السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، بالإجماع ، وتسمى سورة التوديع ، وهي ثلاث آيات ، وست عشرة كلمة ، وتسعة وسبعون حرفاً .

{ بسم الله } الذي له الأمر كله ، فهو العليم الحكيم { الرحمن } الذي أرسلك رحمة من الله العليّ العظيم { الرحيم } الذي خص أهل ودّه بفضله العميم .

وقوله تعالى : { إذا } منصوب بسبح { جاء نصر الله } ، أي : الملك الأعظم الذي لا مثل له ، ولا أمر لأحد معه بإظهاره إياك على أعدائك ، ومعنى جاء استقرّ وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل ، وزاد في تعظيمه بالإضافة ، ثم بكونها إلى اسم الذات .

وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة ، والباقون بالفتح ، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة . روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع . { والفتح } ، أي : فتح مكة ، وهو الفتح الذي يقال له : فتح الفتوح ، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها . وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب ، وأقام بها خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوزان ، وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال : " لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " ، ثم قال : " يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم " ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، ثم قال : «اذهبوا فأنتم الطلقاء » فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئا فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [ آل عمران : 85 ] وقيل : المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين ، وفتح بلاد الشرك عليهم . فإن قيل : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه ؟ أجيب : بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها ، قال الشاعر :

إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي *** بلاد تميم وانصري آل عامر

ويروى :

إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي *** بلاد تميم وانصري أرض عامر

والفتح فتح البلاد ، وقال الرازي : الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به ، والنصر كالسبب ، فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه .

فإن قيل : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً منصوراً بالدلائل والمعجزات ، فما المعنى بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة ؟

أجيب : بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع . فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى ، قال الله تعالى : { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } [ آل عمران : 126 ] فما فائدة التقييد بنصر الله ؟ أجيب : بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى ، كما يقال : هذا صنعة زيد إذا كان مشهوراً بإحكام الصنعة ، والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة ، فكذا ههنا . فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار ، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم نصر الله فما السبب في ذلك ؟ أجيب : بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث ، وهو من الله تعالى . فإن قيل : فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّماً على فعل الله تعالى ، وهذا بخلاف النصر ؛ لأنه تعالى قال : { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] فجعل نصره مقدّماً على نصره لنا ؟ أجيب : بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله تعالى ، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية .