قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ، يعني : الطواف عراة ، { ما ظهر } طواف الرجال بالنهار ، { وما بطن } طواف النساء بالليل ، وقيل : هو الزنا سراً وعلانيةً .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قلت أنت سمعت هذا من عبد الله ؟ قال : نعم رفعه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا أحد أغير من الله ، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه . ) قوله تعالى : { والإثم } يعني : الذنب والمعصية . وقال الضحاك : الذنب الذي لا حد فيه ، قال الحسن : الإثم الخمر .
شربت الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم تذهب بالعقول
قوله تعالى : { والبغي } ، الظلم الكبير .
قوله تعالى : { بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } ، حجةً وبرهاناً .
قوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ، في تحريم الحرث والأنعام ، في قول مقاتل . وقال غيره : هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين .
ثم ذكر المحرمات التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } أي : الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها ، وذلك كالزنا واللواط ونحوهما .
وقوله : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : الفواحش التي تتعلق بحركات البدن ، والتي تتعلق بحركات القلوب ، كالكبر والعجب والرياء والنفاق ، ونحو ذلك ، { وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في حقوق اللّه ، والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فدخل في هذا الذنوبُ المتعلقةُ بحق اللّه ، والمتعلقةُ بحق العباد .
{ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } أي : حجة ، بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد . والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته أحد من الخلق ، وربما دخل في هذا الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير اللّه ، ونحو ذلك .
{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ، فكل هذه قد حرمها اللّه ، ونهى العباد عن تعاطيها ، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة ، ولما فيها من الظلم والتجري على اللّه ، والاستطالة على عباد اللّه ، وتغيير دين اللّه وشرعه .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من المحرمات التي نهى عباده عن اقترافها فقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ . . . } .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين ضيقوا على أنفسهم ما وسعه الله ، قل لهم : إن ما حرمه الله عليكم في كتبه وعلى ألسنة رسله هو هذه الأنواع الخمس التي أولها { الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } ، أى : ما كان قبيحاً من الأقوال والأفعال سواء أكان في السر أو العلن ، وثانيها وثالثها { الإثم والبغي بِغَيْرِ الحق } والإثم : هو الشىء القبيح الذي فعله يعتبر معصية ، والبغى : هو الظلم والتطاول على الناس وتجاوز الحد .
قال الإمام ابن كثير : " وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغى هو التعدى على الناس ، فحرم الله هذا وهذا " .
وقيد البغى بكونه بغير الحق ، لأنه لا يكون إلا كذلك . إذ معناه في اللغة تجاوز الحد . يقال : بغى الجرح . إذ تجاوز الحد في فساده .
وقيل قيده بذلك ليخرج البغى على الغير في مقابلة بغيه ، فإنه يسمى بغيا في الجملة . لكنه بحق ، وهو قول ضعيف لأن دفع البغى لا يسمى بغيا . وإنما يسمى انتصافا من الظالم ، ولذا قال القرآن : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } وقيل إن القيد هنا لإخراج الأمور التي ليس لهم فيها حقوق ، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها .
ورابع الأمور التي حرمها الله أخبر عنه القرآن بقوله : { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } .
أى : وحرم عليكم أن تجعلوا لله شركاى في عبادته بدون حجة وبرهان . وقوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } بيان للواقع من شركهم ، إذ أنهم لا حجة عندهم على شركهم : لا من العقل ولا من النقل ، فالجملة الكريمة قد اشتملت على التهكم بالمشركين وتوبيخهم على كفرهم .
وخامسها قوله - تعالى - : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أى : حرم عليكم أن تقولوا قولا يتعلق بالعبادات أو المحللات أو المحرمات أو غيرها بدون علم منكم بصحة ما تقولون ، وبغير بينة على صدق ما تدعون .
قال صاحب المنار : " ومن تأمل هذه الآية حق التأمل ، فإنه يتجنب أن يحرم على عباد الله شيئاً ويوجب عليهم شيئا في دينهم بغير نص صريح عن الله ورسوله ، بل يجتنب - أيضاً - أن يقول : هذا مندوب أو مكروه في الدين بغير دليل واضح من النصوص ، وما أكثر الغافلين عن هذا المتجرئين على التشريع " .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقِيقٍ ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحد أغير من الله ، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش ، عن شقيق عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود{[11698]} وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن .
وقوله : { وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال السُّدِّي : أما الإثم فالمعصية ، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق .
وقال مجاهد : الإثم المعاصي كلها ، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه .
وحاصل ما فُسّر{[11699]} به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغي هو التعدي إلى الناس ، فحرم الله هذا وهذا .
وقوله : { وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : تجعلوا له شريكا في عبادته ، وأن تقولوا عليه{[11700]} من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك ، مما لا علم لكم به كما قال تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ [ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] }{[11701]} الآية [ الحج : 30 ، 31 ] .
لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم ، أتبعه ذكر ما حرم الله عز وجل وتقديره ، و { الفواحش } ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش*** إذا هي نصته ولا بمعطل
ثم استعمل فيما ساء من الخلق وألفاظ الحرج والرفث ، ومنه الحديث ليس بفاحش في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه قوله لسلمة بن سلامة بن وقش «أفحشت على الرجل » في حديث السير ، ومنه قوله الحزين في كثير عزة : [ الطويل ]
قصير القميص فاحش عند بيته*** وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس . والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع ، والفاحش كذلك ، فقوله هنا { الفواحش } إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر ، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه ، وقوله : { ما ظهر منها وما بطن } يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء ، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال { ما ظهر } الطواف عرياناً ، والبواطن الزنى ، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال ، و { ما } بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل ، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو ، { والإثم } أيضاً : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور ، وقال بعض الناس : هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر : [ الوافر ]
قال القاضي وأبو محمد : وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم ، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق ، وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة .
قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله { فيهما إثم } لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله { قل فيهما إثم } وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة .
{ والبغي } : التعدي وتجاوز الحد ، كان الإنسان مبتدئاً بذلك أو منتصراً فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ ، وقوله : { بغير الحق } زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغياً ، { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله ، و «السلطان » البرهان والحجة ، { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحلّ الله لهم من رزقه أيها القوم: إن الله لم يحرّم ما تحرّمونه، بل أحلّ ذلك لعباده المؤمنين وطيبه لهم. وإنما حرّم ربي القبائح من الأشياء، وهي الفواحش، ما ظهر منها فكان علانية، وما بطن منها فكان سرّا في خفاء...
وأما الإثم: فإنه: المعصية. والبغي: الاستطالة على الناس. يقول تعالى ذكره: إنما حرّم ربي الفواحش مع الإثم والبغي على الناس...
"وأنْ تُشْرِكُوا باللّهِ ما لَمْ يُنزّلّ بِهِ سُلْطانا وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ"
يقول جل ثناؤه: إنما حرم ربي الفواحش والشرك به أن تعبدوا مَعَ الله إلها غيرَهُ، "ما لَمْ ينزّلْ بِهِ سُلْطانا "يقول: حرّم ربكم عليكم أن تجعلوا معه في عبادته شركا لشيء لم يجعل لكم في إشراككم إياه في عبادته حجة ولا برهانا، وهو السلطان. "وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ "يقول: وأن تقولوا: إن الله أمركم بالتعرّي والتجرّد للطواف بالبيت، وحرّم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرّمتموها وسيّبتموها وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرّمه أو أمر به أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والأمر به، فإن ذلك هو الذي حرّمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرّمه أو تقولون إن الله أمركم به جهلاً منكم بحقيقة ما تقولون وتضيفونه إلى الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الفحشاء: هو الذي ظهر قبحه في العقل والسمع.
والمنكر: هو الذي ظهر الإنكار فيه على مرتكبه. والإثم: هو الذي يأثم المرء فيه. والبغي: من مظالم الناس؛ يظلم بعضهم على بعض... وأصل البغي هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له.
وأصل المنكر كل ما لا يعرف كقول إبراهيم: {إنكم قوم منكرون} [الحجر: 62] والمنكر ما أنكره العقل والسمع أيضا.
وقوله تعالى: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا} أي وحرّم أيضا أن تشركوا بالله. وقوله تعالى: {ما لم ينزّل به سلطانا} ليس على أنه ينزّل [به] سلطانا على الإشراك بحال، ولكن على أنهم يشركون بالله من غير حجج وسلطان؛ لأن أهل الإسلام هم الذين يدينون بدين ظهر بالحجج والآيات، وهم يدينون بدين لا يظهر بالحجج والآيات، ولكن بما هوت به أنفسهم واشتهت...
القبائح كلها فواحش، أجمل ذكرها بدياً ثم فصّل وجوهها فذكر أن منها الإثم والبغي والإشراك بالله. والبغي:هو طلب الترأس على الناس بالقهر والاستطالة عليهم بغير حق.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
ذكر الفواحش، والمراد بها الكبائر، وذكر الإثم، والمراد به صغائرها، ثم عطف على الأمرين ما يدخل فيهما، وهو البغي بغير الحق، والمعني به أن يتجاوز في طلب الأمر الحدّ الذي يحسُنُ، فيوصف عنده أنه بغي، لأن الأصل في البغي الطلب، ثم جعل للطلب المذموم، فدخل في الآية كل أنواع الظلم والبغي على الناس والانقياد بغير حق، ثم حرم اتباع ما لا دليل عليه، والقول بما لا نعلم صحته، فدخل في ذلك قبح التمسك بالمذاهب، وقبح اتباع ما لا يجب اتباعه، فجمعت الآية المحرمات، كما جمع ما قبلها المحللات في قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِه والطّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، مع ما فيه من تحريم الإسراف فيه، ولما حرم المحرمات نبه على اتباع الحجج والأدلة لكي يكون المكلف متحرزاً في أمر دينه ودنياه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}: عام في تحريم القول في الدين من غير يقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الفواحش} إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه، وقوله: {ما ظهر منها وما بطن} يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء، وهو لفظ عام في جميع الفواحش.
{والإثم} أيضاً: لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم...
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام، بين في هذه الآية أنواع المحرمات، فحرم أولا الفواحش، وثانيا الإثم، واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه: الأول: أن الفواحش عبارة عن الكبائر، لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد، والإثم عبارة عن الصغائر، فكان معنى الآية: أنه حرم الكبائر والصغائر...
القول الثاني: أن الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد، والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، وهذا وإن كان مغايرا للأول إلا أنه قريب منه، والسؤال فيه ما تقدم... والقول الثالث: أن الفاحشة اسم للكبيرة، والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيرا أو صغيرا. والفائدة فيه: أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصود على الكبيرة... والقول الرابع: أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسما لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور، إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة. والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا: {إنه كان فاحشة} ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك...
النوع الثالث: من المحرمات قوله: {والبغي بغير الحق} فنقول: أما الذين قالوا: المراد بالفواحش جميع الكبائر، وبالإثم جميع الذنوب. قالوا: إن البغي والشرك لا بد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم، إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيها على أنهما أقبح أنواع الذنوب، كما في قوله: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وفي قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم}، وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر، قالوا: البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم فنقول: البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفسا، أو مالا، أو عرضا...
فإن قيل: البغي لا يكون إلا بغير الحق، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط. قلنا أنه مثل قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} والمعنى: لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر، إلا أن يكون لكم فيه حق، فحينئذ يخرج من أن يكون بغيا.
والنوع الرابع: من المحرمات قوله تعالى: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} وفيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطانا، وجوابه: المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة، ولا سلطان ممتنع، فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك، فوجب أن يكون القول به باطلا على الإطلاق، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل.
وبقي في الآية سؤالان: السؤال الأول: كلمة «إنما» تفيد الحصر، فقوله: {إنما حرم ربي} كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء. والجواب: إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر، والإثم على مطلق الذنب دخل كل الذنوب فيه، وإن حملنا الفاحشة على الزنا، والإثم على الخمر. قلنا: الجنايات محصورة في خمسة أنواع: أحدها: الجنايات على الأنساب، وهي إنما تحصل بالزنا، وهي المراد بقوله: {إنما حرم ربي الفواحش} وثانيها: الجنايات على العقول، وهي شرب الخمر، وإليها الإشارة بقوله: {الإثم} وثالثها: الجنايات على الأعراض. ورابعها: الجنايات على النفوس وعلى الأموال، وإليهما الإشارة بقوله: {والبغي بغير الحق} وخامسها: الجنايات على الأديان وهي من وجهين: أحدها: الطعن في توحيد الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: {وأن تشركوا بالله} وثانيها: القول في دين الله من غير معرفة، وإليه الإشارة بقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتوابع، لا جرم جعل تعالى ذكرها جاريا مجرى ذكر الكل، فأدخل فيها كلمة «إنما» المفيدة للحصر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله".
