مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النصر

{ بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء نصر الله } في الآية لطائف :

إحداها : أنه تعالى لما وعد محمدا بالتربية العظيمة بقوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وقوله : { إنا أعطيناك الكوثر } لا جرم كان يزداد كل يوم أمره ، كأنه تعالى قال : يا محمد لم يضيق قلبك ، ألست حين لم تكن مبعوثا لم أضيعك بل نصرتك بالطير الأبابيل ، وفي أول الرسالة زدت فجعلت الطير ملائكة ألن يكفيكم { أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف } ثم الآن أزيد فأقول إني أكون ناصرا لك بذاتي : { إذا جاء نصر الله } فقال : إلهي إنما تتم النعمة إذا فتحت لي دار مولدي ومسكني فقال : { والفتح } فقال : إلهي لكن القوم إذا خرجوا ، فأي لذة في ذلك فقال : { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ثم كأنه قال : هل تعلم يا محمد بأي سبب وجدت هذه التشريفات الثلاثة إنما وجدتها لأنك قلت في السورة المتقدمة : { يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } وهذا يشتمل على أمور ثلاثة ( أولها ) : نصرتني بلسانك فكان جزاؤه : { إذا جاء نصر الله } ( وثانيها ) : فتحت مكة قلبك بعسكر التوحيد فأعطيناك فتح مكة وهو المراد من قوله ، { والفتح } ( والثالث ) : أدخلت رعية جوارحك وأعضائك في طاعتي وعبوديتي فأنا أيضا أدخلت عبادي في طاعتك ، وهو المراد من قوله : { يدخلون في دين الله أفواجا } ثم إنك بعد أن وجدت هذه الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أنواع من العبودية تهادوا تحابوا ، إن نصرتك فسبح ، وإن فتحت مكة فاحمد وإن أسلموا فاستغفر ، وإنما وضع في مقابلة : { نصر الله } تسبيحه ، لأن التسبيح هو تنزيه الله عن مشابهة المحدثات ، يعني تشاهد أنه نصرك ، فإياك أن تظن أنه إنما نصرك لأنك تستحق منه ذلك النصر ، بل اعتقد كونه منزها عن أن يستحق عليه أحد من الخلق شيئا ، ثم جعل في مقابل فتح مكة الحمد لأن النعمة لا يمكن أن تقابل إلا بالحمد ، ثم جعل في مقابلة دخول الناس في الدين الاستغفار وهو المراد من قوله : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } أي كثرة الأتباع مما يشغل القلب بلذة الجاه والقبول ، فاستغفر لهذا القدر من ذنبك ، واستغفر لذنبهم فإنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر فكان احتياجهم إلى استغفارك أكثر ( الوجه الثاني ) : أنه عليه السلام لما تبرأ عن الكفر وواجههم بالسوء في قوله : { يا أيها الكافرون } كأنه خاف بعض القوم فقلل من تلك الخشونة فقال : { لكم دينكم ولي دين } فقيل : يا محمد لا تخف فإني لا أذهب بك إلى النصر بل أجيء بالنصر إليك : { إذا جاء نصر الله } نظيره : «زويت لي الأرض » يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك ، فإن سئمت المقام وأردت الرحلة ، فمثلك لا يرتحل إلا إلى قاب قوسين : { سبحان الذي أسرى بعبده } بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا فإذا بقي الفقير من غير مطية أسوق الجنة إليه : { وأزلفت الجنة للمتقين } ( الوجه الثالث ) كأنه سبحانه قال : يا محمد إن الدنيا لا يصفو كدرها ولا تدوم محنها ولا نعيمها فرحت بالكوثر فتحمل مشقة سفاهة السفهاء حيث قالوا : اعبد آلهتنا حتى نعبد إلهك فلما تبرأ عنهم وضاق قلبه من جهتهم قال : أبشر فقد جاء نصر الله فلما استبشر قال : الرحيل الرحيل أما علمت أنه لا بد بعد الكمال من الزوال ، فاستغفره أيها الإنسان لا تحزن من جوع الربيع فعقيبه غنى الخريف ولا تفرح بغنى الخريف فعقيبه وحشة الشتاء ، فكذا من تم إقباله لا يبقى له إلا الغير ومنه :

