62- إن الذين آمنوا من الأنبياء من قبل ، واليهود والنصارى ، ومن يقدسون الكواكب والملائكة ، من آمن برسالة محمد بعد بعثته ، ووحَّد الله تعالى وآمن بالبعث والحساب يوم القيامة ، وعمل الأعمال الصالحة في دنياه ، فهؤلاء لهم ثوابهم المحفوظ عند ربهم ، ولا يلحقهم خوف من عقاب . ولا ينالهم حزن على فوات ثواب ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } . يعني اليهود سموا به لقولهم : ( إنا هدنا إليك ) أي ملنا إليك ، وقيل : لأنهم هادوا أي تابوا عن عبادة العجل ، وقيل : لأنهم مالوا عن دين الإسلام ، وعن دين موسى عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون : إن السماوات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة .
قوله تعالى : { والنصارى } . سموا به لقول الحواريين : ( نحن أنصار الله ) ، وقال مقاتل : لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة ، لاعتزائهم إلى نصرة . وهي قرية كان ينزلها بعيسى عليه السلام .
قوله تعالى : { والصابئين } . قرأ أهل المدينة : والصابين والصابون بترك الهمزة والباقون بالهمزة ، وأصله : الخروج ، يقال : صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر ، وصبأت النجوم إذا خرجت من مطالعها ، وصبأ ناب البعير إذا خرج ، فهؤلاء سموا به لخروجهم من دين إلى دين .
قال عمر بن الخطاب وابن عباس : هم قوم من أهل الكتاب ، قال عمر : تحل ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب ، وقال ابن عباس : لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم ، وقال مجاهد : هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس ، وقال الكلبي : هم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم ، وقال قتادة : هم قوم يقرون بالله ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الكعبة ، أخذوا من كل دين شيئاً ، قال عبد العزيز بن يحيى : انقرضوا .
قوله تعالى : { من آمن بالله واليوم الآخر } . فإن قيل : كيف يستقيم قوله ( من آمن بالله ) وقد ذكر في ابتداء الآية ( إن الذين آمنوا ) ، قيل : اختلفوا في حكم الآية فقال بعضهم : أراد بقوله ( إن الذين آمنوا ) على التحقيق ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين فقال قوم : هم الذين آمنوا قبل المبعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار ، وقس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، والبراء الشني ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وبحيرا الراهب ، ووفد النجاشي ، فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ، ومنهم من لم يدركه . وقيل : هم المؤمنون من الأمم الماضية ، وقيل : هم المؤمنين من هذه الأمة ( والذين هادوا ) الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ، ولم يبدلوا ، ( والنصارى ) ، الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يغيروا وماتوا على ذلك . قالوا : وهذان الاسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام حيث كانوا على الحق ، كالإسلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والصابئون زمن استقامة أمرهم ( من آمن ) أي من مات منهم وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان بالموافاة ، ويجوز أن يكون الواو مضمراً . أي : ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة ، وقال بعضهم : إن المذكورين بالإيمان في أول الآية على طريق المجاز دون الحقيقة ، ثم اختلفوا فيهم فقال بعضهم : الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل : أراد بهم المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، واليهود والنصارى الذين اعتقدوا اليهودية والنصرانية بعد التنزيل والصابئون بعض أصناف الكفار من آمن بالله واليوم الآخر من هذه الأصناف بالقلب واللسان .
قوله تعالى : { وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم } . وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن من يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث .
ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة ، لأن الصابئين ، الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى ، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة ، واليهود والنصارى ، والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ، وصدقوا رسلهم ، فإن لهم الأجر العظيم والأمن ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر ، فهو بضد هذه الحال ، فعليه الخوف والحزن .
والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف ، من حيث هم ، لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد ، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم ، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام ، فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم ، لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها ، ومَنْ رحمته وسعت كل شيء .
وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم ، وذكر معاصيهم وقبائحهم ، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم ، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه ، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم . ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها ، ليتضح الحق ، ويزول التوهم والإشكال ، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين .
وبعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب جحودهم لنعم الله ، وكفرهم بآياته - أردف بذلك ما وعد الله به المؤمنين من جزيل الثواب فقال - تعالى :
{ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين . . . } .
في هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن أربع فرق من الناس :
أما الفرقة الأولى : فهي فرقة الذين آمنوا ، والمراد بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدقوه .
وابتدأ القرآن بهم للإِشعار بأن دين الإِسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإِيمان الصادق والعمل الصالح ، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } .
وأما الفرقة الثانية : فهي فرقة الذين هادوا ، أي : صاروا يهوداً ، يقال : هاد وتهود ، أي دخل في اليهودية ، وسمواً يهوداً نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب - بقلب الذال دالا في التعريب - أو سمواً يهودا حين تابوا من عبادة العجل ، من هاد يهود هودا بمعنى تاب . ومنه { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } أي : تينا .
والفرقة الثالثة : هي فرقة النصارى ، جمع نصران بمعنى نصراني ، كندامي وندمان والياء في نصراني للمبالغة ، وهم قوم عيسى - عليه السلام - قيل سمواً بذلك لأنهم كانوا أنصاراً له ، وقيل إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة وهي القرية التي كان عيسى - عليه السلام - قد نزلها .
وأما الفرقة الرابعة : فهي فرقة الصابئين جمع صابئ ، وهو الخارج من دين إلى دين ، يقال : صباً الظلف والناب والنجم - كمنع وكرم - إذا طلع . والمراد بهم الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل ، وهم قوم يعبدون الكواكب أو الملائكة ، ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم .
وذكر القرآن الصائبة في هذا المقام وهم من أبعد الأمم ضلالا . لينبه على أن الإِيمان منهم على النحو الذي قرره الدين الحق ، فمن لم تبلغه منهم دعوة الإِسلام ، وكان ينتمى إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر ويقدم العمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه ، فله أجره على ذلك عند ربه .
أما الذين بلغتهم الذين بلغتهم دعوة الإِسلام من تلك الفرق ولكنهم لم يقبلوها ؛ فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا بأنهم يؤمنون بغيرها ، لأن الشريعة الإِسلامية قد نسخت ما قبلها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .
ويفسرونه - أي الإِيمان - بالنسبة للمؤمنين المشار إليهم بقوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ . . . } على أنه بمعنى الثبات والدوام والإِذعان ، وبذلك ينتظم عطف قوله - تعالى - : { وَعَمِلَ صَالِحاً } على قوله { آمَنَ } مع مشاركة هؤلاء المؤمنين لتلك الفرق الثلاث فيما يترتب على الإِيمان والعمل الصالح من ثواب جزيل ، وعاقبة حميدة .
وبعض العلماء يرى أن معنى { مَنْ آمَنَ } أي : من أجدث من هذه الفرق إيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عند ربه ، قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإِسلام ، وأما بيان من مضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام ، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات .
ثم بين - سبحانه - عاقبتهم فقال : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
الأجر : الجزاء على العمل ، وسمى الله ما يعطيه للمؤمن العامل أجراً على سبيل التفضل منه .
وقال : { عِندَ رَبِّهِمْ } ليدل على عظم الثواب ، لأن ما يكون عند الله من الجزاء على العمل لا يكون عظيماًً ، ولأن المجازي لهم هو ربهم المنعوت بصفات الكرم والرحمة وسعة العطاء .
والمعنى : إن هؤلاء الذين لهم أجرهم العظيم عند ربهم ، ولا يفزعون من هول يوم القيامة كما يفزع الكافرون ، ولا يفوتهم نعيم ، فيحزنون عليه كما يحزن المقصرون .
لما بين [ الله ]{[1909]} تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحلّ بهم من النكال ، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه ، كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] .
قال{[1910]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدني ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، قال : قال سلمان : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخر الآية .
وقال السدي : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } الآية : نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون{[1911]} أنك ستبعث نبيًا ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : " يا سلمان ، هم من أهل النار " . فاشتد ذلك على سلمان ، فأنزل الله هذه الآية ، فكان إيمان اليهود : أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ، عليه السلام ؛ حتى جاء عيسى . فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى ، فلم يدعها ولم يتبع عيسى ، كان هالكًا . وإيمان النصارى أن{[1912]} من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ{[1913]} ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا .
قلت : وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن{[1914]} أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية فأنزل الله بعد ذلك : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] .
فإن هذا الذي قاله [ ابن عباس ]{[1915]} إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه [ الله ]{[1916]} بما بعثه به ، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ، فاليهود أتباع موسى ، عليه السلام ، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم .
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة ؛ كقول موسى ، عليه السلام : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تبنا ، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض .
[ وقيل : لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون ، أي : يتحركون عند قراءة التوراة ]{[1917]} .
فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم{[1918]} وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى ، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ، وقد يقال لهم : أنصار أيضًا ، كما قال عيسى ، عليه السلام : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] وقيل : إنهم إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة ، قاله قتادة وابن جُرَيج ، وروي عن ابن عباس أيضًا ، والله أعلم .
والنصارى : جمع نصران{[1919]} كنشاوى جمع نشوان ، وسكارى جمع سكران ، ويقال للمرأة : نصرانة ، قال الشاعر :
. . . نصرانة لم تَحَنَّفِ{[1920]}
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين ، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانكفاف عما عنه زجر . وهؤلاء هم المؤمنون [ حقا ]{[1921]} . وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية . وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ؛ فقال سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ، ليس لهم دين . وكذا رواه ابن أبي نجيح ، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس ، والسدي ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، والضحاك [ وإسحاق بن راهويه ]{[1922]} الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور .
[ ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم ]{[1923]} .
وقال هشيم عن مطرف : كنا عند الحكم بن عتيبة{[1924]} فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين : إنهم كالمجوس ، فقال الحكم : ألم أخبركم بذلك .
وقال عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن عبد الكريم : سمعت الحسن ذكر الصابئين ، فقال : هم قوم يعبدون الملائكة .
[ وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن الحسن قال : أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس . قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية . قال : فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة ]{[1925]} .
وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرؤون الزبور ، ويصلون إلى القبلة .
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : الصابئون قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات .
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين ، فقال : الذي يعرف الله وحده ، وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرًا .
وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل يقولون : لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول : لا إله إلا الله ، قال : ولم يؤمنوا برسول ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم ، يعني في قول : لا إله إلا الله .
وقال الخليل{[1926]} هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح ، عليه السلام . وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ، ولا تؤكل ذبائحهم ، قال ابن عباس : ولا تنكح نساؤهم . قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم ، وأنهم فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم ، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب ؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ، قال : وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم .
وأظهر الأقوال ، والله أعلم ، قول مجاهد ومتابعيه ، ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي ، أي : أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك .
وقال بعض العلماء : الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم .
{ إن الذين آمنوا } بألسنتهم ، يريد به المتدينين بدين محمد صلى الله عليه وسلم المخلصين منهم والمنافقين ، وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة .
{ والذين هادوا } تهودوا ، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، ويهود : إما عربي من هاد إذا تاب ، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام .
{ والنصارى } جمع نصران كندامى وندمان ، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام ، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها ، أو من اسمها .
{ والصابئين } قوم بين النصارى والمجوس . وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام . وقيل هم عبدة الملائكة . وقيل عبدة الكواكب ، وهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا خرج . وقرأ نافع وحده بالياء إما لأنه خفف الهمزة وأبدلها ياء ، أو لأنه من صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم ، أو من الحق إلى الباطل .
{ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه . وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ، ودخل في الإسلام دخولا صادقا : { فلهم أجرهم عند ربهم } الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم .
{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } حين يخاف الكفار من العقاب ، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب . و{ من } مبتدأ خبره { فلهم أجرهم } والجملة خبر إن ، أو بدل من اسم إن وخبرها { فلهم أجرهم } والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية ، ورد بقوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } .
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )
اختلف المتأولون في المراد ب { الذين آمنوا } في هذه الآية ، فقال سفيان الثوري : هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : { إن الذين آمنوا } في ظاهر أمرهم ، وقرنهم( {[704]} ) باليهود { والنصارى والصابئين } ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم ، فمعنى قوله { من آمن } في المؤمنين المذكورين : من حقق وأخلص ، وفي سائر الفرق المذكورة : من دخل في الإيمان . وقالت فرقة : { الذين آمنوا } هم المؤمنون حقاً( {[705]} ) بمحمد صلى الله عليه وسلم قوله .
{ من آمن بالله } يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام ، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه . وقال السدي : هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم ، كزيد بن عمرو بن نفيل( {[706]} ) ، وقس بن ساعدة( {[707]} ) ، وورقة بن نوفل( {[708]} ) ، { والذين هادوا } كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم ، إلا من كفر بعيسى عليه السلام ، { والنصارى } كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم ، { والصابئين } كذلك ، قال : إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، وذكر له الطبري قصة طويلة ، وحكاها أيضاً ابن إسحاق ، مقتضاها أنه صحب عباداً من النصارى فقال له آخرهم( {[709]} ) إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فأمن به ، ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ذكر له خبرهم ، وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية .
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام ، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره ، ثم نسخ( {[710]} ) ما قرر من ذلك بقوله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه }( {[711]} ) [ آل عمران : 85 ] وردت الشرائع : كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ والذين هادوا } هم اليهود ، وسموا بذلك لقولهم { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا ، فاسمهم على هذا من هاد يهود ، قال الشاعر : [ السريع ]
إني امرؤ من مدحتي هائد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي تائب : وقيل : نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ، فلما عرب الاسم لحقه التغيير ، كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها ، وحكى الزهراوي التهويد النطق في سكون ووقار ولين ، وأنشد :
وخود من اللائي تسمعن بالضحى . . . قريض الردافى بالغناء المهود( {[712]} )
قال : ومن هذا سميت اليهود ، وقرأ أبو السمال «هادَوا » بفتح الدال( {[713]} ) .
{ والنصارى }( {[714]} ) لفظة مشتقة من النصر ، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة ، ويقال نصريا ويقال نصرتا( {[715]} ) ، وإما لأنهم تناصروا ، وإما لقول عيسى عليه السلام { من أنصاري إلى الله } [ آل عمران : 152 ، الصف : 4 ] قال سيبويه : واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة وندامى ، وأنشد : [ أبو الأخرز الحماني ] : [ الطويل ]
فكلتاهما خرت وأسجدَ رأسُها . . كما سَجَدتْ نصْرانةٌ لم تَحَنّفِ( {[716]} )
يظل إذا دار العشيُّ محنّفاً . . . ويضحي لديها وهو نَصْرانُ شامسُ( {[717]} )
قال سيبويه : إلا إنه لا يستعمل في الكلام إلاّ بياء نسب( {[718]} ) ، قال الخليل ، واحد { النصارى } نصريّ كمهريّ ومهارى .
والصابىء في اللغة من خرج من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب( {[719]} ) تقول لمن أسلم قد صبا ، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة تشبيهاً بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا إله إلا الله ، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت ، قال أبو علي : يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت ، فالصابىء التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره ، كما أن الصابىء على القوم تارك لأرضه ومتنقل إلى سواها ، وبالهمزة قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه ، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال ، أو يجعله على قلب الهمزة ياء ، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر .
وأما المشار إليهم في قوله تعالى : { والصابئين } فقال السدي : هم فرقة من أهل الكتاب ، وقال مجاهد : هم قوم لا دين لهم ، وليسوا بيهود ولا نصارى( {[720]} ) ، وقال ابن أبي نجيح( {[721]} ) : هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم ، وقال ابن زيد : هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ، كانوا بجزيرة الموصل ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور ، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة .
و { من } في قوله { من آمن بالله } في موضع نصب بدل من { الذين }( {[722]} ) ، والفاء في قولهم { فلهم } داخله بسبب الإبهام الذي في { من } و { لهم أجرهم } ابتداء وخبر في موضع خبر { إن } ، ويحتمل ويحسن أن تكون { من } في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، والفاء في قوله { فلهم } موطئة أن تكون الجملة جوابها ، و { لهم أجرهم } خبر { من } ، والجملة كلها خبر { إن } ، والعائد على { الذين } محذوف لا بد من تقديره( {[723]} ) ، وتقديره «من آمن منهم بالله » .
وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب ، ومنه يتفهم( {[724]} ) ، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى ، وجمع الضمير في قوله تعالى { لهم أجرهم } بعد أن وحد في { آمن } لأن { من } تقع على الواحد والتثنية الجمع ، فجائز أن يخرج ما بعدها مفرداً على لفظها ، أو مثنى أو مجموعاً على معناها ، كما قال عز وجل { ومنهم من يستمعون إليك }( {[725]} ) [ يونس : 42 ] فجمع على المعنى ، وكقوله { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات }( {[726]} ) [ النساء : 13 ] ثم قال { خالدين فيها } [ النساء : 13 ] فجمع على المعنى ، وقال الفرزدق : [ الطويل ]
تعشَّ فإن عاهدتني لا تخونني . . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطحبانِ
فثنى على المعنى ، وإذا جرى ما بعد { من } على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ ، لأن الإلباس يدخل في الكلام( {[727]} ) .
