في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

26

فأما الذي حرمه الله حقاً ، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس ، وليس هو الطيب من الطعام والشراب - في غير سرف ولا مخيلة - إنما الذي حرمه الله حقاً هو الذي يزاولونه فعلاً !

( قل : إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) . .

هذا هو الذي حرمه الله . الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله . ظاهرة للناس أوخافية . والإثم . وهو كل معصية لله على وجه الإجمال . والبغي بغير الحق . وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما الله أيضاً - وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطاناً مع الله - سبحانه - في خصائصه . ومنه هذا الذي كان واقعاً في الجاهلية ، وهو الواقع في كل جاهلية . من إشراك غير الله ليشرع للناس ؛ ويزاول خصائص الألوهية . وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم . ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين . .

ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ؛ ووجه إليهم هذا الإستنكار الوارد في قوله تعالى : ( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده . . ) ما رواه الكلبي قال :

" لما لبس المسلمون الثياب ، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها . . فنزلت الآية . . "

فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها ! ناس يطوفون ببيت الله عرايا ؛ فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة : ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) . . فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين ، في زينة الله التي أنعم بها على البشر ؛ لإرادته بهم الكرامة والستر ، ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري ، وليتميزوا عن العري الحيواني . . الجسمي والنفسي . . إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله " عيروهم " !

إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس . . هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب ؟ وجاهلية المشركين الإغريق ؟ وجاهلية المشركين الرومان ؟ وجاهلية المشركين الفرس ؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان ؟ !

ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس ، وتعريهم من التقوى والحياء ؟ ثم تدعو هذا رقياً وحضارة وتجديداً ؛ ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات ، بأنهن " رجعيات " . " تقليديات " . " ريفيات " !

المسخ هوالمسخ . والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس . وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين . والتبجح بعد ذلك هو التبجح . . ( أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون ! ) .

وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري ، وهذا الانتكاس ، وهذه البهيمية ، وهذا التبجح ، بالشرك ، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله ؟

لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم ، لضمان السيادة لها في الجزيرة . . ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء . . فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك . . ولا يملكون لأمرهم رداً . .

إن بيوت الأزياء ومصمميها ، وأساتذة التجميل ودكاكينها ، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك ! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها ، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية ! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه ، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح ، فهي تطيع صاغرة . . تطيع تلك الأرباب . وإلا " عيرت " من بقية البهائم المغلوبة على أمرها !

ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء ؟ ووراء دكاكين التجميل ؟ ووراء سعار العري والتكشف ؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص ، والمجلات والصحف ، التي تقود هذه الحملة المسعورة . . وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخوراً متنقلاً للدعارة ؟ !

من الذي يقبع وراء هذا كله ؟

الذي يقبع وراء هذه الأجهزه كلها ، في العالم كله . . يهود . .

يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها ! ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان . . أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار ؛ وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه ، وإفساد الفطرة البشرية ، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل ! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه !

إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة . . ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق .

أنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى :

إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية ، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور ، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة .

كذلك تتعلق بإبراز خصائص " الإنسان " في الجنس البشري ، وتغليب الطابع " الإنساني " في هذا الجنس على الطابع الحيواني .

والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق . وتجعل العري - الحيواني - تقدماً ورقياً . والستر - الإنساني - تأخراً ورجعية ! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان .

وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون : ما للدين والزي ؟ ما للدين وملابس النساء ؟ ما للدين والتجميل ؟ . . إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان ! ! !

/خ34