20 - وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها في الوقت المقدَّر لها ، فعجَّل لكم هذه - وهو ما وعدكم به من الغنائم - ومنع أذى الناس عنكم ، ولتكون آية للمؤمنين على صدق وعد الله لهم .
ويهديكم طريقا مستقيما بطاعته واتباع رسوله ، ومغانم أخرى لم تقدروا عليها قد حفظها الله لكم فأظفركم بها ، وكان الله على كل شيء تام القدرة .
قوله تعالى : { وأخرى لم تقدروا عليها } أي وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها ، { قد أحاط الله بها } حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى تأخذوها ، قال ابن عباس : علم الله أنه يفتحها لكم . واختلفوا فيها ، فقال ابن عباس ، والحسن ، ومقاتل ، هي فارس والروم ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم ، بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليها بالإسلام . وقال الضحاك وابن زيد : هي خيبر ، وعدها الله نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ، ولم يكونوا يرجونها . وقال قتادة : هي مكة . وقال عكرمة : حنين ، وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم . { وكان الله على كل شيء قديراً* }
وقوله : { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } معطوف على { هذه } .
أى : فعجل لكم هذه المغانم ، وعجل لكم مغانم أخرى ، لم تقدروا على الحصول عليها قبل ذلك لبعدها عن أن تنالها أيديكم . وقد أحاط الله بها لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
وتختلف الأقوال فى هذه المغانم الأخرى فمنهم من يرى أنها فتح مكة ، ومنهم من يرى أنها فتح خيبر . ومنهم من يرى أنها مغانم هوزان وثقيف ، ومنهم من يرى أنها مغانم المسلمين من الفرس والروم .
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال أولها ، لأنه ترتيب على هذا الصلح فى الحديبية أن فتحت مكة بعد سنتين منه ، بسبب نقض المشركين له ، وقد تم فتحا بدون قتال يذكر ، بعد أن حدث ما حدث بين المسلمين وبين مشركة مكة من قتال انتصر فيه المسلمون تارة كغزوة بدر ، وانتصر فيه المشركون أخرى كغزوة أحد . .
فالمسلمون لم يقدروا على دخول مكة إلا فى عام الفتح ، وبعد أن أحاط الله - تعالى بها - بقدرته التى لا يغلبها شئ ، وبعد أن استعصت على المسلمين زمنا طويلا ، وقد سلمها - سبحانه - لهم بأقل أنواع القتال { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
والذى يتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى الله - تعالى - ، قد بشر المسلمين الذين شهدوا صلح الجديبية ببشارات متعددة .
بشرهم - أولا - برضاه عنهم - وهذه أسمى بشارة وأعلاها . .
وبشرهم - ثانيا - بتفضله عليهم بمنحهم السكينة والطمأنية التى تجعلهم فى ثبات وأمان . .
وبشرهم - ثالثا - بفتوحات وغنائم منها القريب العاجل ، ومنها الآجل المتحقق ، الذى يكاد لتحققه أن يشاهدوه بأعينهم لأن الله - تعالى وعد به ووعده لا يتخلف .
وقوله : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } أي : وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها ، قد يَسَّرها الله عليكم ، وأحاط بها لكم ، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون .
وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ، ما المراد بها ؟ فقال العَوْفي عن ابن عباس : هي خيبر . وهذا على قوله في قوله تعالى : { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } إنها صلح الحديبية . وقاله الضحاك ، وابن إسحاق ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال قتادة : هي مكة . واختاره ابن جرير .
وقال ابن أبي ليلى ، والحسن البصري : هي فارس والروم .
وقال مجاهد : هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن سماك الحنفي ، عن ابن عباس : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم{[26863]} .
{ وأخرى } ومغانم أخرى معطوفة على هذه ، أو منصوبة بفعل يفسره { قد أحاط الله بها } مثل قضى ، ويحتمل رفعها بالابتداء لأنها موصوفة وجرها بإضمار رب . { لم تقدروا عليها } بعد لما كان فيها من الجولة . { قد أحاط الله بها } استولى فأظفركم بها وهي مغانم هوازن أو فارس . { وكان الله على كل شيء قديرا } لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء .
وقوله : { وأخرى لم تقدروا عليها } قال عبد الله بن عباس : الإشارة إلى بلاد فارس والروم . وقال الضحاك : الإشارة إلى خيبر . وقال قتادة والحسن : الإشارة إلى مكة ، وهذا هو القول الذي يتسق معه المعنى ويتأيد .
وقوله : { قد أحاط الله بها } معناه بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها .
هذا من عطف الجملة على الجملة فقوله : { أخرى } مبتدأ موصوف بجملة { لم تقدروا عليها } والخبر قوله : { قد أحاط الله بها } .
ومجموع الجملة عطف على جملة { وعدكم اللَّه مغانم كثيرة } [ الفتح : 20 ] فلفظ { أخرى } صفة لموصوف محذوف دل عليه { مغانم } الذي في الجملة قبلها ، أي هي نوع آخر من المغانم صعبة المنال ، ومعنى المغانم يقتضي غانمين فعلم أنها لهم ، أي غير التي وعدهم الله بها ، أي هذه لم يعدهم الله بها ، ولم نجعل { وأخرى } عطفا على قوله { هذه } [ الفتح : 20 ] عطف المفرد على المفرد إذ ليس المراد غنيمة واحدة بل غنائم كثيرة .
ومعنى { لم تقدروا عليها } : أنها موصوفة بعَدم قدرتكم عليها ، فلما كانت جملة { لم تقدروا عليها } صفة ل { أخرى } لم يقتض مدلول الجملة أنهم حاولوا الحصول عليها فلم يقدروا ، وإنّما المعنى : أن صفتها عدم قدرتكم عليها فلم تتعلّق أطماعكم بأخذها .
والإحاطة بالهمز : جعل الشيء حائطاً أي حافظاً ، فأصل همزته للجعل وصار بالاستعمال قاصراً ، ومعناه : احتوى عليه ولم يترك له منصرفاً فول على شدة القدرة عليه قال تعالى : { لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم } [ يوسف : 66 ] أي إلا أن تغلَبوا غلباً لا تستطيعون معه الإتيان به .
فالمعنى : أن الله قدَر عليها ، أي قدر عليها فجعلها لكم بقرينة قوله قبله { لم تقدروا عليها } . والمعنى : ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها قد قدر الله عليها ، أي فأنا لكُمْ إيّاها .
وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك ، أي أحاط الله بها لأجلكم ، وفي معنى الإحاطة إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه فلا يفوتهم مكانه ، جعلت كالمخبوء لهم . ولذلك ذُيل بقوله : { وكان اللَّه على كل شيء قديراً } إذ هو أمر مقرر في علمهم .
فعلم أن الآية أشارت إلى ثلاثة أنواع من المغانم : نوع من مغانم موعودة لهم قريبة الحصول وهي مغانم خيبر ، ونوع هو مغانم مرجوة كثيرة غير معين وقت حصولها ، ومنها مغانم يوم حنين وما بعده من الغزوات ، ونوع هو مغانم عظيمة لا يَخطر ببالهم نوالها قد أعدها الله للمسلمين ولعلها مغانم بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد البربر . وفي الآية إيماء إلى أن هذا النوع الأخير لا يناله جميع المخاطبين لأنه لم يأت في ذكره بضميرهم ، وهو الذي تأوله عُمر في عدم قسمة سواد العراق وقرأ قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] .