إذا تم أمر دنا نقصه *** توقع زوالا إذا قيل تم

إلهي لم فعلت كذلك قال : حتى لا نضع قلبك على الدنيا بل تكون أبدا على جناح الارتحال والسفر ( الوجه الرابع ) : لما قال في آخر السورة المتقدمة : { لكم دينكم ولي دين } فكأنه قال : إلهي وما جزائي فقال : نصر الله فيقول : وما جزاء عمي حين دعاني إلى عبادة الأصنام فقال : { تبت يدا أبي لهب } فإن قيل : فلم بدأ بالوعد قبل الوعيد ، قلنا : لوجوه ( أحدها ) : لأن رحمته سبقت غضبه ( والثاني ) : ليكن الجنس متصلا بالجنس فإنه قال : { ولي دين } وهو النصر كقوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم } ( وثالثها ) : الوفاء بالوعد أهم في الكرم من الوفاء بالانتقام ، فتأمل في هذه المجانسات الحاصلة بين هذه السور مع أن هذه السور مع أن هذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة وتلك السورة من أوائل ما نزل بمكة ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله وبأمره ( الوجه الخامس ) : أن في السورة المتقدمة لم يذكر شيئا من أسماء الله ، بل قال : ما أعبد بلفظ ما ، كأنه قال : لا أذكر اسم الله حتى لا يستخفوا فتزداد عقوبتهم ، وفي هذه السورة ذكر أعظم أساميه لأنها منزلة على الأحباب ليكون ثوابهم بقراءته أعظم فكأنه سبحانه قال لا تذكر اسمي مع الكافرين حتى لا يهينوه واذكره مع الأولياء حتى يكرموه ( الوجه السادس ) قال النحويون : { إذا } منصوب بسبح ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله ، كأنه سبحانه يقول : جعلت الوقت ظرفا لما تريده وهو النصر والفتح والظفر . وملأت ذلك الظرف من هذه الأشياء ، وبعثته إليك فلا ترده علي فارغا ، بل املأه من العبودية ليتحقق معنى : «تهادوا تحابوا » فكأن محمدا عليه السلام قال : بأي شيء أملأ ظرف هديتك وأنا فقير ، فيقول الله في المعنى : إن لم تجد شيئا آخر فلا أقل من تحريك اللسان بالتسبيح والحمد والاستغفار ، فلما فعل محمد عليه الصلاة والسلام ذلك حصل معنى تهادوا ، لا جرم حصلت المحبة ، فلهذا كان محمد حبيب الله ( الوجه السابع ) كأنه تعالى يقول : إذا جاءك النصر والفتح ودخول الناس في دينك ، فاشتغل أنت أيضا بالتسبيح والحمد والاستغفار ، فإني قلت : { لئن شكرتم لأزيدنكم } فيصير اشتغالك بهذه الطاعات سببا لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة ، ولا تزال تكون في الترقي حتى يصير الوعد بقولي : { إنا أعطيناك الكوثر } ( الوجه الثامن ) : أن الإيمان إنما يتم بأمرين : بالنفي والإثبات وبالبراءة والولاية ، فالنفي والبراءة قوله : { لا أعبد ما تعبدون } والإثبات والولاية قوله : { إذا جاء نصر الله } فهذه هي الوجوه الكلية المتعلقة بهذه السورة .

واعلم أن في الآية أسرارا ، وإنما يمكن بيانها في معرض السؤال والجواب .

السؤال الأول : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف الفتح على النصر ؟ ( الجواب ) من وجوه ( أحدها ) : النصر هو الإعانة على تحصيل المطلوب ، والفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا ، وظاهر أن النصر كالسبب الفتح ، فلهذا بدأ يذكر النصر وعطف الفتح عليه ( وثانيها ) : يحتمل أن يقال النصر كمال الدين ، والفتح الإقبال الدنيوي الذي هو تمام النعمة ، ونظير هذه الآية قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } ( وثالثها ) : النصر هو الظفر في الدنيا على المنى ، والفتح بالجنة ، كما قال : { وفتحت أبوابها } وأظهر الأقوال في النصر أنه الغلبة على قريش أو على جميع العرب .

السؤال الثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبدا منصورا بالدلائل والمعجزات ، فما المعنى من تخصيص لفظ النصر بفتح مكة ؟ ( والجواب ) من وجهين ( أحدهما ) : المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع ، إنما جعل فظ النصر المطلق دالا على هذا النصر المخصوص ، لأن هذا النصر لعظم موقعه من قلوب أهل الدنيا جعل ما قبله كالمعدوم ، كما أن المثاب عند دخول الجنة يتصور كأنه لم يذق نعمة قط ، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى : { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } ( وثانيهما ) : لعل المراد نصر الله في أمور الدنيا الذي حكم به لأنبيائه كقوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } .

السؤال الثالث : النصر لا يكون إلا من الله ، قال تعالى : { وما النصر إلا من عند الله } فما الفائدة في هذا التقييد وهو قوله : { نصر الله } ؟ والجواب معناه نصر لا يليق إلا بالله ولا يليق أن يفعله إلا الله أو لا يليق إلا بحكمته ويقال : هذا صنعة زيد إذا كان زيد مشهورا بإحكام الصنعة ، والمراد منه تعظيم حال تلك الصنعة ، فكذا ههنا ، أو نصر الله لأنه إجابة لدعائهم : { متى نصر الله } فيقول هذا الذي سألتموه .

السؤال الرابع : وصف النصر بالمجيء مجاز وحقيقته إذا وقع نصر الله فما الفائدة في ترك الحقيقة وذكر المجاز ؟ الجواب فيه إشارات : ( إحداها ) أن الأمور مربوطة بأوقاتها وأنه سبحانه قدر لحدوث كل حادث أسبابا معينة وأوقاتا مقدرة يستحيل فيها التقدم والتأخر والتغير والتبدل فإذا حضر ذلك الوقت وجاء ذلك الزمان حضر معه ذلك الأثر وإليه الإشارة بقوله : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } ، ( وثانيها ) : أن اللفظ دل على أن النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن ذلك النصر كان مستحقا له بحكم الوعد فالمقتضى كان موجودا إلا أن تخلف الأثر كان لفقدان الشرط فكان كالثقيل المعلق فإن ثقله يوجب الهوى إلا أن العلاقة مانعة فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى ، فكذا ههنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلم ( وثالثها ) : أن عالم العدم عالم لا نهاية له وهو عالم الظلمات إلا أن في قعرها ينبوع الجود والرحمة وهو ينبوع جود الله وإيجاده ، ثم انشعبت بحار الجود والأنوار وأخذت في السيلان ، وسيلانها يقتضي في كل حين وصولها إلى موضع ومكان معين فبحار رحمة الله ونصرته كانت آخذة في السيلان من الأزل فكأنه قيل : يا محمد قرب وصولها إليك ومجيئها إليك فإذا جاءتك أمواج هذا البحر فاشتغل بالتسبيح والتحميد والاستغفار فهذه الثلاثة هي السفينة التي لا يمكن الخلاص من بحار الربوبية إلا بها ، ولهذا السبب لما ركب أبوك نوح بحر القهر والكبرياء استعان بقوله : { بسم الله مجراها ومرساها } .

السؤال الخامس : لا شك أن الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ثم إنه سمى نصرتهم لرسول الله : { نصر الله } فما السبب في أن صار الفعل الصادر عنهم مضافا إلى الله ؟ ( الجواب ) : هذا بحر يتفجر منه بحر سر القضاء والقدر ، وذلك لأن فعلهم فعل الله ، وتقريره أن أفعالهم مسندة إلى ما في قلوبهم من الدواعي والصوارف ، وتلك الدواعي والصوارف أمور حادثة فلابد لها من محدث وليس هو العبد ، وإلا لزم التسلسل ، فلابد وأن يكون الله تعالى ، فيكون المبدأ الأول والمؤثر الأبعد هو الله تعالى ، ويكون المبدأ الأقرب هو العبد . فمن هذا الاعتبار صارت النصرة المضافة إلى الصحابة بعينها مضافة إلى الله تعالى ، فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد مفرعا على فعل الله تعالى ، وهذا يخالف النص ، لأنه قال : { إن تنصروا الله ينصركم } فجعل نصرنا له مقدما على نصره لنا ( والجواب ) : أنه لا امتناع في أن يصدر عن الحق فعل ، فيصير ذلك سببا لصدور فعل عنا ، ثم الفعل عنا ينساق إلى فعل آخر يصدر عن الرب ، فإن أسباب الحوادث ومسبباتها متسلسلة على ترتيب عجيب يعجز عن إدراك كيفيته أكثر العقول البشرية .

السؤال السادس : كلمة : { إذا } للمستقبل ، فههنا لما ذكر وعدا مستقبلا بالنصر ، قال : { إذا جاء نصر الله } فذكر ذاته باسم الله ، ولما ذكر النصر الماضي حين قال : { ولئن جاء نصر من ربك ليقولن } فذكره بلفظ الرب ، فما السبب في ذلك ؟ ( الجواب ) : لأنه تعالى بعد وجود الفعل صار ربا ، وقبله ما كان ربا لكن كان إلها .

السؤال السابع : أنه تعالى قال : { إن تنصروا الله ينصركم } وإن محمدا عليه السلام نصر الله حين قال : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } فكان واجبا بحكم هذا الوعد أن ينصره الله ، فلا جرم قال : { إذا جاء نصر الله } فهل تقول بأن هذا النصر كان واجبا عليه ؟ ( الجواب ) : أن ما ليس بواجب قد يصير واجبا بالوعد ، ولهذا قيل : وعد الكريم ألزم من دين الغريم ، كيف ويجب على الوالد نصرة ولده ، وعلى المولى نصرة عبده ، بل يجب النصر على الأجنبي إذا تعين بأن كان واحدا اتفاقا ، وإن كان مشغولا بصلاة نفسه ، ثم اجتمعت هذه الأسباب في حقه تعالى فوعده مع الكرم وهو أرأف بعبده من الوالد بولده والمولى بعبده وهو ولي بحسب الملك ومولى بحسب السلطنة ، وقيوم للتدبير وواحد فرد لا ثاني له فوجب عليه وجوب الكرم نصرة عبده ، فلهذا قال : { إذا جاء نصر الله } .

أما قوله تعالى : { والفتح } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : نقل عن ابن عباس أن الفتح هو فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له : فتح الفتوح . روي أنه لما كان صلح الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار بعض من كان في عهد قريش على خزاعة وكانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء سفير ذلك القوم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليه ، ثم قال : " أما إن هذا العارض ليخبرني أن الظفر يجيء من الله " ، ثم قال لأصحابه : أنظروا فإن أبا سفيان يجيء ويلتمس أن يجدد العهد فلم تمض ساعة أن جاء الرجل ملتمسا لذلك فلم يجبه الرسول ولا أكابر الصحابة فالتجأ إلى فاطمة فلم ينفعه ذلك ورجع إلى مكة آيسا وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسير لمكة ، ثم يروى أن سارة مولاة بعض بني هاشم أتت المدينة فقال عليه السلام لها : جئت مسلمة ؟ قالت : لا لكن كنتم الموالي وبي حاجة ، فحث عليها رسول الله بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بعشرة دنانير واستحملها كتابا إلى مكة نسخته : اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام وعمارا في جماعة وأمرهم أن يأخذوا الكتاب وإلا فاضربوا عنقها ، فلما أدركوها جحدت وحلفت فسل علي عليه السلام سيفه ، وقال : الله ما كذبنا فأخرجته من عقيصة شعرها ، واستحضر النبي حاطبا وقال : ما حملك عليه ؟ فقال : والله ما كفرت منذ أسلمت ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، لكن كنت غريبا في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر ، ثم خرج رسول الله إلى أن نزل بمر الظهران ، وقدم العباس وأبو سفيان إليه فاستأذنا فأذن لعمه خاصة فقال أبو سفيان : إما أن تأذن لي وإلا أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعا وعطشا فرق قلبه ، فأذن له وقال له : ألم يأن أن تسلم وتوحد ؟ فقال : أظن أنه واحد ، ولو كان ههنا غير الله لنصرنا ، فقال : ألم يأن أن تعرف أني رسوله ؟ فقال : إن لي شكا في ذلك ، فقال العباس : أسلم قبل أن يقتلك عمر ، فقال : وماذا أصنع بالعزى ، فقال عمر : لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك ، فقال : يا محمد أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش وتصالح قومك وعشيرتك ، فسكان مكة عشيرتك وأقارب ، و[ لا ] تعرضهم للشن والغارة ، فقال عليه السلام : هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي ، وأهل مكة أخرجوني وظلموني ، فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم ، وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر ، فكانت الكتيبة تمر عليه ، فيقول من هذا ؟ فيقول العباس هو فلان من أمراء الجند إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلا الحدق ، فسأل عنهم ، فقال العباس : هذا رسول الله ، فقال : لقد أوتي ابن أخيك ملكا عظيما ، فقال العباس : هو النبوة ، فقال هيهات النبوة ، ثم تقدم ودخل مكة ، وقال : إن محمدا جاء بعسكر لا يطيقه أحد ، فصاحت هند وقالت : اقتلوا هذا المبشر ، وأخذت بلحيته فصاح الرجل ودفعها عن نفسه ، ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر ، وكانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعا شديدا وسأل العباس ، فأخبره بأمر الصلاة ، ودخل رسول الله مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعا وشكرا ، ثم التمس أبو سفيان الأمان ، فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقال : ومن تسع داري ، فقال : ومن دخل المسجد فهو آمن فقال : ومن يسع المسجد ؟ فقال : من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب المسجد ، وقال : لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم قال : يا أهل مكة ما ترون إني فاعل بكم ، فقالوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء فأعتقهم ، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ومن ذلك كان علي عليه السلام يقول لمعاوية : أنى يستوي المولى والمعتق يعني أعتقناكم حين مكننا الله من رقابكم ولم يقل : اذهبوا فأنتم معتقون ، بل قال : الطلقاء ، لأن المعتق يجوز أن يرد إلى الرق ، والمطلقة يجوز أن تعاد إلى رق النكاح وكانوا بعد على الكفر ، فكان يجوز أن يخونوا فيستباح رقهم مرة أخرى ولأن الطلاق يخص النسوان ، وقد ألقوا السلاح وأخذوا المساكن كالنسوان ، ولأن المعتق يخلى سبيله يذهب حيث شاء ، والمطلقة تجلس في البيت للعدة ، وهم أمروا بالجلوس بمكة كالنسوان ، ثم إن القوم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فصاروا يدخلون في دين الله أفواجا ، روي أنه عليه السلام صلى ثمان ركعات : أربعة صلاة الضحى ، وأربعة أخرى شكرا لله نافلة ، فهذه هي قصة فتح مكة » والمشهور عند المفسرين أن المراد من الفتح في هذه السورة هو فتح مكة ، ومما يدل على أن المراد بالفتح فتح مكة أنه تعالى ذكره مقرونا بالنصر . وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر ، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير ، فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم ، أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح ، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم ( القول الثاني ) : أن المراد فتح خيبر ، وكان ذلك على يد علي عليه السلام ، والقصة مشهورة ، روي أنه استصحب خالد بن الوليد ، وكان يساميه في الشجاعة ، فلما نصب السلم قال لخالد : أتتقدم ؟ قال : لا ، فلما تقدم علي عليه السلام سأله كم صعدت ؟ فقال : لا أدري لشدة الخوف ، وروي أنه قال لعلي عليه السلام : ألا تصارعني ، فقال : ألست صرعتك ؟ فقال : نعم لكن ذاك قبل إسلامي ، ولعل عليا عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه علي ، أو كان علي يقول صرعتك حين كنت كافرا ، أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك ( القول الثالث ) : أنه فتح الطائف وقصته طويلة ( والقول الرابع ) : المراد النصر على الكفار ، وفتح بلاد الشرك على الإطلاق ، وهو قول أبي مسلم ( والقول الخامس ) : أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم ، ومنه قوله : { وقل رب زدني علما } لكن حصول العلم لابد وأن يكون مسبوقا بانشراح الصدر وصفاء القلب ، وذلك هو المراد من قوله : { إذا جاء نصر الله } ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات ، والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات .

المسألة الثانية : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان : ( أحدهما ) أن فتح مكة كان سنة ثمان ، ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما ، ولذلك سميت سورة التوديع ( والقول الثاني ) : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه ، ونظيره قوله تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } وقوله : { إذا جاء نصر الله والفتح } يقتضي الاستقبال ، إذ لا يقال فيما وقع : إذا جاء وإذا وقع ، وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له ، والإخبار عن الغيب معجز ( فإن قيل ) : لم ذكر النصر مضافا إلى الله تعالى ، وذكر الفتح بالألف واللام ؟ ( الجواب ) : الألف واللام للمعهود السابق ، فينصرف إلى فتح مكة .