الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلۡأَعۡنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرٗا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (67)

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " ومن ثمرات النخيل " ، قال الطبري : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون ، فحذف " ما " ، ودل على حذفه قوله : " منه " . وقيل : المحذوف شيء ، والأمر قريب . وقيل : معنى " منه " ، أي : من المذكور ، فلا يكون في الكلام حذف ، وهو أولى . ويجوز أن يكون قوله : " ومن ثمرات " ، عطفا على " الأنعام " ، أي : ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة . ويجوز أن يكون معطوفا على " مما " ، أي : ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات .

الثانية : قوله تعالى : " سكرا " ، السكر : ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر . وأراد بالسكر : الخمر ، وبالرزق الحسن : جميع ما يؤكل ويشرب ، حلالا من هاتين الشجرتين . وقال بهذا القول ابن جبير ، والنخعي ، والشعبي ، وأبو ثور . وقد قيل : إن السكر : الخل ، بلغة الحبشة ، والرزق الحسن : الطعام . وقيل : السكر : العصير الحلو الحلال ، وسمي سكرا ؛ لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي ، فإذا بلغ الإسكار ، حرم . قال ابن العربي : أسَدُ هذه الأقوال ، قول ابن عباس . ويخرج ذلك على أحد معنيين ، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر ، وإما أن يكون المعنى : أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب ، تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم ، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم . والصحيح : أن ذلك كان قبل تحريم الخمر ، فتكون منسوخة ، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء ، وتحريم الخمر مدني .

قلت : فعلى أن السكر : الخمر أو العصير الحلو ، لا نسخ ، وتكون الآية محكمة ، وهو : حسن . قال ابن عباس : الحبشة يسمون الخل : السكر ، إلا أن الجمهور على أن السكر : الخمر ، منهم ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو رزين ، والحسن ، ومجاهد ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، وغيرهم ممن تقدم ذكرهم ، كلهم قالوا : السكر : ما حرمه الله من ثمرتيهما . وكذا قال أهل اللغة : السكر : اسم للخمر ، وما يسكر ، وأنشدوا :

بئس الصُّحاة وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهم *** إذا جرى فيهم المُزَّاء والسَّكَر

والرزق الحسن : ما أحله الله من ثمرتيهما . وقيل : إن قوله " تتخذون منه سكرا " ، خبر معناه الاستفهام ، بمعنى : الإنكار ، أي : أتتخذون منه سكرا ، وتدعون رزقا حسنا ، الخل والزبيب والتمر ، كقوله : " فهم الخالدون{[9937]} " [ الأنبياء : 34 ] ، أي : أفهم الخالدون . والله أعلم . وقال أبو عبيدة : السكر : الطعم ، يقال : هذا سَكَر لك ، أي : طعم . وأنشد :

جَعَلَتْ عيبَ الأكرمينَ سَكَرَا

أي : جعلت ذمهم طعما . وهذا اختيار الطبري ، أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه ، من ثمار النخيل والأعناب ، وهو الرزق الحسن ، فاللفظ مختلف ، والمعنى واحد ، مثل " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " {[9938]} [ يوسف : 86 ] ، وهذا حسن ولا نسخ . إلا أن الزجاج قال : قول أبي عبيدة هذا لا يعرف ، وأهل التفسير على خلافه ، ولا حجة له في البيت الذي أنشده ؛ لأن معناه عند غيره ، أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس . وقال الحنفيون : المراد بقوله : " سكرا " ، ما لا يسكر من الأنبذة ، والدليل عليه : أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم ، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز ، وعضدوا هذا من السنة ، بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( حرم الله الخمر بعينها ، والسكر من غيرها ) . وبما رواه عبد الملك بن نافع عن ابن عمر قال : رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الركن ، ودفع إليه القدح ، فرفعه إلى فيه فوجده شديدا ، فرده إلى صاحبه ، فقال له حينئذ رجل من القوم : يا رسول الله ، أحرام هو ؟ فقال : ( علي بالرجل ) ، فأتي به ، فأخذ منه القدح ، ثم دعا بماء فصبه فيه ، ثم رفعه إلى فيه فقطب ، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال : ( إذا اغتلمت{[9939]} عليكم هذه الأوعية ، فاكسروا متونها بالماء ) . وروي أنه عليه السلام كان ينبذ له ، فيشربه ذلك اليوم ، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث ، سقاه الخادم إذا تغير ، ولو كان حراما ما سقاه إياه . قال الطحاوي : وقد روى أبو عون الثقفي ، عن عبدالله بن شداد ، عن ابن عباس ، قال : حرمت الخمر بعينها ، القليل منها والكثير ، والسكر من كل شراب . خرجه الدارقطني أيضا . ففي هذا الحديث وما كان مثله ، أن غير الخمر لم تحرم عينه ، كما حرمت الخمر بعينها . قالوا : والخمر ، شراب العنب ، لا خلاف فيها ، ومن حجتهم أيضا : ما رواه شريك بن عبد الله ، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال : قال عمر بن الخطاب : إنا نأكل لحوم هذه الإبل ، وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ . قال شريك : ورأيت الثوري يشرب النبيذ ، في بيت حبر أهل زمانه ، مالك بن مغول . والجواب : أن قولهم : إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ، ولا يكون امتنانه إلا بما أحل ، فصحيح ، بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر ، كما بيناه فيكون منسوخا ، كما قدمناه . قال ابن العربي : إن قيل كيف ينسخ هذا ، وهو خبر ، والخبر لا يدخله النسخ ، قلنا : هذا كلام من لم يتحقق الشريعة ، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي ، أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله ، فهو الذي لا يدخله النسخ ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا ، فالأحكام تتبدل وتنسخ ، جاءت بخبر أو أمر ، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ ، وإنما يرجع إلى ما تضمنه ، فإذا فهمتم هذا ، خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله : " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون{[9940]} " [ النحل : 101 ] . المعنى : أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ، ويكلف ما يشاء ، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وعنده أم الكتاب .

قلت : هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار ، والمسألة أصولية ، وهي : أن الأخبار عن الأحكام الشرعية ، هل يجوز نسخها أم لا ؟ اختلف في ذلك ، والصحيح : جوازه لهذه الآية ، وما كان مثلها ؛ ولأن الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع ، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه . والله أعلم .

وأما ما ذكروا من الأحاديث ، فالأول والثاني ضعيفان ؛ لأنه عليه السلام قد روي عنه بالنقل الثابت أنه قال : ( كل شراب أسكر ، فهو حرام ) وقال : ( كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ) وقال : ( ما أسكر كثيره ، فقليله حرام ) . قال النسائي : وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون بصحة النقل ، وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم ، ولو عاضده من أشكاله جماعة ، وبالله التوفيق . وأما الثالث : وإن كان صحيحا ، فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر ، وإنما كان يسقيه ؛ لأنه متغير الرائحة . وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه الرائحة ، فلذلك لم يشربه ، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب ، بأن قيل له : إنا نجد منك ريح مغافير ، يعني : ريحا منكرة ، فلم يشربه بعد . وسيأتي في التحريم{[9941]} . وأما حديث ابن عباس ، فقد روي عنه خلاف ذلك ، من رواية عطاء وطاوس ومجاهد ، أنه قال : ما أسكر كثيره ، فقليله حرام . ورواه عنه قيس بن دينار . وكذلك فتياه في المسكر ، قاله الدارقطني . والحديث الأول رواه عنه عبد الله بن شداد ، وقد خالفه الجماعة ، فسقط القول به ، مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما ما روي عن عمر من قوله : ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ ، فإنه يريد غير المسكر ، بدليل ما ذكرنا . وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال : كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب ، قد خلل . قال النسائي : ومما يدل على صحة هذا ، حديث السائب ، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه ، وأنا أسمع عن ابن القاسم : حدثني مالك عن ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد ، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال : إني وجدت من فلان ريح شراب ، فزعم أنه شراب الطلاء ، وأنا سائل عما شرب ، فإن كان مسكرا جلدته ، فجلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد تاما . وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما بعد ، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة : من العنب ، والعسل ، والتمر ، والحنطة ، والشعير .

والخمر : ما خامر العقل . وقد تقدم في " المائدة " {[9942]} .

فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، وأبو جعفر الطحاوي ، وكان إمام أهل زمانه . وكان سفيان الثوري يشربه . قلنا : ذكر النسائي في كتابه : أن أول من أحل المسكر من الأنبذة ، إبراهيم النخعي ، وهذه زلة من عالم ، وقد حذرنا من زلة العالم ، ولا حجة في قول أحد مع السنة{[9943]} . وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال : ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم . قال أبو أسامة : ما رأيت رجلا أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك ، الشامات{[9944]} ومصر واليمن والحجاز . وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما ، لم يحتج بهما على من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر ، مع ما ثبت من السنة ، على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير : في الاختلاف خلاف ذلك . قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد له : قال أبو جعفر الطحاوي : اتفقت الأمة على أن عصير العنب ، إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد ، فهو : خمر ، ومستحله : كافر . واختلفوا في نقيع التمر ، إذا غلى وأسكر . قال : فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبي كثير ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنب ) ، غير معمول به عندهم ؛ لأنهم لو قبلوا الحديث ، لكفروا مستحل نقيع التمر ، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة ، غير عصير العنب ، الذي قد اشتد ، وبلغ أن يسكر . قال : ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط ، غير مقيس عليها غيرها ، أو يجب القياس عليها ، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها : نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره ، وكذلك نقيع الزبيب . قال : فوجب قياسا على ذلك : أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة . قال : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( كل مسكر حرام ) ، واستغنى عن مسنده لقبول الجميع له ، وإنما الخلاف بينهم في تأويله ، فقال بعضهم : أراد به جنس ما يسكر . وقال بعضهم : أراد به ما يقع السكر عنده ، كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل .

قلت : فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله ، فوجب قياسا على ذلك : أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة . وقد روى الدارقطني في سننه ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : إن الله لم يحرم الخمر لاسمها ، وإنما حرمها لعاقبتها ، فكل شراب يكون عاقبته ، كعاقبة الخمر ، فهو : حرام كتحريم الخمر . قال ابن المنذر : وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة ، وإذا اختلف الناس في الشيء ، وجب رد ذلك إلى كتاب الله ، وسنة رسوله عليه السلام . وما روي عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره ، فللقوم ذنوب يستغفرون الله منها ، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين : إما مخطئ أخطأ ، في التأويل على حديث سمعه ، أو رجل أتى ذنبا ، لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الأمة . وقد قيل في تأويل الآية : إنها إنما ذكرت للاعتبار ، أي : من قدر على خلق هذه الأشياء ، قادر على البعث ، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما ، فاتخاذ السكر ، لا يدل على التحريم ، وهو كما قال تعالى : " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس{[9945]} " [ البقرة : 219 ] . والله أعلم .


[9937]:راجع ج 11 ص 287.
[9938]:راجع ج 9 ص 251.
[9939]:الاغتلام مجاوزة الحد، أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر.
[9940]:راجع ص 176 من هذا الجزء.
[9941]:راجع ج 18 ص 177.
[9942]:راجع ج 6 ص 285.
[9943]:لعل ما يشربه النخعي وهو إمام- ليس من النبيذ المسكر فإن منه ما لم يبلغ حد الإسكار.
[9944]:في حاشية السندي على سنن النسائي: "قوله الشامات" كأنه جمع على إرادة البلاد الشامية".
[9945]:راجع ج 3 ص 51.