اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّ الذي حرَّموه ليس بحرام بيَّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات ، فحرَّم أولاً الفواحش ، وثانيها الإثم ، واختلفُوا في الفَرْقِ بينهما ، فقيل : الفواحشُ : عبارة عن الكبَائر ؛ لأنَّ قبحها قد تَفَاحَشَ أي : تزايد ، والإثم عبارة عن الصغائر ، والمعنى : أنَّهُ حرَّم الكبائِرَ والصَّغائِرَ .

وطعن القاضي{[16075]} في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال : الزِّنّا والسرقة والكفر ليس بإثْمٍ ، وهو بعيد ، وأقلُّ الفواحش ما يجب فيه الحدُّ ، والإثم ما لا حدّ فيه .

وقيل : الفاحِشَةُ اسم للكبيرةِ ، والإثمُ اسم لمطلق الذَّنْبِ سواء كان صغيراً أو كبيراً ، وفائدته : أنَّهُ لمَّا حرّم الكبيرة أردفه بِتَحْرِيمِ مطلق الذَّنْبِ ، لئلاَّ يتوهم أنَّ التحريم مقصورٌ على الكبيرة ، وهذا اختيار القاضي{[16076]} .

وقيل : إنَّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللُّغَةِ اسماً لكلِّ ما يتفاحش وتزايدُ في أمر من الأمور ، إلاَّ أنَّهُ في العُرْفِ مخصوصٌ بالزِّنَا ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى في الزنا : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، ولأنَّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلاَّ ذلك .

وإذا قيل : فلانٌ فحاشٌ ، فُهم منه أنَّهُ يشْتِمُ النَّاسَ بالفاظ الوِقَاع ؛ فوجب حمل لفظ الفاحِشَةِ على الزِّنَا ، فعلى هذا يكون { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : الذي يقع منها علانية ، و " مَا بَطَنَ " أي : الذي يقع منها سرّاً على وجه العشق والمحبَّة .

وقيل : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : المُلامسة والمُعَانقة ، و " مَا بَطَنَ " الدُّخول ، وقد تقدَّم الكلام فيه في آخر السُّورة قبلها .

وما " الإثم " فالظاهر أنَّهُ الذَّنب .

وقيل : هو الخمرُ ، قاله المفضلُ ، وأنشد القائل في ذلك : [ الطويل ]

نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أنْ نَقْرَبَ الزِّنَا *** وأنْ نَشْرَبَ الإثْمَ الذي يُوجِبُ الوِزْرَا{[16077]}

وأنشد الأصمعي : [ الطويل ]

وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ *** كأنِّي شَرِبْتُ الإثْمَ أو مَسَّنِي خَبَلْ{[16078]}

قال : وقد يسمى الخمر إثماً ؛ وأنشد القائلُ : [ الوافر ]

شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي *** كَذَاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ{[16079]}

ويروى عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - والحسنِ البصري [ أنهما ] قالا : " الإثم : الخمر{[16080]} " .

قال الحسنُ : " وتصديق ذلك قوله : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] ، والذي قاله الحُذَّاق : أنَّ الإثم ليس من أسماء الخَمْرِ{[16081]} .

قال ابن الأنباري : " الإثمُ : لا يكون اسماً للخمر ؛ لأنَّ العرب لم تسمِّ الخمر إثماً ، لا في جاهليّة ، ولا في الإسلام ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك ؛ لأنَّ الخمر سبب الإثم ، بل هي معظمه ، فإِنَّهَا مؤجّجة للفتن ، وكيف يكونُ ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السُّورةِ حلالاً ؛ لأن هذه السُّورة مكيَّة ، وتحريم الخمبر إنَّمَا كان في " المَدِينَةِ " بعد " أحد " ، وقد شربها جماعةٌ من الصَّحابة يوم " أحدٍ " فماتوا شُهَدَاء ، وهي في أجوافهم .

وأمّا ما أنشده الأصمعيُّ من قوله :

شَرِبْتُ الإثْمَ . . . . . . . . . . . . . *** . . . {[16082]}

نصواعلى أنه مصنوع ، وأما غيره فاللَّهُ أعلم " .

وقال بعضُ المفسِّرين : " الإثم : الذّنب والمعصية " .

وقال الضحاكٌ - رحمه الله - : " الإثمُ : هو الذَّنْبُ الذي لا حدَّ فيه " .

قوله : { والبغي بِغَيْرِ الحق } : اعلم أنَّ الَّذين قالوا : المراد ب " الفواحش " جميع الكبائر ، وب " الإثم " جميع الذُّنوب قالوا : إن البغي والشرك لا بد وأن يدخلا تحت الفواحش ، وتحت الإثم ، وإنَّمَا خصّهما الله - تعالى - بالذِّكر تنبيهاً على أنَّهُما أقبح أنواع الذُّنُّوب ، كما في قوله تبارك وتعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .

وفي قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 8 ] .

وأمَّا الذين خصُّوا الفاحشةَ بالزِّنَا ، والإثمَ بالخَمْرِ قالوا : البغي والشرك غير داخلين تَحْتَ الفواحِش والإثم ، وإنَّمَا البغي لا يستعملُ إلا في الإقْدَامِ على الغير نفساً ، أو مالاً أو عِرْضاً ، وقد يراد البغي على سلطان الوقت .

فإن قيل : البغيُ لا يكون إلا بغير الحقِّ ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط ؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أنَّ قوله تعالى " بِغَيْرِ الحقِّ " حال ، وهي حال مؤكدة ؛ لأنَّ البَغْيَ لا يكون إلاَّ بغير الحق .

والثاني : أنَّهُ مثل قوله تبارك وتعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الأنعام : 151 ] ، والمعنى : لا تُقدمُوا على إيذاءِ النَّاسِ بالقَتْلِ والقهر ، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغياً .

وقوله : " وأنْ تُشْرِكُوا " منصوب المحلِّ نسقاً على مفعول " حرَّم " أي : وحرّم إشراككم عليكم ، ومفعول الإشراك { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وقد تقدَّم بيانه في " الأنعام " ، تهكَّم بهم ؛ لأنَّهُ لا يجوز أن ينزل برهاناً أن يُشْرَكَ به غيره .

قوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله } نسق على ما قبله أي : وحرّم قولكم عليه من غير علم ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في هذه السُّورة عند قوله { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

فإن قيل : كلمة " إنَّمَا " تفيدُ الحَصْرَ ، إنَّمَا حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر ، والمحرمات غير محصور في هذه الأشياء ؟

فالجواب : إنْ قُلْنَا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبَائِرِ ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذُّنوب فيه ، وإن حملنا الفَاحِشَة على الزِّنَا ، والإثم على الخمر فنقول : الجنايات محصورةٌ في خمسة :

أحدها : الجنايات على الإنسانيَّة ، فهذا إنَّما يحصل بالزِّنَّا ، وهو المراد بقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش } .

وثانيها : الجنايات على العقول ، وهي شُرْبُ الخمر ، وإليه الإشارة بقوله " والإثْم " .

وثالثها ورابعها : الجنايات على النُّفوس والأموال ، وإليه الإشارة بقوله : { والبغي بِغَيْرِ الحق } .

وخامسها : الجناية على الأديان ، وهي من وجهين :

أحدهما : الطَّعْنُ في توحيد الله تبارك وتعالى .

والثاني : الطعن في أحكامه ، وإليه الإشارة بقوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

فلما كانت الجنايات هذه الأشياء ، وكانت البواقي كالفروع والتَّوابع ، لا جرم كان ذكرها جارٍ مجرى ذكر الكُلِّ ، فأدخل فيها كلمة " إنَّمَا " المفيدة للحصر .

فإن قيل : الفَاحِشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقديرُ الآية الكريمة : إنَّمَا حرَّمَ ربي المحرمات ، وهو كلام خال عن الفائدة ؟

فالجوابُ ، كون الفعل فَاحِشة إنَّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النَّهي عنه فسقط السُّؤال{[16083]} .


[16075]:ينظر: تفسير الرازي 14/54.
[16076]:ينظر: تفسير الرازي 14/54.
[16077]:البيت ينظر: البحر 4/294، روح المعاني 8/112، الدر المصون 3/262.
[16078]:البيت ينظر: البحر 4/294، الدر المصون 3/263.
[16079]:تقدم.
[16080]:ذكره القرطبي في تفسيره (7/129).
[16081]:تقدم.
[16082]:تقدم.
[16083]:ينظر: تفسير الرازي 14/56.