وقوله: {وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}... وحاصل ما فُسّر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن أنكر التنزيل في الآية السابقة على المشركين وغيرهم من أهل الملل تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قفى عليه ببيان أصول المحرمات العامة التي حرمها لضرر ثابت لازم لها لا لعلة عارضة وكلها من أعمالهم الكسبية لا من مواهبه ونعمه الخلقية. ليعلم أنه له الحمد والشكر لم يحرم على الناس إلا ما هو ضار بهم دون ما هو نافع لهم فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} هذا كلام مستأنف لبيان ما حرمه الله تعالى بعد إنكار بأن يكون حرم الزينة والطيبات لأن الحال تقتضي أن يسأل عنه. والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم من أهل الملل الذين ظلموا أنفسهم وكذبوا على الله بزعمهم أنه حرم على عباده ما أخرج لهم من نعم الزينة والطيبات من الرزق، وكذا لمن اتبعك من المؤمنين: إنما حرم ربي في كتبه، على ألسنة رسله هذه الأنواع الخمس أو الست من أعمالهم الضارة التي يجنون بها على أنفسهم، فجعل تحريمها هو الدائم الذي لا يباح بحال من الأحوال كما يدل عليه الحصر بإنما وهي:
و2- الفواحش الظاهرة والباطنة. فالفواحش جمع فاحشة وهي الفعلة أو الخصلة التي فحش قبحها في الفطر السليمة والعقول الراجحة التي تميز بين الحسن والقبيح والضار والنافع، وكانوا يطلقونها على الزنا واللواط والبخل الشديد وعلى القذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح، وتقدم تفصيل القول في الفواحش ما ظهر منها وما بطن في تفسيره (5: 151) وهي من آيات الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام وفيه إحالة في تفسير ما ظهر منها وما بطن على تفسيره (119 وذروا ظاهر الإثم وباطنه) من تلك السورة.
و4- الإثم والبغي: تقدم أن الإثم في اللغة هو القبيح الضار فهو يشمل جميع المعاصي- الكبائر منها كالفواحش والخمر والصغائر كالنظر واللمس بشهوة لغير الحليلة وهو اللمم، ومنه قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} (النجم 31) فعطف الفواحش على كبائر الإثم لا على الإثم وهو من عطف الخاص على العام. وكذلك عطف البغي على الإثم هنا من عطف الخاص على العام. ومعناه في أصل اللغة كطلب لما ليس بحق أو بسهل أو ما تجاوز الحد، وقالوا بغي الجرح إذا ترامى إلى الفساد أو تجاوز الحد في فساده، ومنه البغي في الأرض الوارد في عدة آيات كقوله: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} (يونس 23) وقد صرح بعضها بالفساد {ولا تبغ الفساد في الأرض} القصص 77) وإذا عدى البغي بعلى كان بمعنى التجاوز والتعدي على الناس في أنفسهم أو أموالهم وأعراضهم ومنه {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم} (القصص 86) {خصمان بغى بعضنا على بعض} (ص:21) {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} (الحجرات 9) بل ذهب الراغب إلى أن حقيقة البغي طلب تجاوز الاقتصاد في القدر أو الوصف سواء تجاوزه بالفعل أو لم يتجاوزه. وذكر أنه قد يكون محمودا وهو تجاوز العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع.
واستعمال القرآن له في المعنيين اللذين ذكرناهما آنفا وفي غيرهما يؤيد تعريفنا وهو أعم من هذا التعريف...
فعلم من هذا أن البغي المحرم هو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق أو اعتداء على حقوق أفراد الناس أو جماعاتهم وشعوبهم ولذلك اقترن الإثم بالعدوان كقوله: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} (البقرة 85) {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة 2) {ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان} (المائدة 62) ومنه {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} (البقرة 173) أي فمن اضطر إلى شيء من محرمات الطعام غير طالب لها لذاتها فإنه تجاوز للحق ولا عاد حد الضرورة فيما يتناوله منه "فلا إثم عليه".
وقد قيد البغي بكونه بغير الحق لاستعماله بالمعنى اللغوي الذي يشمل تجاوز الحدود المعروفة أو المألوفة فيما لا ظلم فيه ولا فساد، ولا هضم لحقوق الجماعات ولا الأفراد كالأمور التي ليس لهم فيها حقوق، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها، وقيل إن القيد للتأكيد.
