محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

[ 33 ] { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( 33 ) } .

{ قل } إنهما من المنافع الخالصة في أنفسهما . والإفضاء احتمال غير محقق . فإذا أفضى ، فالحرام هو المفضى إليه بالذات لأنه { إنما حرم ربي الفواحش } أي : ما تفاحش قبحه من الذنوب ، أي تزايد ( وهي الكبائر ) وهي ما يتعلق بالفروج { ما ظهر منها وما بطن } أي : ما جاهر به بعضهم بعضا ، وما ستره بعضهم عن بعض ، وما ظهر من أفعال الجوارح ، وما بطن من أفعال القلوب { والإثم } أي : ما يوجب الإثم ، وهو عام لكل ذنب . وذكره للتعميم بعد التخصيص . ويقال : إن الإثم هو الخمر ، قال الشاعر{[3921]} :

نهانا رسول الله أن نقرب الزنى*** وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وأنشد الأخفش{[3922]} :

شربت الإثم حتى ضل عقلي*** كذلك الإثم تذهب بالعقول

وهو منقول عن ابن عباس والحسن . وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره . قال الحسن : ويصدقه قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير }{[3923]} . وقال ابن الأنباري : لم تسمّ العرب الخمر / إثما في جاهلية ولا إسلام ، والشعر المذكور موضوع ، وردّ بأنه مجاز ، لأنه سببه . وقال أبو حيان : هذا التفسير غير صحيح هنا ، لأن السورة مكية ، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحُد ، وقد سبقه إلى هذا غيره . وأيضا ، الحصر يحتاج إلى دليل . كذا في ( العناية ) { والبغي } أي : الاستطالة على الناس وظلمهم . إنما أفرده بالذكر ، مع دخوله فيما قبله ، للمبالغة في الزجر عنه . وذلك لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميز من بينها حتى عدّ نوعا مستقلا { بغير الحق } متعلق ب ( البغي ) ، مؤكد له معنى . وقيل : البغي قد يخرج عن كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع ، كالقصاص ، إلا أن مثله لا يسمى بغيا حقيقة ، بل مشاكلة { و } قد حرم { أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } أي : برهانا أي : ما لم يقم عليه حجة . قال الزمخشري : فيه تهكم ، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره . وفي ( العناية ) : إنما جاء التهكم من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان لم يكن محرما ، دلالة على تقليدهم في الغي . والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على الوجه الأبلغ- انتهى- . قال الرازي : وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل . وتبعه القاضي فقال : في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان { و } قد حرم عليكم { أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } أي : تتقولوا عليه ، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم ، أو في الشرك .

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية على تحريم جميع الذنوب ، لأن قوله : { الفواحش والإثم } يشتمل على الصغير والكبير ، والأفعال القبيحة ، والعقود المخالفة للشرع ، والأقاويل الفاسدة ، والاعتقادات الباطلة . ودخل في قوله : { ما ظهر منها وما بطن } أفعال الجوارح ، وأفعال القلوب / والخيانات ، والمكر ، والخديعة . ودخل تحت قوله : { والبغي } كل ظلم يتعدى على الغير ، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج ، والأمراء إذا انتصروا بغير حق . ودخل تحت قوله : { وأن تشركوا } تحريم كل شرك وعبادة لغير الله . ودخل تحت قوله : { وأن تقولوا } كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق ، وشهادة زور ونحوه . فالآية جامعة في المحرمات ، كما أن ما قبلها جامعة في المباحات . وفيه تعليم للآداب ، دينا ودنيا ، وتدل على بطلان التقليد ، لأنه أوجب اتباع الحجة ، وقوله : { ما لم ينزل به سلطانا } ، والسلطان الحجة . وتدل على أن لكل أحد وقت حياة ، ووقت موت ، لا يجوز فيه التقديم والتأخير ، فيبطل قول من يقول : المقتول مات قبل أجله . انتهى .


[3921]:- لم أقف على هذا البيت في محل ما، ولم أعرف اسم هذا الشاعر.
[3922]:- استشهد به في اللسان، مادة (ا ث م) بالصفحة رقم 6 من المجلد الثاني عشر (طبعة بيروت).
[3923]:- [2/ البقرة/ 219] ونصها: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعها ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)}.