( وهي مكية ، وقيل : مدنية ، وهي أربع آيات ، وخمس عشرة كلمة ، وسبعة وأربعون حرفا )
عزّ وجلّ : { إذا جاء نصر الله والفتح } يعني فتح مكة ، وكانت قصة الفتح على ما ذكره محمد بن إسحاق ، وأصحاب الأخبار " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً عام الحديبية اصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشرين سنة ، وقيل : عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه . فدخلت بنو بكر في عهد قريش ، ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان بينهما شر قديم ، ثم إن بني بكر عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم أسفل مكة يقال له : الوتير ، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدئل من بني بكر حين بقيت خزاعة على الوتير ، فأصابوا منهم رجلاً ، وتحاوروا واقتتلوا ، وردفت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفياً حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم بكر بن صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو مع عبيدهم ، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر : يا نوفل إنا قد دخلنا إلى إلهك ، فقال كلمة عظيمة : إنه لا إله اليوم يا بني بكر ، أصيبوا ثأركم ، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟ قال : فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة ، وكانوا في عقده ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ذلك مما أهاج فتح مكة ، فوقف عليه -وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس- فقال :
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتمو ولداً وكنا والدا *** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا *** إن سيم خسفاً وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا *** إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا *** وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا *** وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد نصرت يا عمرو بن سالم . ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء ، فقال : إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب " ، وهم رهط عمرو بن سالم ، ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : " كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشدد في العقد ، ويزيد في المدة " ، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدد في العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهبوا من الذي صنعوا ، فلما لقي أبو سفيان بديلاً قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : سرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفي بطن هذا الوادي . قال : وهل أتيت محمداً ؟ قال : لا ، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف منها النوى ، فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً ، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ، فقال : أي بنية ، أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عني ؟ فقالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس لم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر . ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب ، فكلمه فقال : أنا لا أشفع لك إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندها الحسن بن علي غلاماً يدب بين يديها ، فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحماً ، وأقربهم مني قرابة ، وقد جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائباً ، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويحك يا أبا سفيان ، لقد أرى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه . فالتفت إلى فاطمة وقال : يا بنت محمد ، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر . فقالت : والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ ، فانصحني ، قال : والله لا أعلم شيئاً يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال : وترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال : لا والله ، ما أظن ذلك ، ولكن لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره ، فانطلق ، فلما قدم على قريش قالوا : ما رواءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد عنده خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم ، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم ، وقد أشار عليّ بشيء صنعته ، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت . قالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلك ، والله ما زاد على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت ؟ قال : لا ، والله ما وجدت غير ذلك . قال : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة ، وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي بنية ، أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه ، قالت : نعم . قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : لا والله ، ما أدري ؟ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال : اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها-فتجهز الناس ، وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدمت قصته في تفسير سورة الممتحنة- ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامداً إلى مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة ، فصام النبي صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر ، ثم مضى حتى نزل بمر الظّهران في عشرة آلاف من المسلمين . ولم يتخلف من الأنصار والمهاجرين عنه أحد ، فلما نزل بمر الظّهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، ولا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يدرون ما هو فاعل ، خرج في تلك اللّيالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، يتجسسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً ، أو يسمعون به ، وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق . قال ابن هشام : لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله ، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض ، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظّهران قال العباس بن عبد المطلب ليلتئذ : وا صباح قريش ، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه الهلاك لقريش إلى آخر الدهر . قال : فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد حاطباً ، أو صاحب لبن ، أو ذا حاجة يدخل مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة . قال العباس : فوالله إني لأسير عليها ، وألتمس ما خرجت له ، إذ سمعت كلام أبي سفيان ، وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيراناً قط . فقال بديل : هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب ، فقال أبو سفيان : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها ، فعرفت صوته فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال : يا أبا الفضل ، فقلت : نعم . قال : ما لك فداك أبي وأمي . قلت : ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين . قال : وما الحيلة ؟ قلت : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك ، فردفني ، ورجع صاحباه ، فخرجت أركض به على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلما مررت بنار من نيران المسلمين ينظرون إليّ ، ويقولون : عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب ، فقال : من هذا ؟ فقام إليّ ، فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة ، قال : أبو سفيان عدو الله ، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء ، قال : فاقتحمت عن البغلة سريعاً ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه عمر فقال : يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني أضرب عنقه . قال : فقلت : يا رسول الله إني قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت برأسه ، وقلت : والله لا ينجيك الليلة أحد دوني ، فلما أكثر عمر في شأنه ، قلت : مهلاً يا عمر . فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف ، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، فقال : مهلاً يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما ذاك إلا لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فائتني به . قال : فذهبت به إلى رحلي فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد ، قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك ، وأوصلك ، أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً . فقال العباس : ويحك ، أسلم واشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك ، فتشهد شهادة الحق ، وأسلم . قال العباس : فقلت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئاً . قال : " نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن " . فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عباس ، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله " . قال : فخرجت به حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه . قال : ومرت به القبائل على راياتها ، كلما مرت به قبيلة قال : من هؤلاء يا عباس ؟ فأقول : سليم ، فيقول : ما لي ولسليم ؟ ثم القبيلة فيقول : من هؤلاء ؟ فأقول : مزينة ؟ فيقول : ما لي ولمزينة ؟ حتى نفدت القبائل . لا تمر قبيلة إلا سألني عنها ، فإذا أخبرته عنها . فيقول : ما لي ، ولبني فلان ؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء ، وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد ، وظهوره فيها ، وفيها المهاجرون والأنصار ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، فقال : سبحان الله ، من هؤلاء يا عباس ؟ قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار . قال : ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً ، قلت : ويحك ، إنها النبوة ، قال : فنعم إذا ، فقلت : الحق الآن بقومك فحذرهم ، فخرج سريعاً حتى أتى مكة ، فصرخ في المسجد بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، قالوا : فمه . قال : قال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قالوا : ويحك ، وما تغني عنا دارك ؟ قال : من دخل المسجد ، فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن . فتفرق الناس إلى دورهم ، وإلى المسجد ، قال : وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما وبايعاه ، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام ، ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة بعث في أثرهما الزبير ، وأعطاه رايته ، وأمره على خيل المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحجون ، وقال : لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتيك ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقه عليه برد حبرة ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله عز وجل حين رأى ما أكرمه به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ، وضرب قبته بأعلى مكة ، وأمر خالد بن الوليد فيمن أسلم من قضاعة وبني سليم أن يدخلوا من أسفل مكة ، وبها بنو بكر ، وقد استنفرتهم قريش ، وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش ، أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة ، وأن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد والزبير حين بعثهما : " لا تقاتلا إلا من قاتلكما " ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى ، فقال سعد حين توجه داخلاً : اليوم يوم الملحمة ، اليوم يوم تستحل الحرمة . فسمعها رجل من المهاجرين -قيل : هو عمر بن الخطاب- فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اسمع ما قال سعد بن عبادة ، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : أدركه بهذه الراية ، فكن أنت الذي تدخن بها ، فلم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال ، وأما خالد بن الوليد ، فقدم على قريش وبني بكر ، والأحابيش بأسفل مكة ، فقاتلوه فهزمهم الله ، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك ، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلاً ، أو ثلاثة عشر رجلاً ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل من جهينة يقال له : سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد ، ورجلان يقال لهما : كرز بن جابر ، وخنيس بن خالد بن الوليد ، شذا وسلكا طريقاً غير طريقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفراً منهم سماهم أمر بقتلهم ، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإنما أمر بقتله ؛ لأنه كان قد أسلم فارتد مشركاً ففر إلى عثمان ، وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة ، فاستأمنه له ، وعبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب ، وإنما أمر بقتله ؛ لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وكان له مولى يخدمه ، وكان مسلماً ، فنزل منزلاً وأمر المولى أن يذبح له تيساً ، ويصنع له طعاماً ، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركاً ، وكان له قينتان يغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقتلهما معه ، والحويرث بن نقيد بن وهب ، وكان ممن يؤذيه بمكة ، ومقيس صبابة ، وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ ، ورجوعه إلى قريش مرتداً ، وسارة مولاة لبني عبد المطلب ، وكانت ممن يؤذيه بمكة ، وعكرمة بن أبي جهل ، فأما عكرمة فهرب إلى اليمن ، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه ، فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن الحارث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه ، وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه ، وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما ، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها ، وأما سارة فتغيبت حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاشت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها ، وأما الحويرث ابن نقيد فقتله علي بن أبي طالب . قالت أم هانئ : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليَّ رجلين من أحمائي من بني مخزوم ، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، قالت : فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي ، فقال : والله لأقتلنهما ، فأغلقت عليهما باب بيتي ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل من جفنة ، وإن فيها لأثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه ، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ، ثم صلى ثماني ركعات الضحى ، ثم انصرف إليّ ، فقال : مرحباً وأهلاً بأم هانئ ، ما جاء بك ؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي بن أبي طالب ، فقال : قد أجرنا من أجرت ، وأمنّا من أمنت ، فلا نقتلهما ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لما اطمأن الناس حتى جاء البيت فطاف به سبعاً على راحلته ، يستلم الركن بمحجن في يده ، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة ، وأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة ، وقد استكف له الناس في المسجد ، فقال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهي تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت ، وسقاية الحاج ، ألا قتل الخطأ شبه العمد بالسوط ، والعصا ، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها . يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية :{ يا أيّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] الآية . ثم قال : يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم . قال : فاذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وكان الله أمكنه منهم عنوة ، فبذلك سموا أهل مكة الطلقاء ، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه علي بن أبي طالب ، ومفتاح الكعبة بيده ، فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا بين الحجابة والسقاية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة ؟ فدعي له ، فقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم وفاء وبر ، قال : واجتمع الناس للبيعة ، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس . فبايعونه على السمع والطاعة فيما استطاعوا ، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء . قال عروة بن الزبير : خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب الجمحي : يا رسول الله ، إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هارباً منك ليقذف بنفسه في البحر ، فأمنه يا رسول الله ، فقال : هو آمن . قال : يا رسول الله ، أعطني شيئاً يعرف به أمانك ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة ، وهو يريد أن يركب البحر ، فقال : يا صفوان ، فداك أبي وأمي ، أذكرك الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتك به ؟ فقال : ويلك ، أغرب عني ، لا تكلمني . قال : فداك أبي وأمي ، أفضل الناس ، وأبر النّاس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، ابن عمتك عزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ، قال : إني أخافه على نفسي . قال : هو أحلم من ذلك ، وأكرم ، فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك آمنتني . قال : صدق ، قال : فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين . قال : أنت بالخيار أربعة أشهر . " قال ابن هشام : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ، ودخلها قام على الصّفا يدعو ، وقد أحدقت به الأنصار ، فقالوا فيما بينهم : أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه مكة أرضه وبلاده يقيم بها ؟ فلما فرغ من دعائه قال : ماذا قلتم ؟ قالوا : لا شيء يا رسول الله ، فلم يزل بهم حتى أخبروه .
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم : معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم " . قال ابن إسحاق : وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف ، وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة ، ثم خرج إلى هوازن وثقيف ، وقد نزلوا حنيناً . ( ق ) عن أبي هريرة " أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام الفتح بقتيل لهم في الجاهلية ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد من بعدي ، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ألا وإنها ساعتي هذه ، فلا ينفر صيدها ، ولا يختلى خلاها ، ولا يقطع شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يفتدي ، وإما أن يقيد . فقال العباس : إلا الإذخر ، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر . فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- فقال : اكتبوا لي يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي شاه . قال الأوزاعي : يعني الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
فقوله تعالى : { إذا جاء نصر الله } يعني إذا جاءك يا محمد نصر الله ، ومعونته على من عاداك وهم قريش .
ومعنى مجيء النصر أن جميع الأمور مرتبطة بأوقاتها يستحيل تقدمها عن وقتها أو تأخرها عنه ، فإذا جاء ذلك الوقت المعين حضر معه ذلك الأمر المقدر ، فلهذا المعنى قال { إذا جاء نصر الله والفتح } يعني فتح مكة في قول جمهور المفسرين . وقيل : هو جنس نصر الله المؤمنين ، وفتح بلاد الشرك عليهم على الإطلاق ، والفرق بين النصر والفتح أن النصر هو الإعانة والإظهار على الأعداء ، وهو تحصيل المطلوب ، وهو كالسبب للفتح . فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف عليه الفتح ، وقيل : النصر هو إكمال الدين وإظهاره ، والفتح هو الإقبال الذي هو تمام النعمة .