118- يا أيها الذين آمنوا : لا تتخذوا أصفياء تستعينون بهم من غير أهل دينكم ، تطلعونهم على أسراركم ، لأنهم لا يقصرون في إفساد أموركم . إذ هم يودون أن يرهقوكم ويضروكم أشد الضرر . وقد ظهرت أمارات البغضاء لكم من فلتات ألسنتهم ، وما تضمره قلوبهم أعظم مما بدا ، قد أظهرنا لكم العلامات التي يتميز بها الولي من العدو إن كنتم من أهل العقل والإدراك الصحيح .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم } . الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما ، كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة ، والصداقة ، والحلف ، والجوار ، والرضاع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم . وقال مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ن فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم } . أي أولياء وأصفياء من غير أهل ملتكم ، وبطانة الرجل خاصته ، تشبيهاً ببطانة الثوب التي تلي بطنه ، لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على مالا يطلع عليه غيرهم . ثم بين العلة في النهي عن مباطنتهم فقال :
قوله تعالى : { لا يألونكم خبالاً } . أي : لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد ، والخبال : الشر والفساد ، ونصب خبالاً على المفعول الثاني لأن يألو يتعدى إلى مفعولين ، وقيل : بنزع الخافض ، أي بالخبال ، كما يقال : أوجعته ضرباً .
قوله تعالى : { ودوا ما عنتم } . أي : يودون ما يشق عليكم ، من الضر والشر والهلاك . والعنت : المشقة .
قوله تعالى : { قد بدت البغضاء } . أي : البغض ، معناه ظهرت أمارة العداوة .
قوله تعالى : { من أفواههم } . بالشتيمة والوقيعة في المسلمين ، وقيل : بإطلاع المشركين على أسرار المسلمين .
قوله تعالى : { وما تخفي صدورهم } . من العداوة والغيظ .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم { وما تخفي صدورهم أكبر } مما يسمع منهم فلهذا { لا يألونكم خبالا } أي : لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين { قد بينا لكم الآيات } أي : التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية { لعلكم تعقلون } فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو ، فليس كل أحد يجعل بطانة ، وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه .
وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه ، حذر المؤمنين من أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ممن لا يريدون للإسلام إلا الشرور والمضار فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلفوا فى الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم ؟ فقيل هم اليهود ، لأن بعض المسلمين كانوا يشاورونهم فى أمورهم ويؤانسونهم لما كان فيهم من الرضاع والحلف . وقيل هم المنافقون ، وذلك لأن بعض المؤمنين كانوا يغترون يظاهر أقوالهم فيفشون إليهم الأسرار والصحيح أن المراد بهم جميع أصناف الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : { بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين ، فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار " .
والبطانة فى الأصل : داخل الثوب ، وجمعها بطائن . قال - تعالى - : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجنتين دَانٍ ) . وظاهر الثوب يسمى الظهارة ، والبطانة - أيضاص - الثوب الذى يجعل تحت ثوب آخر ويسمى الشعار ، وما فوقه الدثار وفى الحديث " الأنصار شعار والناس دثار " .
ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذى يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب فى شدة القرب من صاحبها . قال الشاعر :
أولئك خلصائي نعم وبطانتى . . . وهم عيبتى من دون كل قريب
وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } أى من غير أهل ملتكم .
والمعنى : لا يجوز لكم - أيها المؤمنون - أن تتخذوا من غير أهل ملتكم أصفياء وأولياء تلقون إليهم بأسراركم لاتى لا يصح لكم أن تطلعوهم عليها ، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر فى دينكم ودنياكم .
قال القرطبى : " نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم فى الآراء ويسندون إليهم أمورهم . وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وقيل لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك ؟ فقال : لا آخذ بطانة من دون المؤمنين " .
ثم قال القرطبى - رحمه الله - : قلت وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء ، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء . روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه . وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه ، والمعصوم من عصمه الله " .
وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإيمان ، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم فى عقيدتهم على أسرارهم ، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفة لبطانة فيكون متعلقاً بمحذوف ، أى لا تتخذوا بطانة كائنة من غيركم .
ويجوز أن يكون متعلقا بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } أى لا تتخذوا من غير أهل ملتكم بطانة تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم .
ثم ذكر - سبحانه - جملة من الأسباب التى تجعل المؤمنين يمتنعون عن مصافاة هؤلاء الذين يخالفونهم فى عقيدتهم فقال فى بيان أول هذه الأسباب : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } وأصل " الألو " : التقصير . يقال : ألا فى الأمر - كغزا - يألو ألواً وألوا ، إذا قصر فيه ، ومنه قول امرىء القيس :
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه . . . بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
أراد ولا مقصر ، وهو - أى الفعل " يألو " من الأفعال اللازمة التى تتعدى إلى المفعول بالحرف ، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين كا فى قولهم : لا آلوك نصحاً ، على تضمين الفعل معنى المنع . أى لا أمنعك ذلك .
والخبال : الشر والفساد . وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطراباً . يقال خبله وخبله فهو خابل . والجمع الخبل ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطراباً وفساداً فى قواه العقلية والفكرية .
والمعنى : أنهاكم - أيها المؤمنون - عن أن تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين ، لأن هؤلاء الأولياء من غير إخوانكم المؤمنين ، لا يقصرون فى جهد يبذلونه فى إفساد أمركم ، وفيما يورثكم شرا وضرا . أو لا يمنعونكم خبالا ، أى أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون شيئاً منه عندهم ، بل يبذلون قصارى جهدهم فى إليحاق الضرر بكم فى دينكم ودنياكم .
وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم . أو صفة لقوله : { بِطَانَةً } .
وقوله : { خَبَالاً } منصوب على أنه المفعول الثانى ليألونكم لتضمينه معنى يمنعونكم .
ويصح أن يكون منصوبا بنزع الخافض أى لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا .
أما السبب الثانى الذى يحمل المؤمنين على اجتناب هؤلاء الضالين فقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } .
وقوله : { وَدُّواْ } من الود وهو المحبة . يقال : وددت كذا أى أحببته .
وقوله : { عَنِتُّمْ } من العنت وهو شدة الضرر والمشقة . ومنه قوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } أى لأوقعكم فيما يشق عليكم .
و { مَا } فى قوله : { مَا عَنِتُّمْ } هى ما المصدرية . أى : أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم ، بجانب أنهم لا يألون جهدا فى إفساد أمركم ، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم ، وتفريق جمعكم ، وذهاب قوتكم .
فالجملة الأولى وهى قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } بمنزلة المظهر والنتيجة ، وهذه . أى قوله تعالى : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } بمنزلة الباعث والدافع .
فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان ، وأنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران .
وليس بعاقل ذلك الذى يطلع من يريد له الشرور على أسراره ودخائله .
وأما السبب الثالث الذى يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله - تعالى - بقوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .
والبغضاء مصدر كالسراء والضراء ، وهى البغض الشديد المتمكن فى النفوس ، والثابت فى القلوب .
أى : قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم ، وطفح البغض الباطن فى قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم ، ولاح على صفحات وجوههم ، وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان . ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد وإحن ، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء ، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذى ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم ، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير .
وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة . للإشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم فى أقوالهم الباطلة ، فهم أشد جرما من المتستر الذى تبدو البغضاء فى عينيه .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم ، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التى تدعو إلى الحذر منهم فقال - تعالى - : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى قد بينا لكم العلامات الواضحات ، والآيات البينات التى تعرفون بها أعداءكم ، وتميزون عن طريقها بين الصديق وبين العدو ، إن كنتم من أهل العقل والفهم .
والمقصود من الجملة الكريمة حضهم على استعمال عقولهم بتأمل وتدبر فى هذه الآيات التى بينها الله لهم فضلا منه وكرما ، وحتى لا يتخذوا بطانة من غير إخوانهم فى العقيدة والدين .
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : إن كنتم تعقلون ذلك فلا تباطنوهم ولا تفشوا لهم أسراركم .
يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة ، أي : يُطْلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم ، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالا أي : يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة ، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم .
وقوله : { لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أي : من غيركم من أهل الأديان ، وبطانة الرجل : هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخل أمره .
وقد روى البخاري ، والنسائي ، وغيرهما ، من حديث جماعة ، منهم : يونس ، ويحيى بن سعيد ، وموسى بن عقبة ، وابن أبي عتيق - عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ " {[5587]} .
وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام ، عن الزهري ، عن أبي سلمة [ عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه{[5588]} فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة ]{[5589]} عنهما . وأخرجه النسائي عن الزهري
أيضا{[5590]} وعلقه البخاري في صحيحه فقال : وقال عبيد الله بن أبي جعفر ، عن صَفْوان بن سليم ، عن أبي سلمة ، عن أبي أيوب الأنصاري ، فذكره . فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة{[5591]} والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو أيوب محمد{[5592]} بن الوَزَّان ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن أبي حَيّان التيمي عن أبي الزِّنْباع ، عن ابن أبي الدِّهْقانة قال : قيل لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة ، حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتبا ؟ فقال : قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين{[5593]} .
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة ، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ؛ ولهذا قال تعالى : { لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } .
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن إسرائيل ، حدثنا هُشَيم ، حدثنا العَوَّام ، عن الأزهر بن راشد قال : كانوا يأتون أنَسًا ، فإذا حَدَّثهم بحديث لا يدرون ما هو ، أتَوا الحسن - يعني البصري - فيفسره{[5594]} لهم . قال : فحدَّث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا{[5595]} فلم يدروا ما هو ، فأتوا الحسن فقالوا له : إن أنسا حَدّثنا أن رسول الله{[5596]} صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ{[5597]} ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا{[5598]} فقال الحسن : أما قوله : " ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا{[5599]} : محمد صلى الله عليه وسلم . وأما قوله : " لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ " يقول : لا تستشيروا المشركين في أموركم . ثم قال الحسن : تصديق ذلك في كتاب الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } .
هكذا رواه الحافظ أبو يعلى ، رحمه الله ، وقد{[5600]} رواه النسائي عن مجاهد بن موسى ، عن هشيم . ورواه الإمام أحمد ، عن هُشَيم بإسناده مثله ، من غير ذكر تفسير الحسن البصري{[5601]} .
وهذا التفسير فيه نظر ، ومعناه ظاهر : " لا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيّا{[5602]} أي : بخط عربي ، لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان نَقْشُه محمد رسول الله ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن يَنْقُشَ أحد على نقشه . وأما الاستضاءة بنار المشركين ، فمعناه : لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون{[5603]} معهم في بلادهم ، بل تَبَاعَدُوا منهم وهَاجروا من بلادهم ؛ ولهذا روى أبو داود [ رحمه الله ]{[5604]} لا تَتَرَاءَى نَاراهُمَا " وفي الحديث الآخر : " مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ ، فَهُوَ مِثْلُهُ " ؛ فحَمْلُ الحديث على ما قاله الحسن ، رحمه الله ، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي : قد لاح على صَفَحات وجوههم ، وفلتات ألسنتهم من العداوة ، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل ؛ ولهذا قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }
يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم ، { لا تَتّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } يقول : لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم ، يقول : من دون أهل دينكم وملتكم ، يعني من غير المؤمنين . وإنما جعل البطانة مثلاً لخليل الرجل فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطلاعه على أسراره ، وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه ، محلّ ما ولي جسده من ثيابه ، فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغشّ والخيانة ، وبغيهم إياهم الغوائل ، فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّتهم ، فقال تعالى ذكره : { لا يَألُونَكُم خَبالاّ } يعني لا يستطيعُونَكُمْ شرّا ، من أَلَوْتُ آلُو ألُوّا ، يقال : ما ألا فلان كذا ، أي ما استطاع ، كما قال الشاعر :
جَهْراءُ لا تأْلُو إذا هِيَ أظْهَرَتْ *** بَصَرا وَلا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِيني
يعني لا تستطيع عند الظهر إبصارا .
وإنما يعني جلّ ذكره بقوله : { لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً } البطانة التي نهى المؤمنين عن اتخاذها من دونهم ، فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالاً : أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال . وأصل الخبال والخبال : الفساد ، ثم يستعمل في معان كثيرة ، يدلّ على ذلك الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أُصِيبَ بَخْبلٍ أو جِرَاحٍ » .
وأما قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } فإنه يعني : ودّوا عنتكم ، يقول : يتمنون لكم العنت والشرّ في دينكم وما يسوءكم ولا يسرّكم . وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم ، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام ، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : قال محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم ، فنهاهم عن مباطنتهم تخوّف الفتنة عليهم منهم : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } إلى قوله : { وَتُؤمِنُونَ بالكِتابِ كُلّه } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خبَالاً } في المنافقين من أهل المدينة ، نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يتولوهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَألُونَكُمْ خَبالاً وَدّوا ما عَنِتمْ } نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين أو يؤاخوهم ، أي يتولوهم من دون المؤمنين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } هم المنافقون .
حدثت عن عمار . قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُم لا يأْلونَكُمْ خَبالاً } يقول : لا تستدخلوا المنافقين ، تتولوهم دون المؤمنين .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن الأزهر بن راشد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَسْتَضِيئُوا بِنارِ أهْلِ الشّرْكِ ، وَلا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيّا » قال : فلم ندر ما ذلك حتى أتوا الحسن فسألوه ، فقال : نعم ، أما قوله : «لا تَنْقُشُوا في خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيّا » ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم «محمد »¹ وأما قوله : «ولا تَسْتَيضِئُوا بَنارِ أهْل الشّرْكِ » ، فإنه يعني به المشركين ، يقول : لا تستشيروهم في شيء من أموركم . قال : قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ، ثم تلا هذه الاَية : { يا أيها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أما البطانة : فهم المنافقون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } . . . الاَية ، قال : لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } . . . الاَية ، قال : هؤلاء المنافقون ، وقرأ قوله : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } . . . الاَية .
واختلفوا في تأويل قوله { وَدّوا ما عَنِتّمْ } فقال بعضهم معناه : ودّوا ما ضللتم عن دينكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } يقول : ما ضللتم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } يقول في دينكم ، يعني : أنهم يودّون أن تعنتوا في دينكم .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } فجاء بالخبر عن البطانة بلفظ الماضي في محل الحال والقطع بعد تمام الخبر ، والحالات التي لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها ؟ قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أن قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمّ } حال من البطانة ، وإنما هو خبر عنهم ثان ، منقطع عن الأوّل غير متصل به . وإنما تأويل الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا صفتهم كذا . فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى ، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد .
وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } من صلة البطانة ، وقد وصلت بقوله : { لا يَألُونَكُمْ خَبالاً } فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام البطانة بصلته ، ولكن القول في ذلك كما بينا قبل من أن قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } خبر مبتدأ عن البطانة غير الخبر الأوّل ، وغير حال من البطانة ولا قطع منها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم ، يعني بألسنتهم . والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم على كفرهم ، وعدواتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضلالة ، فذلك من أوكد الأسباب من معاداتهم أهل الإيمان ، لأن ذلك عداوة على الدين ، والعداوة على الدين ، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الاَخر منهما ، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك ، فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ومقامهم عليه أبين الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة .
وقد قال بعضهم : معنى قوله : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضا على ذلك .
وزعم قائلو هذه المقالة أن الذين عنوا بهذه الاَية : أهل النفاق ، دون من كان مصرّحا بالكفر من اليهود وأهل الشرك . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } يقول : قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار ، من غِشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إياهم .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } يقول : من أفواه المنافقين .
وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة قول لا معنى له ، وذلك أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغشّ للإسلام وأهله ، والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم ، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم . فأما من لم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عزّ وجلّ عن مخالته ومباطنته ، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم ، إما بأعيانهم وأسمائهم ، وإما بصفات قد عرفوهم بها . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار ، غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودّد إليهم ، كان بينا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم ، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم الله عزّ وجلّ به ، فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها ، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب ، لأنهم لو كانوا المنافقين لكان الأمر فيهم على ما قد بينا ، ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحرب ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم ، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل . والبغضاء : مصدر ، وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود : «قد بدا البغضاء من أفواههم » ، على وجه التذكير ، وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث ، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم ، فيجوز تذكير ما خرج منها على لفظ المؤنث وتأنيثه ، كما قال عزّ وجلّ : { وأخَذَ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ } وكما قال : { فقدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ } وفي موضع آخر : { وأخَذَتِ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ } { وَجاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ } . وقال : { مِنْ أفْوَاهِهِمْ } وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم ، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم ، فقال : قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : والذي تخفي صدورهم ، يعني صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة فتخفيه عنكم أيها المؤمنون أكبر ، يقول : أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ } يقول : وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ } يقول : ما تكنّ صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ بَيّنَا لَكُمُ الاَياتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قد بينا لكم أيها المؤمنون الاَيات ، يعني بالاَيات : العبر ، قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم ، { إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه ، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته عليكم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } وليجة ، وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به ، شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار قال عليه والسلام : " الأنصار شعار والناس دثار " { من دونكم } من دون المسلمين ، وهو متعلق بلا تتخذوا ، أو بمحذوف هو صفة بطانة أي بطانة كائنة من دونكم . { لا يألونكم خبالا } أي لا يقصرون لكم في الفساد ، والألو التقصير وأصله أن يعدى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع أو النقص . { ودوا ما عنتم } تمنوا عنتكم ، وهو شدة الضرر والمشقة وما مصدرية . و{ قد بدت البغضاء من أفواههم } أي في كلامهم لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم . { وما تخفي صدورهم أكبر } مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار . { قد بينا لكم الآيات } الدالة على وجوب الإخلاص وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين . { إن كنتم تعقلون } ما بين لكم ، والجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل ، ويجوز أن تكون الثلاث الأول صفات لبطانة .