وقرأ الحسن «ولا خوف » نصب على التبرية ، وأما الرفع فعلى الابتداء ، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية( {[728]} ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين آمنوا والذين هادوا}، يعني اليهود.
{والنصارى}، {والصائبين}: وهم قوم يصلون للقبلة، يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة...
{من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا}: من صدق منهم بالله عز وجل، بأنه واحد لا شريك له، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، بأنه كائن.
{فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم} من نزول العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أما "الذين آمنوا "فهم المصدّقون رسول الله فيما أتاهم به من الحقّ من عند الله، وإيمانهم بذلك: تصديقهم به على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا. وأما "الذين هادوا"، فهم اليهود، ومعنى هادوا: تابوا، يقال منه: هاد القوم يهودون هَوْدا وهادةً. وقيل: إنما سميت اليهود يهود من أجل قولهم: "إنا هُدْنا إلَيْكَ".
" وَالنّصَارَى": والنصارى جمع... [و] المستفيض من كلام العرب في واحد النصارى نصرانيّ... سُموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها «ناصرة».
ويقول آخرون: لقوله: "مَنْ أنْصارِي إلى اللّهِ".
وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى: الناصري...
"والصابئون" جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب صابئا، يقال منه: صَبَأ فلان يَصْبَأ صَبْأً، ويقال: صبأت النجوم: إذا طلعت، وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا، يعني به طلع.
واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم.
[و] عن مجاهد، قال: الصابئون: بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم...
قال ابن زيد في قوله: الصّابِئُون قال: الصابئون: دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: «لا إلَه إلاّ الله»، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ إلا قول لا إلَه إلاّ الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم.
وقال آخرون: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة...
وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب.
" مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ": من صدق وأقرّ بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم.
"فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ": فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.
فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: "إن الّذينَ آمَنُوا والّذِين هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئين"؟ قيل: تمامه جملة قوله: "مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ"؛ لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الاَخر، فترك ذكر "منهم" لدلالة الكلام عليه استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.
فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟ قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بالله واليوم الاَخر فلهم أجرهم عند ربهم.
فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟ قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان، وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى، وبما جاء به، حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فآمن به وصدّقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به، ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ثباته على إيمانه وتركه تبديله.
وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، فمن يؤمن منهم بمحمد، وبما جاء به واليوم الاَخر، ويعمل صالحا، فلم يبدّل ولم يغير، حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه...
وأما قوله: "ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون" فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
عن ابن عباس قوله: "إنّ الّذِينَ آمَنُوا والذِين هادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ" إلى قوله: "ولا هُمْ يَحْزَنُونَ". فأنزل الله تعالى بعد هذا: "وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ". وهذا الخبر يدلّ على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله في الاَخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: "وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ".
فتأويل الآية إذا: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الاَخر، فلهُمْ أجرُهمْ عندَ ربهمْ ولاَ خَوْفٌ عليهِمْ ولاَ هُمْ يحزَنُونَ.
والذي قلنا من التأويل الأول أشبه بظاهر التنزيل، لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: "مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ "عن جميع ما ذكر في أول الآية.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{...الَّذِينَ هَادُواْ} يعني اليهود، واختلف العلماء في سبب تسميتهم به...
[ف] قال بعضهم: لأنّهم هادوا أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى. يُقال: هاد يهود هوداً: إذا مال...
وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنّهم يتهوّدون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة...
{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما قدّموا. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلّفوا، وقيل: لا خوف عليهم بالخلود في النار، ولا يحزنون بقطيعة الملك الجبّار، ولا خوف عليهم من الكبائر وإنّي أغفرها، ولا هم يحزنون على الصغائر فأنّي أكفّرها. وقيل: لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الإجرام، ولا هم يحزنون على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام الآثام...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَالَّذِينَ هَادُوا} هم اليهود، وفي تسميتهم بذلك، ثلاثة أقاويل: أحدها: نُسِبُوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب، فقلبت العربُ الذال دالاً، لأن الأعجمية إذا عُرِّبت، غيرت من لفظها...
{والصابئين}، جمع، واحده: صبائي...
واخْتُلِف في المأخوذ منه هذا الاسم، على ثلاثة أقاويل:
والثالث: أنه مأخوذ من قولهم: صبا يصبو، إذا مال إلى الشيء وأحبه، وهذا قول نافع؛ ولذلك لم يهمز...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون {والذين هَادُواْ} والذين تهوّدوا... {والنصارى} وهو جمع نصران. يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة... والياء في نصرانيّ للمبالغة كالتي في أحمريّ. سموا لأنهم نصروا المسيح. {والصابئين} وهو من صبأ: إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ ءامَنَ} من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ودخل في ملة الإسلام دخولاً أصيلاً {وَعَمِلَ صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما بين [الله] تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]...
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر. وهؤلاء هم المؤمنون [حقا] 503. وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
سبب ما نزل باليهود إنما هو عصيانهم واعتداؤهم حدود ما شرع الله لهم، وسنن الله في خلقه لا تتغير وأحكامه العادلة فيهم لا تتبدل، لهذا جاء قوله تعالى {إن الذين آمنوا} الخ بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة وإنما ورد على هذا الأسلوب البديع متضمنا لجميع من تمسك بهدى نبي سابق وانتسب إلى شريعة سماوية ماضية، ليدل على أن الجزاء السابق – وإن حكى على أنه من خطأ اليهود خاصة، -لم يصبهم إلا لجريمة قد تشمل الشعوب عامة وهي الفسوق عن أوامر الله وانتهاك حرماته، فكل من أجرم كما أجرموا سقط عليه من غضب الله ما سقط عليهم، وعلى أن الله جل شأنه لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختص بهم على أنهم من شعب إسرائيل أو من ملة يهود بل {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}. وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين وما تتخذه من ملة فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم، بل عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيري الدنيا والآخرة إنما هو صدق الإيمان بالله تعالى بأن يكون التصديق به سطوعا على النفس من مشرق البرهان، أو جيشانا في القلب من عين الوجدان، فيكون الاعتقاد بوجوده وصفاته خاليا من شوب التشبيه والتمثيل، واليقين في نسبة الأفعال إليه خالصا من وساوس الوهم والتخييل ويكون المؤمن قد ارتقى بإيمانه مرتقى يشعر فيه بالجلال الإلهي. فإذا رفع بصره إلى الجناب الأرفع أغضى هيبة وأطرق إلى أرض العمودية خشوعا، وإذا أطلق نظره فيما بين يديه، مما سلطه الله عليه، شعر في نفسه عزة الله، ووجد فيها قوة تصرفه بالحق فيما يقع تحت قواه. لا يعدو حدا ضرب له، ولا يقف دون غاية قدر له أن يصل إليها، فيكون عبد الله وحده، سيدا لكل شيء بعده...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة. فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عددا من أنبيائهم -وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين- وقد كفروا أشنع الكفر، واعتدوا أشنع الاعتداء، وعصوا أبشع المعصية. وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل! ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة. كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون...
وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية، التي تتخلل القصص القرآني، أو تسبقه أو تتلوه. يقرر قاعدة وحدة الإيمان... ووحدة العقيدة، متى انتهت إلى إسلام النفس لله، والإيمان به إيمانا ينبثق منه العمل الصالح. وإن فضل الله ليس حجرا محجورا على عصبية خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين، في كل زمان وفي كل مكان، كل بحسب دينه الذي كان عليه، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث، فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ، وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم، ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى، لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات...
وابتُدىء بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهلُ الخير إلا ويذكرون معهم...
ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيساً لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافاً للصالحين منهم، واعترافاً بفضلهم، وتبشيراً لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم، ومثل الحواريين، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سَلاَم وصهيب، فقد وفَّت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة، وراعت المناسبتيْن للآيات المتقدمة مناسبةَ اقتران الترغيب بالترهيب، ومناسبةَ ذكر الضد بعد الكلام على ضده.
فمجيء {إنَّ} هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقِه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود، فإن كثيراً من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضَلَّت كانوا مثلهم في الضلال...
الذين آمنوا أولا مع آدم أو مع الرسل الذين جاءوا بعده لمعالجة الداءات التي وقعت... ثم الذين تسموا باليهود، والذين تسموا بالنصارى، والذين تسموا بالصابئة... فالله تبارك وتعالى يريد أن يبلغهم... فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون... فكأن رسالته عليه الصلاة والسلام جاءت لتصفية كل الأديان السابقة... وكل إنسان في الكون مطالب بأن يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام... فقد دعا الناس كلهم إلى الإيمان برسالته... ولو بقي إنسان من عهد آدم أو من عهد إدريس أو من عهد نوح أو إبراهيم أو هود... [ف] وأولئك الذين نسبوا إلى اليهودية وإلى النصرانية وإلى الصابئية... كل هؤلاء مطالبون بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بدين الإسلام...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
لما كانت الآية في سياق دعوة اليهود إلى الإسلام ناسب أن يعلموا أن النِّسَبَ لا قيمة لها وإنما العبرة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح المزكي للروح البشرية والمطهر لها فلِذا المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وغيرهم كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله واليوم الآخر حق الإيمان وعمل صالحاً مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم بعد توبتهم ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما [تذكروا] من الدنيا، إذ الآخرة خير وأبقى.
والإيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالإيمان بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبي الخاتم في كتابه وما أوحى إليه، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهي لا تزكى النفس ولا تطهرها.
والسعادة الأخروية متوقفة على زكاة النفس وطهارتها.
- العبرة بالحقائق لا بالألفاظ فالمنافق إذا قال هو مؤمن أو مسلم، ولم يؤمن بقلبه ولم يسلم بجوارحه لا تغنى النسبة عنه شيئاً، واليهودي والنصراني والصابئ وكل ذي دين نسبته إلى دين قد نسخ وبطل العمل بما فيه فأصبح لا يزكى النفس، هذه النسبة لا تنفعه، وانما الذي ينفع الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
-أهل الإيمان الصحيح والاستقامة على شرع الله الحق مبشرون بنفي الخوف عنهم والحزن وإذا انتفى الخوف حصل الأمن وإذا انتفى الحزن حصل السرور والفرح وتلك السعادة...
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
..والعمل الصالح أثر من آثار الإيمان لا يمكن انفكاكه عنه كما لا ينفكُّ الظلُّ عن الجسم لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضيان الانقياد لله في حكمه والإِذعان له في أمره، كيف والآمر الناهي هو الله الخالق الكريم الذي منه المبدأ وإليه الرُّجعى، والذي يجزي كل أحدٍ بما عمل: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
والعمل الصالح ما وافق أمر الله ونهيه فيدخل فيه اجتناب المنهيات لأن الخير لا يجتمع مع ضده، والاكتفاء بإجماله في الآية لمعرفة الفئات المذكورة فيها بتفاصيله بما عندهم من علم الكتاب. وإن من الأعمال الصالحة ما لم تختلف فيه الكتب المنزّلة، كإفراد الله بالعبادة، واجتناب كل ما أدّى إلى الإِشراك به أو أدنى منه، وعون الضعفاء وإغاثة الملهوفين ونصرة المظلومين، ومعاملة الناس بالحسنى.
والأجر: الجزاء، وسُمِّيَ جزاؤهم أجراً لأنهم أُمروا فامثتلوا وحُمِّلوا فتحمَّلوا، فكانت أعمالهم كأعمال الأجير الذي يطمع في صاحب العمل أن يُوفِّيه أجره،
وكونه {عِندَ رَبِّهِمْ} مما يضاعف طمأنينتهم فإنه في مستودع آمن، وقرارٍ مكين، إذ لا يصل إليه مختلس ولا غادر وإنما يوفِّيهم إياه ربُّهم كما وعدهم به.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاماً في التقييم وفق المعايير الإلهية. وهذا المبدأ ينص على أن الإِيمان والعمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد، وليس للتظاهر والتصنّع قيمة في ميزان الله
[و] هذه الآية تكررت مع اختلاف يسير في سورة المائدة، الآية 72 وفي سورة الحج الآية 17. [ف] سياق الآية في سورة المائدة يشير إلى أن اليهود والنصارى فخِروا بدنيهم، واعتبروا أنفسهم أفضل من الآخرين، وادّعوا بأن الجنّة خاصة بهم دون غيرهم. ولعل مثل هذا التفاخر صدر عن بعض المسلمين أيضاً، ولذلك نزلت هذه الآية الكريمة لتؤكد أن الإِيمان الظاهري لا قيمة له في الميزان الإلهي، سواء في ذلك المسلمون واليهود والنصارى وأتباع الأديان الأخرى. ولتقول الآية أيضاً: إن الأجر عند الله يقوم على أساس الإِيمان الحقيقي بالله واليوم الآخر إضافة إلى العمل الصالح. وهذا الأساس هو الباعث الوحيد للسعادة الحقيقة والابتعاد عن كل خوف وحزن.