قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، يعني : ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم ، من ثمرات النخيل والأعناب . { تتخذون منه } ، والكناية في { منه } ، عائدة إلى " ما " محذوفة ، أي : ما تتخذون منه ، { سكراً ورزقاً حسناً } . قال قوم : " السكر " : الخمر ، و " الرزق الحسن " : الخل ، والزبيب ، والتمر والرب . قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر . وإلى هذا ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ومجاهد . وقال الشعبي : " السكر " : ما شربت و " الرزق الحسن " : ما أكلت . وروى العوفي عن ابن عباس : أن " السكر " ، هو : الخل ، لغة الحبشة . وقال بعضهم : " السكر " : النبيذ المسكر ، وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير ، وهو قول الضحاك والنخعي . ومن يبيح شرب النبيذ ومن حرمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال . وأولى الأقاويل أن قوله : { تتخذون منه سكراً } ، منسوخ ، روي عن ابن عباس ، قال " السكر " ، ما حرم من ثمرها ، و " الرزق الحسن " : ما أحل . وقال أبو عبيدة : " السكر " : الطعم ، يقال هذا سكر لك ، أي : طعم . { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } .
وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب منافع للعباد ، ومصالح من أنواع الرزق الحسن الذي يأكله العباد طريًّا ونضيجا وحاضرا ومدخرا وطعاما ، وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها ، ومن السكر الذي كان حلالا قبل ذلك ، ثم إن الله نسخ حلَّ المسكرات ، وأعاض عنها بالطيبات من الأنبذة ، وأنواع الأشربة اللذيذة المباحة .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، عن الله كمال اقتداره ، حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب ، فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة ، وعلى شمول رحمته حيث عم{[462]} بها عباده ويسرها لهم ، وأنه الإله المعبود وحده ، حيث إنه المنفرد بذلك .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله التي لا تحصى ، وهي نعمة ثمرات النخيل والأعناب ، فقال - تعالى - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً . . . } .
قال الجمل ما ملخصه : قوله - سبحانه - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب . . } خبر مقدم ، ومن تبعيضية ، والمبتدأ محذوف تقديره ثمر ، وقوله : { تتخذون } ، نعت لهذا المبتدأ المحذوف ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .
ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف ، والتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما ، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ، بيان وكشف عن كيفية الإِسقاء .
والضمير في قوله : { منه } يعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير ، أو على المبتدأ المحذوف وهو الثمر .
والسكر - بفتح السين والكاف - اسم من أسماء الخمر ، يقال : سكر فلان - بوزن فرح - يسكر سكرا ، إذا غاب عقله وإدراكه ، فهو سكران ، وسكر - بفتح السين وكسر الكاف - .
وأما الرزق الحسن ، فالمراد به ما كان حلالا من ثمرات النخيل والأعناب ، كالتمر والزبيب وغير ذلك مما أحله الله - تعالى - من ثمارها .
وعلى هذا المعنى سار جمهور العلماء من السلف والخلف .
قال الألوسي ما ملخصه : والسكر : الخمر . قال الأخطل :
بئس الصُّحاة وبئس الشَّرب شَربُهم . . . إذا جرى فيهم المزَّاءُ والسَّكَر
والمزاء : نوع من الأشربة . والسكر ما يسكر وهو الخمر .
وفسروا الرزق الحسن . بالخل والتمر والزبيب وغير ذلك .
ثم قال : وتفسير " السَّكَر " بالخمر ، هو المروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبي رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي . . والنخعي . . مع خلق آخرين . . .
وعلى هذا التفسير الذي قاله جمهور العلماء يكون السكر غير الرزق الحسن ، ويكون العطف للتغاير .
ومن العلماء من فسر السكر بأنه اسم للخل ، أو للعصير غير المسكر ، أو لما لا يسكر من الأنبذة ، وقد بسط الإِمام القرطبي القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { سكرا } ، السكر : ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة .
ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا{[16527]} ، ثَنَّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة ، من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون ، من النبيذ المسكر قبل تحريمه ؛ ولهذا امتن به عليهم ، فقال : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } ، دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ، ودل على التسوية بين السَّكَر المتخذ من العنب ، والمتخذ من النخل ، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وكذا حُكْم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل ، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك ، وليس هذا موضع بسط ذلك ، كما قال{[16528]} ابن عباس في قوله : { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } ، قال : السَّكَر : ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحل من ثمرتيهما . وفي رواية : السَّكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله . يعني : ما يبس منهما من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء - وهو الدِّبس{[16529]} - وخل ونبيذ ، حلال يشرب قبل أن يشتد ، كما وردت السنة بذلك .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، ناسب ذكر العقل هاهنا ، فإنه أشرف ما في الإنسان ؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة ، صيانة لعقولها ؛ قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [ يس : 34 - 36 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكم أيضا أيها الناسُ عِبرةٌ ، فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، ما تَتّخِذُونَ منه سَكَرا ، ورِزْقا حَسَنا ، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم . وحذف من قوله : { وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأعنابِ } ، الاسم ، والمعنى : ما وصفت ، وهو : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه ؛ لدلالة «من » عليه ، لأن «من » تدخل في الكلام مُبَعّضة ، فاستغني بدلالتها ، ومعرفة السامعين بما يقتضي من ذكر الاسم معها . وكان بعض نحويي البصرة يقول في معنى الكلام : ومن ثمرات النخيل والأعناب ، شيء تتخذون منه سَكَرا ، ويقول : إنما ذكرت الهاء في قوله : تَتّخِذُونَ مِنْهُ ؛ لأنه أريد بها الشيء ، وهو عندنا عائد على المتروك ، وهو «ما » ، وقوله : { تَتّخِذُونَ } ، من صفة «ما » المتروكة .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، فقال بعضهم : عني بالسّكَر : الخمرُ ، وبالرزق الحسن : التمرُ والزبيبُ ، وقال : أنما نزلت هذه الاَية قبل تحريم الخمر ، ثم حُرّمت بعد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أيوب بن جابر السّحَيْمي ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : السّكَر : ما حُرّم من شرابه ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرته .
حدثنا ابن وكيع وسعيد بن الربيع الرازي ، قالا : حدثنا ابن عيينة ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : الرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتها ، والسكَر : ما حرّم من ثمرتها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، قال : سمعت رجلاً يحدّث عن ابن عباس في هذه الاَية : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكر : ما حرّم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتيهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن صالح ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا الأسود بن قيس ، قال : ثني عمرو بن سفيان ، قال : سمعت ابن عباس يقول ، وذكرت عنده هذه الاَية : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكر : ما حرّم منهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ منهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان البصري ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : فأما الرزق الحسن : فما أحلّ من ثمرتهما ، وأما السكر : فما حرّم من ثمرتهما .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحِمّاني ، قال : حدثنا شريك ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان البصريّ ، عن ابن عباس : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : السكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا العباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس قال : السّكَر : ما حرّم من ثمرتهما ، والرزق الحسن : ما حلّ من ثمرتهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسّكَر : الحرام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : ما حرم من ثمرتهما ، وما أحلّ من ثمرتهما .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : السكر : خمر ، والرزق الحسن : الحلال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر وسفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسّكَر : الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الاَية : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكَر : الحرام ، والرزق الحسن : الحلال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : نزل هذا وهم يشربون الخمر ، فكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم والشعبي وأبي رزين ، قالوا : هي منسوخة في هذه الاَية : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا أبو قطن ، عن سعيد ، عن المُغيرة ، عن إبراهيم والشعبيّ ، وأبي رزين ، بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : هي منسوخة ، نسخها تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور وعوف ، عن الحسن ، قال السكر : ما حرّم الله منه ، والرزق : ما أحلّ الله منه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن الحسن ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكَر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكَر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : السكر : الخمر ، والرزق الحسن : الرّطَب والأعناب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، قال : هي الخمر قبل أن تحرّم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } قال : الخمر قبل تحريمها ، وَرِزْقا حَسَنا قال : طعاما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأعنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، أما السّكَر : فخمور هذه الأعاجم ، وأما الرزق الحسن : فما تنتبذون ، وما تُخَلّلون ، وما تأكلون . ونزلت هذه الاَية ولم تحرّم الخمر يومئذ ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت على ابن أبي عُذرة ، قال : هكذا سمعت قتادة : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، ثم ذكر نحو حديث بشر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " سَكَرا " ، قال : هي خمور الأعاجم ، ونُسخت في سورة المائدة . والرزق الحسن قال : ما تنتبذون ، وتخلّلون ، وتأكلون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، وذلك أن الناس كانوا يسمّون الخمر : سكرا ، وكانوا يشربونها ، قال ابن عباس : مرّ رجال بوادي السكران ، الذي كانت قريش تجتمع فيه ، إذا تَلَقّوا مسافريهم إذا جاءوا من الشام ، وانطلقوا معهم يشيعونهم حتى يبلغوا وادي السكران ، ثم يرجعوا منه ، ثم سماها الله بعد ذلك الخمر حين حرمت . وقد كان ابن عباس يزعم أنها الخمر ، وكان يزعم أن الحبشة يسمون الخلّ : السكر . قوله : " وَرِزْقا حَسَنا " يعني بذلك الحلال : التمر والزبيب ، وما كان حلالاً لا يسكر .
وقال آخرون : السّكَر بمنزلة الخمر في التحريم ، وليس بخمر ، وقالوا : هي نقيع التمر والزبيب ، إذا اشتدّ وصار يسكر شاربه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، في قوله : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال ابن عباس : كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر ، والسكر حرام مثل الخمر ، وأما الحلال منه : فالزبيب والتمر والخل ، ونحوه .
حدثني المثنى ، وعلي بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، فحرّم الله بعد ذلك ، يعني : بعد ما أنزل في سورة البقرة من ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، السّكَر مع تحريم الخمر ؛ لأنه منه ، قال : " وَرِزْقا حَسَنا " فهو الحلال من الخلّ والنبيذ ، وأشباه ذلك ، فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن موسى ، قال : سألت مرّة عن السّكَر ، فقال : قال عبد الله : هو : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي فروة ، عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا حسن بن صالح ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وأبي رزين ، قالا : السكر : خمر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، يعني : ما أسكر من العنب والتمر ، " وَرِزْقا حَسَنا " يعني : ثمرتها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : الحلال ما كان على وجه الحلال ، حتى غيروها ، فجعلوا منها سَكَرا .
وقال آخرون : " السّكَر " : هو كلّ ما كان حلالاً شربه ، كالنبيذ الحلال ، والخلّ والرطَب . و " الرزق الحسن " : التمر والزبيب . ذكر من قال ذلك :
حدثني داود الواسطيّ ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : أبو رَوْق : ثني قال : قلت للشعبيّ : أرأيت قوله تعالى : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، أهو هذا السّكَر الذي تصنعه النّبَط ؟ قال : لا ، هذا خمر ، إنما السكر الذي قال الله تعالى ذكره : النبيذ والخلّ ، و " الرزق الحسن " : التمر والزبيب .
حدثني يحيى بن داود ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : وذكر مجالد ، عن عامر ، نحوه .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : ما كانوا يتخذون من النخل النّبيذ ، والرزق الحسن : ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن أبي رَوْق ، عن الشعبيّ ، قال : قلت له : ما تتخذون منه سَكَرا ؟ قال : كانوا يصنعون من النبيذ والخلّ ، قلت : والرزق الحسن ؟ قال : كانوا يصنعون من التمر والزبيب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : السّكَر : النبيذ ، والرزق الحسن : التمر الذي كان يؤكل .
وعلى هذا التأويل ، الآية غير منسوخة ، بل حكمها ثابت .
وهذا التأويل عندي ، هو أولى الأقوال بتأويل هذه الاَية ، وذلك أن السكر في كلام العرب ، على أحد أوجه أربعة : أحدها : ما أسكر من الشراب . والثاني : ما طُعِم من الطعام ، كما قال الشاعر :
*** جعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا ***
أي طعما . والثالث : السّكُون ، من قول الشاعر :
*** جعَلَتْ عينْ الحَرُورِ تَسْكُرُ ***
وقد بيّنا ذلك فيما مضى . والرابع : المصدر ، من قولهم : سَكِرَ فلان ، يَسْكَرُ سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما ، بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى : «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام » ، وكان غير جائز لنا أن نقول : هو منسوخ ، إذ كان المنسوخ هو : ما نَفَى حكمه الناسخ ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه ، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السّكَر الذي هو غير الخمر ، وغير ما يسكر من الشراب ، حرام ، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب ، ومن نزل بلسانه القرآن هو : كلّ ما طعم ، ولم يكن مع ذلك ، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول ، ولا أجمعت عليه الأمة ، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السّكَرَ في هذا الموضع : هو كلّ ما حلّ شربه ، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم ، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب ، وخرج من أن يكون معناه السّكَر نفسه ، إذ كان السّكَر ليس مما يتخذ من النّخْل والكَرْم ، ومن أن يكون بمعنى : السكون .
وقوله : { إنّ فِي ذلكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، يقول : فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس ، من الأنعام والنخل والكرم ؛ لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه ، ويفهمون عنه مواعظه فيتعظون بها .
قال الطبري : التقدير : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، ما { تتخذون } ، وقالت فرقة : التقدير : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، شيء { تتخذون منه } ، ويجوز أن يكون قوله : { ومن ثمرات } ، عطفاً على { الأنعام } [ النحل : 66 ] ، أي : ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة ، ويجوز أن يكون عطفاً على { مما } [ النحل : 66 ] ، أي : ونسقيكم أيضاً مشروبات من ثمرات ، والسكر ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة ، فقال ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، وأراد بالسكر : الخمر ، وبالرزق الحسن : جميع ما يشرب ويؤكل حلالاً من هاتين الشجرتين ، وقال بهذا القول ابن جبير ، وإبراهيم ، والشعبي ، وأبو زيد ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ذكر الله نعمته في السكر ، قبل تحريم الخمر ، وقال الشعبي ومجاهد : السكر السائغ من هاتين الشجرتين ، كالخل والرب والنبيذ ، و «الرزق الحسن » : العنب والتمر ، قال الطبري : والسكر أيضاً في كلام العرب ، ما يطعم ، ورجح الطبري هذا القول ، ولا مدخل للخمر فيه ، ولا نسخ من الآية شيء ، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر : إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر ، وفي هذه المقالة درك ؛ لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «حُرمت الخمر بعينها ، والسَّكَر من غيرها »{[7360]} ، هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف ، أي : جميع ما يسكر منه حرم ، على حد تحريم الخمر قليله وكثيره ، ورواه العراقيون ، و «السُّكْر » : بضم السين وسكون الكاف ، وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره -من غير خمر العنب- ، فقليله حلال ، وباقي الآية بين .