو أنثى ، تساوت قيمتهما أو اختلفت ، ودل بمفهومها على أن الحر ، لا يقتل بالعبد ، لكونه غير مساو له ، والأنثى بالأنثى ، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة ، وتقدم وجه ذلك .

وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل ، وأن الدية بدل عنه ، فلهذا قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي : عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية ، أو عفا بعض الأولياء ، فإنه يسقط القصاص ، وتجب الدية ، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي .

فإذا عفا عنه وجب على الولي ، [ أي : ولي المقتول ] أن يتبع القاتل { بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه ، ولا يحمله ما لا يطيق ، بل يحسن الاقتضاء والطلب ، ولا يحرجه .

وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص ، ولا إساءة فعلية أو قولية ، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو ، إلا الإحسان بحسن القضاء ، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان ، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف ، ومن عليه الحق ، بالأداء بإحسان{[121]} .

وفي قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية ، وأحسن من ذلك العفو مجانا .

وفي قوله : { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر ، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان ، فلم يخرج بالقتل منها ، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر ، لا يكفر بها فاعلها ، وإنما ينقص بذلك إيمانه .

وإذا عفا أولياء المقتول ، أو عفا بعضهم ، احتقن دم القاتل ، وصار معصوما منهم ومن غيرهم ، ولهذا قال : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد العفو { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة ، وأما قتله وعدمه ، فيؤخذ مما تقدم ، لأنه قتل مكافئا له ، فيجب قتله بذلك .

وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل ، فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله ، ولا يجوز العفو عنه ، وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول ، لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره .


[120]:- في ب: ويمكنه.
[121]:- في ب: بالإحسان.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر . . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضه - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة ، بعد كل ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم - فقال - تعالى - :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص . . . }

{ كُتِبَ } من الكتب ، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة . وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط ، ومنه الكتابة ، على الإِيجاب والفرض ؛ لأن الشأن بما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب ، ومنه { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } أي : فرض عليكم .

{ القصاص } : العقوبة بالمثل من قتل أو جرح . وهو - كما قال القرطبي - مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار ، وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } وقيل : القص القطع . يقال : قصصت ما بينهما . ومنه أخذ القصاص ؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به . يقال أقص الحاكم فلاناً من فلان به فأمثله فامتثل منه ، أي : اقتص منه " .

فمادة القصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع .

والقتلى جمع قتيل ، والقتيل من يقتله غيره من الناس .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل ، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .

فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به . وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل .

ولفظ " في " في قوله - تعالى - { فِي القتلى } للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها .

وصدرت الآية بخطاب { الذين آمَنُواْ } تقوية لداعية إنفاذ حكم الفصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه ، لأن من شأن الإِيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس ، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرى الألفة والمودة بينهم .

وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانباً من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .

وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته ، ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة .

وقوله - تعالى - { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص ، فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير .

وقد يفهم من مقابلة { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .

قال القرطبي : " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .

والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .

والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل والمساواة ، وإبطال ما كان شائعاً في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصا لا ترضى حتى تقتل في مقابله من الضعيفة أشخاصاً . وإذا قتلت منها عبداً تقتل في مقابله حراً أو أحراراً ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيراً مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .

قال الإِمام البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية : كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد ، والذكر بالأنثى ، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية . وهي لا تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم .

ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكماً يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية ، فقال - تعالى - : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .

عُفِي : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ترك العقاب عليها . والذي عفي له هو القاتل ، و { أَخِيهِ } الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ { شَيْء } القصاص ، وهو نائب فاعل { عُفِيَ } .

والمعنى : أن القاتل عمداً إذا سقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدية بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدية من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدية بطريق الحسنى ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .

فقوله - تعالى - : { فاتباع بالمعروف } وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقاً في مطالبته القاتل بدفع الدية .

وقوله : { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدية لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .

وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر .

وبعضهم فسر العفو بالعطاء فيكون المعنى : فمن أعطى له وهو ولي المقتول من أخيه وهو القاتل شيئاً وهو الدية ، فعلى ولي المقتول اتباعه بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان .

وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيراً بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : عفى بتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال - تعالى - : { عَفَا الله عَنكَ } وقال : { عَفَا الله عَنْهَا } فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية .

وجاء التعبير بلفظ " شيء " منكراً لإفادة التقليل . أي : فمن عفي له من أخيه ما يسمى شيئاً من العفو والتجاوز ولو أقل قليل ، تم العفو وسقط القصاص ، ولم تجب إلا الدية ، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم ، لأن القصاص لا يتجزأ .

وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولي الدم ، في العفو وفي قبول الدية ، إذا العفو أقرب إلى صفاء القلوب ، وتجميع النفوس على الإِخاء والتعاطف والتسامح . وفيه - أيضاً - إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعيير من قبول الصلح في قتل العمد ، وعدهم ذلك لوناً من بيع دم المقتول بثمن بخس . قال بعضهم يحرض قومه على الثأر .

فلا تأخذوا عَقْلاً من القوم إنني . . . أرى العار يبقى والمعاقل تذهب

وقال شاعر آخر يَذْكُر قوماً لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم :

فلو أن حيا يقبل المال فدية . . . لسقنا لهم سيباً من المال مفعماً

ولكن أبى قوم أصيب أخوهم . . . رضا العار فاختاروا على اللبن الدما

ثم بين - سبحانه - أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر فقال : { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } .

أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضي طائعاً مختاراً ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصاً ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .

وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة .

إذ جعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإِنصاف والعدل .

وجعل الدية عوضاً عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم ، وهذا عين الحرمة واليسر .

وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها ؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عاداً .

والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .

ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم ؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقة الدين ، وانحطاط الخلق .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء ، وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى . فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، وأمرهم أن يتباوؤا ، ولا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم ، وقد بينا ما كان الغرض ، وإنما منع مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ، لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه : أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به . وروي عنه أنه قال : من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد . ولأن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير . وللقياس على الأطراف ، ومن سلم دلالته فليس له دعوى نسخه بقوله تعالى : { النفس بالنفس } لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن . واحتجت الحنفية به على أن مقتضى العمد القود وحده ، وهو ضعيف ، إذ الواجب على التخيير يصدق عليه أنه وجب وكتب ، ولذلك قيل التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخا لوجوبه . وقرئ { كتب } على البناء للفاعل والقصاص بالنصب ، وكذلك كل فعل جاء في القرآن . { فمن عفي له من أخيه شيء } أي شيء من العفو ، لأن عفا لازم . وفائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص . وقيل عفا بمعنى ترك ، وشيء مفعول به وهو ضعيف ، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه . وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، قال الله تعالى { عفا الله عنك } وقال { عفا الله عما سلف } . فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته من جهة ، أخيه ، يعني ولي الدم . وذكره بلفظ الإخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإسلام ليرق له ويعطف عليه . { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } أي فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع . والمراد به وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف فلا يعنف ، والمعفو عنه بأن يؤديها بالإحسان : وهو أن لا يمطل ولا يبخس . وفيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد ، وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو . وللشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة قولان : { ذلك } أي الحكم المذكور في العفو والدية . { تخفيف من ربكم ورحمة } لما فيه من التسهيل والنفع ، قيل كتب على اليهود القصاص وحده ، وعلى النصارى العفو مطلقا . وخيرت هذه الأمة بينهما وبين الدية تيسيرا عليهم وتقديرا للحكم على حسب مراتبهم . { فمن اعتدى بعد ذلك } أي قتل بعد العفو وأخذ الدية . { فله عذاب أليم } في الآخرة . وقيل في الدنيا بأن يقتل لا محالة لقوله عليه السلام " لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية " .