طلبت هذه السورة من رسول الله إذا جاءه نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله جماعات أن تسبح بحمد ربك ، وتنزهه عما لا يليق به ، وتستغفره لنفسك وللمؤمنين ؛ لأنه التواب الذي يقبل التوبة من عباده ، ويعفو عن السيئات{[1]} .
{ إذا جاء نصر الله والفتح } أراد فتح مكة . وكانت قصته -على ما ذكر محمد ابن إسحاق وأصحاب الأخبار- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً عام الحديبية ، واصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش ، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان بينهما شر قديم . ثم إن بني بكر عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة ، يقال له : الوتير ، فخرج نوفل بن معاوية الدئلي في بني الدئل من بني بكر حتى بيت خزاعة ، فأصابوا منهم رجلاً وتحاربوا واقتتلوا ، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفياً بالليل ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين : صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، مع عبيدهم ، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر : يا نوفل إنا دخلنا الحرم إلى إلهك ، فقال كلمة عظيمة : إنه لا إله لي اليوم ، أصيبوا ثأركم فيه . فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ، ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد بما استحلوا من خزاعة -وكانوا في عقده- خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ذلك مما هاج فتح مكة ، فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس ، فقال :
لا هم إني ناشد محمدا*** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا*** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
الأبيات كما ذكرنا في سورة التوبة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد نصرت يا عمرو بن سالم " ، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال : " إن هذه السحابة لتشهد بنصر بن كعب " ، وهم رهط عمرو بن سالم . ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة ، حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس : كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة . ومضى بديل بن ورقاء فلقي أبا سفيان بعسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشدد العقد ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذي صنعوا ، فلما لقي أبو سفيان بديلاً قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي ، قال : أو ما أتيت محمداً ؟ قال : لا ، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف ناقته بها النوى ، فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً . ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ، فقال : أي بنية أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم أرغبت به عني ؟ قالت : بلى ، هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس ، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر . ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندها الحسن بن علي رضي الله عنهما ، غلام يدب بين يديها ، فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحماً ، وأقربهم مني قرابةً ، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً ، اشفع لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويحك يا أبا سفيان ، لقد عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ، فالتفت إلى فاطمة فقال : يا بنت محمد ، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما بلغ ببني أن يجير بين الناس ، وما يجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ، فقال : يا أبا الحسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني ، قال : والله ما أعلم شيئاً يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال : أو ترى ذلك مغنياً عني ؟ قال : لا والله ، ما أظن ، ولكن لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد فقال : يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق ، فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد عنده خيراً ، فجئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم ، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم ، وقد أشار علي بشيء صنعته ، فوالله ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا ؟ قالوا : وماذا أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت ، قالوا : فهل أجاز ذلك محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قالوا : والله إن زاد على أن لعب بك ، فلا يغني عنا ما قلت . قال : لا والله ما وجدت غير ذلك . قال : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أي بنية أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تجهزوه ؟ قالت : نعم ، فتجهز ، قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : ما أدري ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ، فتجهز الناس . وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش ذكرناها في سورة الممتحنة . ثم استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري ، وخرج عامداً إلى مكة لعشر مضين من رمضان سنة ثمان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد -ما بين عسفان وأمج- أفطر . ثم مضى حتى نزل بمر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين ، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار عنه أحد ، فلما نزل بمر الظهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما هو فاعل ، فخرج في تلك الليلة : أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، يتحسسون الأخبار هل يجدون خبراً ؟ وقد قال العباس بن عبد المطلب ليلتئذ وأصباح قريش : والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلادها فدخل مكة عنوة إنها لهلاك قريش إلى آخر الدهر . فخرج العباس على بغلة رسول الله وقال : أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً ، أو صاحب لبن ، أو داخلاً يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأتونه فيستأمنونه قبل أن يدخلها عليهم عنوة . قال العباس : فخرجت وإني -والله- لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له ؛ إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ، وقد خرجوا يتحسسون الخبر ، فسمعت أبا سفيان يقول : والله ما رأيت كالليلة قط نيراناً ، وقال بديل : هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب ، فقال أبو سفيان : خزاعة ألأم من ذلك وأذل ، فعرفت صوته فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي فقال : يا أبا الفضل ، فقلت : نعم ، فقال : مالك فداك أبي وأمي ؟ قلت : ويحك يا أبا سفيان ، هذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا قبل لكم به ، بعشرة آلاف من المسلمين ، قال : وما الحيلة ؟ قلت : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه ، فردفني ، ورجع صاحبه فخرجت أركض به بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ، كلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا : هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب ، فقال : من هذا ؟ وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة ، قال : أبو سفيان عدو الله ! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فركضت البغلة وسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء ، فاقتحمت عن البغلة فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر ، فقال : يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه ، فقلت : يا رسول الله إني قد أجرته ، ثم جلست إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه وقلت : والله لا يناجيه الليلة أحد دوني ، فلما أكثر فيه عمر رضي الله عنه قلت : مهلاً يا عمر ، فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف ، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا . قال : مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فائتني به ، قال : فذهبت إلى رحلي فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره فقد أغنى عني شيئاً بعد ، قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي وما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً ، قال العباس : قلت له : ويحك ! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، قبل أن يضرب عنقك ، قال : فشهد شهادة الحق وأسلم ، وقال العباس : قلت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر ، فاجعل له شيئاً ، قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عباس ، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها . قال : فخرجت به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ومرت به القبائل على راياتها ، كلما مرت قبيلة قال : من هؤلاء يا عباس ؟ قال : أقول : سليم ، قال : يقول : ما لي ولسليم ؟ ثم تمر القبيلة فيقول : من هؤلاء ؟ فأقول : مزينة ، فيقول : ما لي ولمزينة ؟ حتى نفذت القبائل ، لا تمر قبيلة إلا سألني عنها ، فإذا أخبرته يقول : ما لي ولبني فلان ؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء ، كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيها المهاجرون والأنصار ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، قال : سبحان الله ، من هؤلاء يا عباس ؟ قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار ، فقال : والله ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً ، فقال : ويحك ! إنها النبوة ، قال : نعم إذاً . فقلت : الحق الآن بقومك فحذرهم ، فخرج سريعاً حتى أتى مكة ، فصرخ في المسجد بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، قال : فما قال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قالوا : ويحك ، وما تغني عنا دارك ؟ قال : ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن . فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد . قال : وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران فأسلما وبايعاه ، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام . ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة بعث في إثرهما الزبير وأعطاه رايته ، وأمره على خير المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحجون ، وقال : لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتيك ، ومن ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وضربت هناك قبته ، وأمر خالد بن الوليد فيمن أسلم من قضاعة وبني سليم أن يدخل من أسفل مكة ، وبها بنو بكر ، قد استنفرتهم قريش ، وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش ، أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة ، وإن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ، وكانوا قد جمعوا أناساً بالخندمة ليقاتلوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد والزبير حين بعثهما : لا تقاتلا إلا من قاتلكم ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى ، فقال سعد حين توجه داخلاً : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، فسمعها رجل من المهاجرين فقال : يا رسول الله ، اسمع ما قال سعد بن عبادة ، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : أدركه فخذ الراية منه ، فكن أنت الذي تدخل بها ، فلم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال ، وأما خالد بن الوليد فقدم على قريش وبني بكر والأحابيش بأسفل مكة ، فقاتلهم فهزمهم الله ، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك . وقتل من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل من جهينة يقال له : سلمة بن الميلاء ، من خيل خالد بن الوليد ، ورجلان يقال لهما : كرز بن جابر وخنيس بن خالد ، كانا في خيل خالد بن الوليد ، فشذا عنه ، وسلكا طريقاً غير طريقه ، فقتلا جميعاً . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا أحداً إلا من قاتلهم ، إلا في نفر سماهم أمر بقتلهم ، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة . منهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتد مشركاً ، ففر إلى عثمان ، وكان أخاه من الرضاعة ، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة ، فاستأمن به . وعبد الله بن خطل ، كان رجلاً من بني تميم بن غالب ، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وكان له مولى يخدمه وكان مسلماً ، فنزل منزلاً وأمر المولى أن يذبح له تيساً ويصنع له طعاماً ، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركاً ، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقتلهما معه . والحويرث بن نقيد بن وهب ، كان ممن يؤذيه بمكة . ومقيس بن صبابة ، وإنما أمر بقتله ، لقلته الأنصاري الذي قتل أخاه خطأً ورجوعه إلى قريش مرتداً . وسارة ، مولاة كانت لبعض بني المطلب كانت ممن يؤذيه بمكة . وعكرمة بن أبي جهل ، فأما عكرمة فهرب إلى اليمن ، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه ، فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم . وأما عبد الله بن خطل ، فقتله سعد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي ، اشتركا في دمه . وأما مقيس بن صبابة ، فقتله نميلة بن عبد الله ، رجل من قومه . وأما قينتا ابن خطل ، فقتلت إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمنها . وأما سارة ، فتغيبت حتى استؤمن لها فأمنها ، فعاشت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها . وأما الحويرث بن نقيذ ، فقتله علي بن أبي طالب . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف قائماً على باب الكعبة وقال : لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إن كل مأثرة أو دم أو مال في الجاهلية يدعى فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم خلق من تراب ، ثم تلا : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى }( الحجرات ، 13 ) الآية ، يا أهل مكة ، ماذا ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة ، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء . ثم اجتمع الناس للبيعة ، فجلس لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس ، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا ، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء . قال عروة بن الزبير : خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن الجمحي : يا نبي الله ، إن صفوان بن أمية سيد قومه ، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو آمن ، قال : يا رسول الله أعطني شيئاً يعرف به أمانك ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة ، وهو يريد أن يركب البحر ، فقال : يا صفوان ، فداك أبي وأمي أذكرك الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ، فقال : ويلك ، اغرب عني فلا تكلمني ، قال : أي صفوان فداك أبي وأمي ، أفضل الناس ، وأبر الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، ابن عمتك عزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك . قال : إني أخافه على نفسي ، قال : هو أحلم من ذلك وأكرم ، فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك أمنتني ؟ قال : " صدق ، قال : فاجعلني في أمري بالخيار شهرين ، قال : " أنت فيه بالخيار أربعة أشهر " . قال ابن إسحاق : وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف ، وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة . ثم خرج إلى هوازن وثقيف ، وقد نزلوا حنينا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا شيبان ، عن يحيى بن سلمة ، عن أبي هريرة ، أن خزاعة قتلوا رجلاً . وقال محمد بن إسماعيل : قال عبد الله بن رجاء : حدثنا حرب ، عن يحيى ، حدثنا أبو سلمة ، أنبأنا أبو هريرة أنه قال : " إنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلاً من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليهم رسوله والمؤمنين . ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد من بعدي ، ألا وإنها لي ساعةً من نهار ، ألا وإنها ساعتي هذه ، حرام لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ، ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما يودوا وإما يقادوا " . فقام رجل من أهل اليمن -يقال له : أبو شاه- فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اكتبوا لأبي شاه " . ثم قام رجل من قريش فقال : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا الإذخر " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي النضر -مولى عمر بن عبيد الله- أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول : " ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، فوجدته يغتسل ، وفاطمة ابنته تستره بثوب ، قالت : فسلمت ، فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا أم هانئ بنت أبي طالب ، قال : مرحباً بأم هانئ ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد ، ثم انصرف فقلت له : يا رسول الله ، زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلاً أجرته ، فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " ، وذلك ضحىً . قوله عز وجل : { إذا جاء نصر الله } يا محمد ، على من عاداك وهم قريش ، { والفتح } فتح مكة .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }
في هذه السورة الكريمة ، بشارة وأمر لرسوله عند حصولها ، وإشارة وتنبيه على ما يترتب على ذلك .
1- سورة " النصر " تسمى –أيضاً- سورة : [ إذا جاء نصر الله والفتح ] ، وتسمى سورة " التوديع " ، وهي من السور المدنية ، قيل : نزلت عند منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر ، وقيل : نزلت بمنى في أيام التشريق ، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وقيل : نزلت عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين .
وكان نزولها بعد سورة " الحشر " ، وقبل سورة " النور " ، وهي ثلاث آيات .
2- وقد تضافرت الأخبار رواية وتأويلا على أن هذه السورة تومئ إلى قرب نهاية أجل النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الآثار في هذا المعنى ، منها ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة [ إذا جاء نصر الله والفتح ] ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال : " قد نُعِيتْ إليَّ نفْسِي " ، فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : " اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي " فضحكت .
وأخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : كان عمر –رضي الله عنه- يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم قد وَجَد في نفسه – أي : تغير وغضب- وقال : لماذا يَدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم . . فقال : ما تقولون في قوله –تعالى- ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ، فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره ، إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فقال . . عمر : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له . . . فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول .
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة نزلت من القرآن هذه السورة( {[1]} ) .
والسورة الكريمة وعد منه –تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر والفتح ، وبشارة بدخول أفواج الناس في دين الله ، وأمر منه –سبحانه- بالمواظبة على حمده واستغفاره .
النصر : التغلب على العدو ، والإِعانة على بلوغ الغاية ، ومنه قولهم : قد نصر الغيث الأرض ، أي : أعان على إظهار نباتها .
والمراد به هنا : إعانة الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه ، حتى حقق له النصر عليهم .
والفتح : يطلق على فتح البلاد عَنْوَةً والتغلب على أهلها ، ويطلق على الفصل والحكم بين الناس ، ومنه قوله - تعالى - : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } والمراد به : هنا فتح مكة . وما ترتب عليه من إعزاز الدين ، وإظهار كلمة الحق .
قال الإِمام ابن كثير : والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم - أي : تنتظر - بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا فى دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت - أي : اجتمعت - جزيرة العرب على الإِيمان ، ولم يبق فى سائر قبائل العرب إلا مظهر للإِسلام ، ولله الحمد والمنة .
هذه السورة الصغيرة . . كما تحمل البشرى لرسول الله [ ص ] بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ؛ وكما توجهه [ ص ] حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .
كما تحمل إلى الرسول [ ص ] البشرى والتوجيه . . تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج ، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص ، والانطلاق والتحرر . . هذه القمة السامقة الوضيئة ، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام . ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم .
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية إلامام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله [ ص ] يكثر في آخر أمره من قوله : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه " وقال : " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ؛ فقد رأيتها " . . ( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . .
[ ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص ] . .
وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة . قولا واحدا . فإن أحياء العرب كانت تتلوم [ أي تنتظر ] بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله [ ص ] وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي . . . " الحديث " . .
فهذه الرواية هي التي تتفق مع ظاهر النص في السورة : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . الخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك ، مع توجيه النبي [ ص ] إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة .
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس ؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها .
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ? فقال عمر : إنه ممن قد علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم . فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل : ( إذا جاء نصر الله والفتح )? فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئا . فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس ? " فقلت لا . فقال : ما تقول ? فقلت : هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . قال : ( إذا جاء نصر الله والفتح )فذلك علامة أجلك( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول [ تفرد به البخاري ] .
فلا يمتنع أن يكون الرسول [ ص ] حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريبا . فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . . الخ . .
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي - بإسناده - عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . دعا رسول الله [ ص ] فاطمة وقال : " إنه قد نعيت إلي نفسي " فبكت . ثم ضحكت . وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : " اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي " فضحكت .
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة . فكأنها نزلت والعلامة حاضرة . أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق . فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله [ ص ] أنه أجله . . إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني . وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه . . عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : " دعا رسول الله [ ص ] فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت . قالت : فلما توفي رسول الله [ ص ] سألتها عن بكائها وضحكها . قالت : أخبرني رسول الله [ ص ] أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران . فضحكت . . " [ أخرجه الترمذي ] .
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه . من أنه كانت هناك علامة بين الرسول [ ص ] وربه هي : ( إذا جاء نصر الله والفتح . . )فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها .
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة . . فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير :
( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره ، إنه كان توابا ) . . .
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول [ ص ] ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله . . . ) . . فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لإشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء . .
بسم الله الرحمن الرحيم { إذا جاء نصر الله } إظهاره إياك على أعدائك { والفتح } فتح مكة ، وقيل : المراد جنس نصر الله المؤمنين ، وفتح مكة وسائر البلاد عليهم ، وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزا للإشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها ، فتقرب منها شيئا فشيئا ، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقبا لوروده ، مستعدا لشكره .
سميت هذه السورة في كلام السلف { سورة إذا جاء نصر الله والفتح } . روى البخاري إن عائشة قالت : لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح الحديث .
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير { سورة النصر } لذكر نصر الله فيها ، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا .
وهي معنونة في جامع الترمذي { سورة الفتح } لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في الإتقان لما فيها من الإيماء إلى وداعه صلى الله عليه وسلم اه . يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة .
واختلف في وقت نزولها فقيل نزلت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر أي في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء نصر أهل اليمن فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن? قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية اه ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر .
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة وعليه فالفتح مستقبل دخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال { إذا } ويحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة .
وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين .
وقال الواحدي عن ابن عباس نزلت منصرفه من حنين ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا ، وهو في سنة الوفود سنة تسع ، وعليه تكون { إذا } مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين .
وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق أي عام حجة الوداع . وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى ابن عبيدة وهو ضعيف . وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون { إذا } مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا .
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف .
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري ، هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال { إذا جاء نصر الله والفتح } وذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره } .
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال : أنه قد نعيت إلى نفسي فبكت الخ ، فإن قوله لما نزلت مدرج من الراوي ، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن .
وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور ، وقال نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور . وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر .
وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى .
وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات ، وأقصر من سورة العصر . وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات . وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب { رض } فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن { إنا أعطيناك الكوثر } و{ إذا جاء نصر الله والفتح } .
والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر كما قال ابن أحد قوليه .
والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآخرة .
ووعدوه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } .
{ إذا } اسم زمان مبهم يتعين مقدارهُ بمضمون جملةٍ يضاف إليها هو . ف { إذا } اسمُ زمان مطلق ، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالباً . ولذلك يضمَّن معنى الشرط غالباً ، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالباً لإفادة التحقق ، وقد يكون مضارعاً كقوله تعالى : { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } [ الشورى : 29 ] .
ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي ، ولا تضمن { إذا } معنى الشرط حينئذ وإنما هي لمجرد الإِخبار دون قصد تعليق نحو : { وإذَا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] .
و { إذا } هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء في قوله : { فسبح بحمد ربك } وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت .
والنصر : الإِعانة على العدوّ . ونصر الله يعقبه التغلب على العدو . و{ الفتح } : امتلاك بلد العدوّ وأرضِه لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى : { ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } [ المائدة : 23 ] ، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأَرضين التي لها شعاب وثغور قال لبيد :
وأَجَنَّ عوراتِ الثغور ظَلاَمُها
وقد فتح المسلمون خيْبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد ، وهو المعهود في قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك اللَّه نصراً عزيزاً } [ الفتح : 1 3 ] .
فإضافة { نصر } إلى { اللَّه } تشعر بتعظيم هذا النصر وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها .
و { جاء } مستعمل في معنى : حصَل وتحقق مجازاً .
والتعريف في « الفتح » للعهد وقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم به غير مرة من ذلك قوله تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } [ القصص : 85 ] وقوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } [ الفتح : 27 ] . وهذه الآية نزلت عام الحديبية وذلك قبل نزول سورة { إذا جاء نصر الله } على جميع الأقوال .
وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمَن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور ، يعنون الحصون . وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد به وأهل مَكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبي صلى الله عليه وسلم ويتلومون بدخولهم في الإِسلام فتحَ مكة يقولون : إنْ ظهر محمد على قومه فهو نبيء .
وتكرر أنْ صَدَّ بعضُهم بعضاً ممن يريد اتباع الاسلام عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإِسلام أو غلب الشرك .
أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال : « لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دَعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبيء » .
وعن الحسن : لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس لنا به يَدانِ فكانوا يدخلون في الإِسلام أفواجاً . فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها .
ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإِسلام وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإِسلام سنة الوفود .
وعلى ما روي عن ابن عمر : « أنها نزلت في حجة الوداع » يكون تعليق جملة : { فسبح بحمد ربك } على الشرط الماضي مراداً به التذكير بأنه حصل ، أي إذا تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإِسلام بلادَ العرب فسبح بحمد ربك ، وهو مراد مَن قال من المفسرين { إذا } بمعنى ( قد ) ، فهو تفسير حاصل المعنى ، وليست { إذا } مما يأتي بمعنى ( قد ) .