فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النصر

وتسمى سورة التوديع ، وهي ثلاث آيات ، وهي مدنية بالإجماع بلا خلاف . قال ابن عباس : أنزل بالمدينة ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . وعن ابن عمر قال : هذه السورة " نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أوسط أيام التشريق بمنى ، وهو في حجة الوداع { إذا جاء نصر الله والفتح } حتى ختمها ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنها الوداع " أخرجه البزار وأبو يعلى والبيهقي{[1]} .

وعن ابن عباس قال : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعيت إليّ نفسي " أخرجه أحمد وغيره ، وزاد ابن مردويه في لفظ : " وقرب إليّ أجلي " ، وفي لفظ : لما نزلت نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزلت ، فأخذ في أشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة .

وعن أم حبيبة قالت : " لما أنزل { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إن الله لم يبعث نبيا إلا عمر من أمته شطر ما عمر النبي الماضي قبله ، فإن عيسى بن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل ، وهذه لي عشرون سنة ، وأنا ميت في هذه السنة " ، فبكت فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " أنت أول أهلي بي لحوقا " فتبسمت " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه .

وعن ابن عباس قال : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة ، وقال : " إنه قد نعيت إليّ نفسي ، فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت . فقال : " اصبري ، فإنك أول أهلي لحاقا بي " فضحكت " أخرجه البيهقي{[2]} .

وقد تقدم في سورة الزلزلة أن هذه السورة تعدل ربع القرآن ، وهي آخر سورة نزلت جميعا .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ إذا جاء نصر الله } النصر العون ، مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ، ومنع من قحطها ، يقال : نصره على عدوه ينصره نصرا إذا أعانه ، والاسم النصرة ، واستنصره على عدوه إذا سأله أن ينصره عليه .

قال الواحدي : قال المفسرون : إذا جاءك يا محمد نصر الله على من عاداك وهم قريش ، وقيل : المراد نصره صلى الله عليه وآله وسلم على قريش من غير تعيين ، وقيل : نصره على من قاتله من الكفار ، وقيل : " إذا " بمعنى قد ، وقيل : بمعنى إذ ، ومعنى جاء حصل .

وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزا للإشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة فتقرب منها شيئا فشيئا ، وقد قرب النصر من وقته ، فكن مترقبا لوروده ، مستعدا لشكره ، قاله القاضي ، وهو استعارة تبعية ، لكن قول الراغب : المجيء الحصول ، ويكون في المعاني والأعيان ، يقتضي خلافه .

وفي الخطيب { جاء } بمعنى استقر وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل ، وإذا منصوبة بسبح الذي هو جوابها ، ونصر الله مصدر مضاف لفاعله ، ومفعوله محذوف ، أي نصره إياك والمؤمنين .

{ والفتح } أي فتح مكة ، وقيل : هو فتح سائر البلاد ، وقيل : هو ما فتح الله عليه من العلوم ، والأول أظهر ، والثاني أنسب ، والثالث أبعد .

عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله :{ إذا جاء نصر الله والفتح } فقالوا : فتح المدائن والقصور ، قال : فأنت يا ابن عباس ما تقول ؟ قال : قلت : مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، نعيت له نفسه .

وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، وكان بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من قد علمتم ، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل { إذا جاء نصر الله والفتح } فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذ نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أعلمه الله له ، قال :{ إذا جاء نصر الله والفتح } فذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول .

قال الرازي : الفرق بين النصر والفتح أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان منغلقا ، والنصر كالسبب للفتح ، فلهذا بدأ بذكر النصر ، وعطف عليه الفتح ، أو يقال : النصر كمال الدين ، والفتح : إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة ، أو يقال : النصر الظفر ، والفتح : الجنة ، هذا معنى كلامه ، ويقال : الأمر أوضح من هذا وأظهر ، فإن النصر هو التأييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم والاستعلاء عليهم ، والفتح هو فتح مساكن الأعداء ، ودخول منازلهم .


[1]:ثم بفتح الثاء أي هناك.
[2]:- أين هذا الحديث: من رواه؟ من أخرجه؟ لم نجده في أي كتاب لدينا.