وقال ابن القيم: إن الإثم ما كان محرم الجنس، والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة فهو تعدي ما أبيح إلى القدر المحرم كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه بأخذ زيادة عما له، وبإتلاف أضعاف ما أتلف عليه أو قول أضعاف ما قيل فيه فهذا كله تعد للعدل. قال: وكذلك ما أبيح له قدر معين منه فتعداه إلى أكثر منه كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها، أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والمعاملة والمداواة، فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور، فتعدى المباح إلى القدر المحظور إلخ ما أطال به في وصف نظر الشهوة ومفاسده.
ثم قال، إن الغالب في استعمال البغي أن يكون في حقوق العباد والاستطالة عليهم، وأنه إذا قرن بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله قال فهاهنا أربعة أمور: حق لله وله حد، وحق لعباده وله حد، فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما وراءهما، أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما اه.
- الشرك بالله وهو معروف وقد بينا أنواعه في مواضع من هذا التفسير، ومن المعلوم بالضرورة أنه أبطل الباطل فلا يمكن أن يقوم عليه حجة من العقل ولا سلطان من الوحي، والسلطان الحجة البينة لأنها لها سلطة على العقل والقلب فقوله تعالى: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} (بيان للواقع من شركهم، وتكذيب لهم في مضمون قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} (الأنعام 148) الآية ونص على أن أصول الإيمان يجب أن تكون بوحي من الله مؤيد بالبرهان فهو كقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} (المؤمنون 117) الآية ولا يكون هذا الداعي إلا كذلك ولكنه تعالى عظم شأن الدليل والبرهان في دينه وناط به تصديق دعوى المدعي وردها، بصرف النظر عن موضوعها، حتى كأن من جاء بالبرهان على الشرك يصدق به، وهو من فرض المحال، للمبالغة في فضل الاستدلال.
وقد قال في سياق إقامة البراهين على توحيده {أإله مع الله؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (النمل 64) على أنه صرح بأنه ليس لديهم برهان فيما أقام على كذبهم فيه البرهان، وكيف يكون لديهم ما هو في نفسه محال، كقوله: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون؟} (يونس 68) وإن هنا نافية أي ما عندكم أدنى دليل بهذا القول الفظيع الذي تقولونه مع أن ما تبطل البراهين والآيات البينة مثله يحتاج مدعيه إلى أقوى البراهين والحجج وأعظمها سلطان على العقول، ولما كان منهم من قد يعترف بأنه قول لا تقوم عليه حجة من العقل بل لا يتصور العقل وجوده ولكنه يدعي أنه قد ورد به النقل عن الأنبياء وأن المسيح ادعاه لنفسه قال: {أتقولون على الله ما لا تعلمون؟} وهذه الآية تناسب الآية التي نفسرها.
- القول على أن الله بغير علم: وهو أعظم هذه الأنواع من أصول المحرمات الذاتية التي حرمها الله تعالى في دينه على ألسنة جميع رسله، فإنه أصل الأديان الباطلة، ومنشأ تحريف الأديان المحرفة، وشبهة الابتداع في الدين الحق الناسخ كتابه المعصوم للأديان المبدلة، والمهيمن على الكتب المحرفة، والمحررة سنة رسوله بالأسانيد المتصلة، والمحصاة تراجم رواتها في الكتب المدونة، فمن العجائب بعد هذا أن ينتشر في أهله الابتداع، وتتعارض فيه المذاهب وتتعادى الأشياع، مع نهي كتابه عن التفرق والاختلاف، ووعيده المتفرقين بعذاب الدنيا وعذاب النار، ومع بيانه للمخرج من فتنة التنازع، ومعالجته لأدواء التدابر والتقاطع، ولكنهم حكموا الأهواء حتى في العلاج والدواء فاتبعوا كما أنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم سنن من قبلهم حتى في قوله تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (البقرة 213)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لَمَّا أنبأ قوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف: 32] إلى آخره، بأنّ أهل الجاهليّة حُرِموا من الزّينة والطّيبات من الرّزق، وأنبأ قوله تعالى قبل ذلك {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28] بأنّ أهل الجاهليّة يَعْزُون ضلالهم في الدّين إلى الله، فأنتج ذلك أنّهم ادّعوا أنّ ما حَرّموه من الزّينة والطّيبات قد حرّمه الله عليهم، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرّمه الله حقّاً وهم ملتبسون به وعاكفون على فعله.
