16- فأعرضوا عن شكر النعمة وبطروا معيشتهم ، فأطلقنا عليهم السيل الجارف الذي أعقب تصدع السدود فأهلكت البساتين ، وبدَّلناهم بجنتيهم المثمرتين جنتين ذواتي ثمر مر ، وشجر لا يثمر ، وشيء من نبق قليل لا غناء فيه{[182]} .
قوله تعالى : { فأعرضوا } قال وهب : فأرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم ، وقالوا : ما نعرف لله عز وجل علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعم عنا إن استطاع ، فذلك قوله تعالى : { فأعرضوا } { فأرسلنا عليهم سيل العرم } والعرم : جمع عرمة ، وهو السكر الذي يحبس به الماء . وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق ، وقيل : كان ماء أحمر ، أرسله الله عليهم من حيث شاء ، وقيل : العرم : الوادي ، وأصله من العرامة ، وهي الشدة والقوة . وقال ابن عباس ، ووهب ، وغيرهما : كان ذلك السد بنته بلقيس ، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بواديهم فسد بالعرم ، وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء ، وإذا استغنوا سدوها ، فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن ، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة ، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرب أرضهم . قال وهب : وكان مما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله عز وجل بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت منها الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل ، وهم لا يدرون بذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى قطع السد ، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل ، ففرقوا وتمزقوا حتى صاروا مثلاً عند العرب ، يقولون : صار بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ ، أي : تفرقوا وتبددوا ، فذلك قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم سيل العرم } . { وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } قرأ العامة بالتنوين ، وقرأ أهل البصرة : أكل خمط بالإضافة ، الأكل : الثمر ، والخمط : الأراك وثمره يقال له : البرير ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال المبرد والزجاج : كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط . وقال ابن الأعرابي : الخمط : ثمر شجر يقال له فسوة الضبع ، على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به ، فمن جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في أكل حسن ، ومن جعله أصلاً وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة ، والتنوين سائغ ، تقول العرب : في بستان فلان أعناب كرم ، يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه . { وأثل وشيء من سدر قليل } فالأثل هو الطرفاء ، وقيل : هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه ، والسدر شجر النبق ينتفع بورقه لغسل اليد ويغرس في البساتين ، ولم يكن هذا من ذلك ، بل كان سدراً برياً لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء . قال قتادة : كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم .
فأعرضوا عن المنعم ، وعن عبادته ، وبطروا النعمة ، وملوها ، حتى إنهم طلبوا وتمنوا ، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى ، التي كان السير فيها متيسرا .
{ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } بكفرهم باللّه وبنعمته ، فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة ، التي أطغتهم ، فأبادها عليهم ، فأرسل عليها سيل العرم .
أي : السيل المتوعر ، الذي خرب سدهم ، وأتلف جناتهم ، وخرب بساتينهم ، فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة ، والأشجار المثمرة ، وصار بدلها أشجار لا نفع فيها ، ولهذا قال : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ } أي : شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا { خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهذا كله شجر معروف ، وهذا من جنس عملهم .
ثم بين - سبحانه - ما أصابهم بسبب جحودهم وبطرهم فقال : { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } .
والعرم : اسم للوادى الذى كان يأتى منه السيل . وقيل : هو المطر الشديد الذى لا يطاق .
فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة . أى : أرسلنا عليهم السيل الشديد المدمر .
ويرى بعضهم أن المراد بالعرم : السدود التى كانت مبنية لحجز الماء من خلفها ، ويأخذون منها لزروعهم على قدر حاجتهم ، فلما أصيبوا بالترف والجحود تركوا العناية بإصلاح هذه السدود ، فتصدعت ، واجتاحت المياه آراضيهم فأفسدتها ، واكتسبت مساكنهم ، فتفرقوا عنها ، ومزقوا شر ممزق ، وضرب بهم الأمثال التى منها قولهم : تفرقوا أيدى سبأ . وهو مثل بضرب لمن تفرق شملهم تفرقا لا الاجتماع لهم معه .
وهذا ما حدث لقبيلة سبأ فقد تفرق بعضهم غلى المدينة المنورة كالأوس والخزرج ، وذهب بعضهم إلى عمان كالأزد ، وذهب بعضهم إلى الشام كقبيلة غسان .
وقوله : { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } الأكل : هو الثمر ، ومنه قوله - تعالى - : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } أى : ثمرها . والخمط : هو ثمر الأراك أو هو النبت المر الذى لا يمكن أكله .
و ( الأثل ) هو نوع من الشجر يشبه شجر الطرفاء . أو هو نوع من الشجر كثير الشوك و ( السدر ) هو ما يعرف بالنبق . أو هو نوع من الثمار التى يقل الانتفاع بها .
والمعنى : فأعرض أهل سبأ عن شكرنا وطاعتنا . . فكانت نتيجة ذلك ، أن أرسلنا عليهم السيل الجارف ، الذى احتج أراضهيم ، فأفسد مزارعهم ، وأجلاهم عن ديارهم ، ومزقهم شر ممزق . . وبدلناهم بالجنان اليانعة التى كانوا يعيشون فيها ، بساتين أخرى قد ذهبت ثمارها الطيبة اللذيذة ، وحلت محلها ثمار مرة لا تؤكل ، وتناثرت فىأما كنهم الأشجار التى لا تسمن ولا تغنى من جوع ، بدلا من تلك الأشجار التى كانت تحمل لهم ما لذ وما طاب ، وعظم نفعه .
فالمقصود من الآية الكريمة ببيان أن الجحود والبطر ، يؤديان إلى الخراب والدمار ، وإلى زوال النعم وتحويلها إلى نقم .
ولذا جاء التعقيب بعد هذه الآية بقوله - تعالى - : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } .
وقوله : { فَأَعْرَضُوا } أي : عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم ، وعدلوا إلى عبادة الشمس ، كما قال هدهد سليمان : { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ . إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } [ النمل : 22 ، 24 ] .
وقال محمد بن إسحاق ، عن وهب بن مُنَبّه : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا .
وقال السُّدِّي : أرسل الله إليهم اثني عشر ألف نبي ، والله {[24256]} أعلم .
وقوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } : قيل : المراد بالعرم المياه . وقيل : الوادي . وقيل : الجُرَذ . وقيل : الماء الغزير . فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته ، مثل : " مسجد الجامع " . و " سعيد كُرْز " حكى ذلك السهيلي . {[24257]}
وذكر غير واحد منهم ابن عباس ، ووهب بن منبه ، وقتادة ، والضحاك ؛ أن الله ، عز وجل ، لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم ، بعث على السد دابة من الأرض ، يقال لها : " الجُرَذ " نقبته - قال وهب بن منبه : وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجُرَذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمان ، فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير ، وولجت إلى السَّدّ فنقبته ، فانهار عليهم .
وقال قتادة وغيره : الجُرَذ : هو الخَلْد ، نقبت أسافله حتى إذا ضَعف ووَهَى ، وجاءت أيام السيول ، صَدمَ الماءُ البناءَ فسقط ، فانساب الماء في أسفل{[24258]} الوادي ، وخرّبَ ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك ، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال ، فيبست وتحطمت ، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة ، كما قال الله وتعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وعطاء الخُرَاساني ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي : وهو الأراك ، وأكلة البَرير .
{ وَأَثْل } : قال العوفي ، عن ابن عباس : هو الطَّرْفاء .
وقال غيره : هو شجر يشبه الطرفاء . وقيل : هو السّمُر . فالله أعلم .
وقوله : { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } : لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها هو السّدْر قال : { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } ، فهذا الذي صار أمر تَيْنك{[24259]} الجنتين إليه ، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة ، والظلال العميقة والأنهار الجارية ، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسّدْر ذي الشوك الكثير والثمر القليل . وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله ، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا{[24260]} وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّاتِهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيَ إِلاّ الْكَفُورَ } .
يقول تعالى ذكره : فأعرضت سبأ عن طاعة ربها وصدّت عن اتباع ما دعتها إليه رسلها من أنه خالقها ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : لقد بعث الله إلى سبإ ، ثلاثة عشر نبيا ، فكذّبوهم فأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ يقول تعالى ذكره : فثقبنا عليهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا سدّهم الذي كان يحبس عنهم السيول .
والعرم : المسناة التي تحبس الماء ، واحدها : عرمة ، وإياه عنى الأعشى بقوله :
فَفِي ذَاكَ للْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ *** وَمأْرِبُ عَفّى عَلَيْهِ العَرِمْ
رِجامٌ بَنَتْهُ لَهم حِمْيَرٌ *** إذَا جاءَ ماؤُهُمُ لَمْ يَرِمْ
وكان العرم فيما ذُكر مما بنته بلقيس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت المغيرة بن حكيم ، قال : لما ملكت بلقيس ، جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم قال : فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها فتركت مُلكها ، وانطلقت إلى قصر لها ، وتركتهم فلما كثر الشرّ بينهم ، وندموا أتوها ، فأرادوها على أن ترجع إلى مُلكها ، فأبت فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنك ، فقالت : إنكم لا تطيعونني ، وليست لكم عقول ، ولا تطيعوني ، قالوا : فإنا نطيعك ، وإنا لم نجد فينا خيرا بعدك ، فجاءت فأمرت بواديهم ، فسدّ بالعرم . قال أحمد ، قال وهب ، قال أبي : فسألت المغيرة بن حكيم عن العرم ، فقال : هو بكلام حِمْير المُسنّاة فسدّت ما بين الجبلين ، فحبست الماء من وراء السدّ ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة ضخمة ، فجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدّة أنهارهم فلما جاء المطر احتبس السيل من وراء السدّ ، فأمرت بالباب الأعلى ففُتح ، فجرى ماؤه في البركة ، وأمرت بالبعر فألقي فيها ، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق تلك الأنهار ، وترسل البعر في الماء ، حتى خرج جميعا معا ، فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان .
حدثنا أحمد بن عمر البصري ، قال : حدثنا أبو صالح بن زريق ، قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، في قوله فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ قال : المسناة بلحن اليمن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : سَيْلَ العَرِمِ قال : شديد .
وقيل : إن العرم : اسم واد كان لهؤلاء القوم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ قال : واد كان باليمن ، كان يسيل إلى مكة ، وكانوا يسقون وينتهي سيلهم إليه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ ذُكر لنا أن سيل العرم واد كانت تجتمع إليه مسايل من أودية شتى ، فعمدوا فسدّوا ما بين الجبلين بالقير والحجارة ، وجعلوا عليه أبوابا ، وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إليه ، ويسدّون عنهم ما لم يعنوا به من مائه شيئا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَاد يُدعى العَرِم ، وكان إذا مُطِر سالت أودية اليمن إلى العرم ، واجتمع إليه الماء ، فَعمَدَت سَبأُ إلى العرم ، فسدّوا ما بين الجبلين ، فحجزوه بالصخر والقار ، فانسدّ زمانا من الدهر ، لا يَرْجون الماء ، يقول : لا يخافون .
وقال آخرون : العَرِم : صفة للمُسَنّاة التي كانت لهم وليس باسم لها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : سَيْلَ العَرِمِ يقول : الشديد ، وكان السبب الذي سبب الله لإرسال ذلك السيل عليهم فيما ذُكر لي جُرذا ابتعثه الله على سدّهم ، فثقب فيه ثقبا .
ثم اختلف أهل العلم في صفة ما حدث عن ذلك الثقب مما كان فيه خَراب جَنتيهم .
فقال بعضهم : كان صفة ذلك أن السيل لما وجد عملاً في السدّ عمِل فيه ، ثم فاض الماء على جناتهم ، فغرّقها وخرّب أرضهم وديارهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن وهب بن مُنَبه اليماني ، قال : كان لهم ، يعني لسبأ سدّ ، قد كانوا بنوْه بنيانا أبدا ، وهو الذي كان يَرُدّ عنهم السيل إذا جاء أن يغشى أموالهم . وكان فيما يزعمون في علمهم من كَهانتهم ، أنه إنما يخرّب عليهم سدّهم ذلك فأرة ، فلم يتركوا فُرْجة بين حجرين ، إلا ربطوا عندها هرّة فلما جاء زمانه ، وما أراد الله بهم من التغريق ، أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرّة من تلك الهِرر ، فساورتها ، حتى استأخرت عنها أي الهرة ، فدخلت في الفُرجة التي كانت عندها ، فغلغلت في السدّ ، فحفرت فيه حتى وَهّنته للسيل وهم لا يدرون فلما جاء السيل وجد خَلَلاً ، فدخل فيه حتى قلع السدّ ، وفاض على الأموال ، فاحتملها فلم يُبْق منها إلا ما ذكره الله فلما تفرّقوا نزلوا على كَهانة عمران بن عامر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما ترك القوم أمر الله ، بعث الله عليهم جُرَذا يسمى الخُلْد ، فثَقبه من أسفله حتى غرّق به جناتُهم ، وخَرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : لما طغَوْا وبَغَوْا ، يعني سَبَأ ، بعث الله عليهم جُرَذا ، فخَرَق عليهم السّدّ ، فأغرقهم الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : بعث الله عليه جُرَذا ، وسلّطه على الذي كان يحبس الماء الذي يَسقيها ، فأخرب في أفواه تلك الحجارة ، وكلّ شيء منها من رَصاص وغيره ، حتى تركها حِجارة ، ثم بعث الله سيل العرم ، فاقتلع ذلك السّدّ ، وما كان يحبس ، واقتلع تلك الجنتين ، فذهب بهما وقرأ : فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنَ قال : ذهب بتلك القُرى والجنتين .
وقال آخرون : كانت صفة ذلك أن الماء الذي كانوا يعمُرُون به جَناتهم سال إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، فبذلك خربت جناتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : بعث الله عليهم ، يعني على العرم ، دابة من الأرض ، فثَقَبت فيه ثَقبا ، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، وأبدلهم الله مكان جنتيهم جنتين ذواتي أُكُلٍ خَمْط ، وذلك حين عَصَوا ، وبَطِروا المعيشة .
والقول الأوّل أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه أرسل عليهم سيل العرم ، ولا يكون إرسال ذلك عليهم إلا بإسالته عليهم ، أو على جناتهم وأرضهم ، لا بصرفه عنهم .
وقوله : وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتيْ أُكُلٍ خَمْطٍ يقول تعالى ذكره : وجعلنا لهم مكان بساتينهم من الفواكه والثمار ، بساتين من جَنى ثمر الأراك ، والأراك : هو الخَمْط . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : أبدلهم الله مكان جنّتيهم جنتين ذواتي أُكُلٍ خَمْط ، والخمْط : الأَراك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن ، يقول في قوله : ذَوَاتيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قال : أراه قال : الخَمْط : الأراك .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثني عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد أُكُلٍ خَمْطٍ قال : الخمْط : الأراك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ذَوَاتيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قال : الأراك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذَوَاتيْ أُكُلٍ خَمْطٍ والخمط : الأراك ، وأُكُلُه : بريره .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قال : بدّلهم الله بجنان الفواكه والأعناب ، إذ أصبحت جناتهم خَمْطا ، وهو الأراك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ قال : أذهب تلك القرى والجنتين ، وأبدلهم الذي أخبرك ذواتي أكل خَمْط قال : فالخَمْط : الأراك ، قال : جعل مكان العنب أراكا ، والفاكهة أَثْلاً ، وشيء من سدر قليل .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار بتنوين أُكُلٍ غيرَ أبي عمرو ، فإنه يضيفها إلى الخمط ، بمعنى : ذواتي ثمرِ خَمْطٍ . وأما الذين لم يضيفوا ذلك إلى الخَمْط ، وينوّنون الأُكُل ، فإنهم جعلوا الخمط هو الأُكُل ، فردّوه عليه في إعرابه . وبضم الألف والكاف من الأُكُل قرأت قرّاء الأمصار ، غير نافع ، فإنه كان يخفف منها .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه : ذَوَاتَيْ أُكُلٍ بضم الألف والكاف لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وبتنوين أُكُلٍ لاستفاضة القراءة بذلك في قُرّاء الأمصار ، من غير أن أرى خطأ قراءة من قرأ ذلك بإضافته إلى الخمط وذلك في إضافته وترك إضافته ، نظيرُ قول العرب : في بُستان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ ، فتضيف أحيانا الأعناب إلى الكرم ، لأنها منه ، وتنوّن أحيانا ، ثم تترجم بالكرم عنها ، إذ كانت الأعنابُ ثمرَ الكَرْم . وأما الأَثْل فإنه يقال له الطّرْفاء وقيل : شجر شبيه بالطّرْفاء ، غير أنه أعظم منها . وقيل : إنها السّمُر . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وأَثْلٍ ، قال : الأثل : الطرفاء .
وقوله : وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ يقول : ذواتي أُكُل خَمْطٍ وأَثْلٍ وشيءٍ من سدر قليل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : ثني سعيد ، عن قتادة ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ قال : بينما شجر القوم خير الشجر ، إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم .
وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبياً فكفروا بهم وأعرضوا ، فبعث الله تعالى على ذلك السد جرداً أعمى توالد فيه وخرقه شيئاً بعد شيء وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فيحتمل ذلك السد ، فيروى أنه كان من العظم وكثرة الماء بحث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار ، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه ، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولاً فتعطل سقي الجنات ، واختلف الناس في لفظة { العرم } فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : { العرم } في لغة اليمن : جمع عرمة : وهو كل ما بني أو سنم{[9632]} ليمسك الماء ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز المسناة .
قال الفقيه الإمام القاضي : كأنها الجسور{[9633]} والسداد{[9634]} ونحوها ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :
وفي ذلك للمتأسي أسوة ومآرب . . . عفا عليها العرم
رخام بناه لهم حمير . . . إذا جاءه موارة لم يرم{[9635]}
ومن سبأ الحاضرين مأرب إذ . . . يبنون من دون سيله العرما{[9636]}
وقال ابن عباس وقتادة الضحاك { العرم } اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له ، وقال ابن عباس أيضاً إن سيل ذلك الوادي أبداً يصل إلى مكة وينتفع به ، وقال ابن عباس أيضاً { العرم } الشديد .
قال الفقيه الإمام القاضي : فكأنه صفة للسيل من العرامة ، والإضافة إلى الصفة مبالغة وهي كثيرة في كلام العرب ، وقالت فرقة { العرم } اسم الجرذ .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف ، وقيل { العرم } اسم المطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل ، وقوله { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } قول فيه تجوز واستعارة وذلك أن البدل من «الخمط والأثل » لم يكن جنات ، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوباً جيداً وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك ونحو هذا ، وقوله { ذواتي } تثنية ذات ، و «الخمط » شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره ، وقيل «الخمط » كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حمضة أو نحوه ، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه ، و «الأثل » ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح ، وكذا قال أبو حنيفة في كتاب النبات ، قال الطبري وقيل هو شجر شبيه بالطرفاء وقيل إنه السمر ، و «السدر » معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه في الطعم دونه بكثير ، وللخمط ثمر غث هو البريد ، وللأثل ثم قليل الغناء غير حسن الطعم ، وقرأ ابن كثير ونافع «أكْل » بضم الهمزة وسكون الكاف ، وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف ، وروي أيضاً عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى الجنى والثمر ، ومنه قوله تعالى
{ تؤتي أكلها كل حين }{[9637]} [ إبراهيم : 25 ] أي جناها ، وقرأ جمهور القراء بتنوين «أكل » وصفته [ خمط ] وما بعده ، قال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن لأن الخمط ليس بالأكل والأكل ليس بالخمط نفسه والصفة أيضاً كذلك ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها ، ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي [ الطويل ]
عقار كماء الني ليس بخمطة . . . ولا خلة يكوي الشروب شهابها{[9638]}
وقرأ أبو عمرو بإضافة «أكلِ » إلى «خمطٍ » وبضم كاف «أكلُ خمطٍ » ، ورجع أبو علي قراءة الإضافة .