فالقصر المفاد من {إنَّما} قصر إضافي مُفَادُهُ أنّ الله حرّم الفَواحش وما ذُكر معها لاَ ما حرّمتموه من الزّينة والطّيّبات، فأفاد إبطال اعتقادهم، ثمّ هو يفيد بطريق التّعريض أنّ ما عدّه الله من المحرّمات الثّابت تحريمها قد تلبّسوا بها، لأنّه لمّا عدّ أشياء، وقد علم النّاس أنّ المحرّمات ليست محصورة فيها، عَلم السّامع أنّ ما عيّنه مقصود به تعيين ما تلبّسوا به فحصل بصيغة القصر ردّ عليهم من جانبي ما في صيغة (إنّما) من إثبات ونفي: إذ هي بمعنى (مَا وإلاّ)، فأفاد تحليل ما زعموه حراماً وتحريم ما استبَاحوه من الفواحش وما معها.
والفواحش جمع فاحشة وقد تقدّم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى: {إنه كان فاحشة ومقتاً} في سورة النّساء (22) وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة} [الأعراف: 28].
و {ما ظهر منها} هو ما يظهره النّاس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادنة، وما بطن هو ما لا يظهره النّاس مثل الوأد والسّرقة، وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} في سورة الأنعام (151). وقد كانوا في الجاهليّة يستحلّون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشكّ أولو الألباب، لو سئلوا، أنّ الله لا يرضى بها، وقيل المراد بالفواحش: الزّنا، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزّناة، وعلى هذا يتعيّن أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدّد أفعاله وأحواله وهو بعيد.
وأمّا الإثم فهو كلّ ذنب، فهو أعمّ من الفواحش، وتقدّم في قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} في سورة البقرة (219). وقوله: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} في سورة الأنعام (120)، فيكون ذكر الفواحش قبلَه للاهتمام بالتّحذير منها قبل التّحذير من عموم الذّنوب، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام، كذكر الخاص بعد العام، إلاّ أنّ الاهتمام الحاصل بالتّخصيص مع التّقديم أقوى لأنّ فيه اهتماماً من جهتين.
وأمّا البغي فهو الاعتداء على حقّ الغير بسلب أموالِهم أو بأذاهم، والكبرُ على النّاس من البغي، فما كان بوجه حقّ فلا يسمّى بَغياً ولكنّه أذىً، قال الله تعالى: {والّلذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] وقد كان البغي شائعاً في الجاهليّة فكان القوي يأكل الضّعيف، وذو البأس يغير على أنعام النّاس ويقتل أعداءه منهم، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحُمْس، وأن يُلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحُمْس، ولا يطوف إلاّ في ثيابهم.
وقوله: {بغير حق} صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلاّ بغير حقّ.
وعطف {البغي} على {الإثم} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة...
والإشراك معروف وقد حرّمَه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلَق البشر.
و {ما لم ينزّل به سلطانا} موصول وصلته، و (مَا) مفعول {تشركوا بالله}، والسّلطان البرهان والحجّة، والمجرور في قوله: {به} صفة ل {سلطانا}، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى: {من إن تأمنه بقنطار} [آل عمران: 75] أي سلطاناً عليه، أي دليلاً. وضمير (به) عائد إلى (ما) وهو الرابط للصّلة. فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء: نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمرادُ وصفُها، مثلُ حرّمت عليكم الميتة أي أكلها. وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين، ونفيِ معذرتهم في الإشراك، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة، فَعَرّف الشّركاء المزعومين تعريفاً لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم: أنّ لا سُلطان على شركتهم لله في الإلهية، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف، وليس ذلك كالوصف، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة، ولا الموصولاتُ معدودة في صِيَغ المفاهيم...
وقولُه: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} تقدّم نظيره آنفاً عند قوله تعالى، في هذه السّورة: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهليّة فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام، وهم يزعمون أنّهم يتورّعون عن الطّواف في الثّياب، وعن أكل بعض الطّيّبات في الحجّ. وهذا من ناحية قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عنه الله والفتنة أكبر من القتل} [البقرة: 217].
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومن هنا انتقل كتاب الله إلى تقعيد قاعدة أساسية تستحق أن نقف عندها وقفة خاصة، إذ تعتبر هي المعيار الوحيد الذي حدده الشرع لتمييز الحلال من الحرام، وذلك قوله تعالى مخاطبا لنبيه وملقنا إياه: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وبموجب هذه الآية أعلن الحق سبحانه وتعالى أنه لم يحرم على خلقه شيئا من الطيبات، فقد أحلها لهم جميعا، وإنما حرم عليهم الخبائث، الخبائث بطبيعتها، والخبائث بآثارها... ومن الثابت في الكتاب والسنة أن الطاعات التي يرضى عنها الله ورسوله هي عبارة عن المعتقدات والأقوال والأعمال الصالحة، التي تتحقق عن طريقها سعادة الفرد، ورفاهية المجتمع، واستقرار الدولة، طبقا للتخطيط الإلهي الذي لا يختل، والتوجيه السماوي الذي لا يضل، وبعكس ذلك المعاصي والذنوب التي يحذر منها الله ورسوله، فهي تلتقي كلها في نقطة واحدة: فساد الفرد، وفساد المجتمع، وفساد الدولة، وما من معتقد أو قول أو فعل حرمه الله ورسوله إلا ويتبين عند تحليله وتعييره أنه عامل من عوامل الشقاء والفناء، ولو لم يتبين أثره إلا بعد مرور الأيام، إلا أن المعاصي والذنوب ليست على درجة واحدة، فمنها ما ضرره أقل، ومنها ما ضرره أكثر، ومنها ما ضرره قاصر على مرتكبه وحده، ومنها ما ضرره يقع على مرتكبه ويتعداه إلى الغير، ومن أجل ذلك كان في الذنوب ما هو من قبيل "الصغائر "وما هو من قبيل "الكبائر"، وقد أوضح الإمام الغزالي أنه ما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه. ومن اختيارات الإمام الحليمي: أنه ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقيب الكبيرة فاحشة بقرينة صغيرة، مثال ذلك: القبلة يفعلها الرجل مع غير أهله تعتبر من الصغائر، لكن إذا فعلها مع زوجة جاره أصبحت من الكبائر، لمضاعفة ذنب القبلة بهتك حرمة الجوار، ومثال آخر: إذا زنى الرجل بامرأة يكون قد ارتكب كبيرة، فإن زنى بزوجة جاره كان قد ارتكب فاحشة، وهي أعلى درجات الكبيرة، لمضاعفة ذنب الزنى بالاعتداء على عرض الجار، ورد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم، فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. وهكذا يكون ترتيب الذنوب والمعاصي حسب التدرج من الأدنى إلى الأعلى، صغائر، ثم كبائر، ثم فواحش...
وقوله تعالى هنا: {ما ظهر منها وما بطن} بعد ذكر الفواحش وإعلان تحريمها بصفة عامة تنبيه إلى أن الإسلام لا يكتفي من معتنقيه بالشكليات والظواهر، ولا يرضى منهم بالنفاق، وإنما ينفذ إلى الأعماق والبواطن، فالنية الفاسدة والقصد السيئ والخلق المرذول الذي ينطوي عليه الشخص باطنا، والعمل القبيح الذي يتستر به عن الأعين، كل ذلك يعتبره الإسلام ذنبا ومعصية وفاحشة يؤاخذ بها المكلف، مثل ما يؤاخذ بالفواحش الظاهرة، والإسلام حريص على أن يكون الظاهر عنوان الباطن بالنسبة للمسلم، لا أن يكون ظاهره مجرد واجهة براقة تخلب الأبصار، وتخدع الأغرار، وفي نفس هذا المعنى سبق قوله تعالى في سورة الأنعام: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقوله تعالى في نفس السورة: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه}...
{بغير الحق} تنبيه إلى أن معيار البغي والظلم الذي يميزه عن غيره هو أن يكون عملا غير مستند إلى أي سند من الحق، لا أن البغي منه ما يكون بحق، ومنه ما يكون بغير حق، فذلك بعيد عن التصور. جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وروى الإمام أحمد بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول اله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا) ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد ابن مسلم. وروى الطبراني بسنده إلى سعد ابن جنادة قال: (لما فرغ رسول الله صلى الله عيه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا، من وجد عودا فليأت به، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به. قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه – أي ذلك القفر من الأرض – ركاما – أي متراكما بعضه فوق بعض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذا، فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه)...