33- إن المشركين ضلوا في جحودهم ، فجعلوا لله شركاء في العبادة ، فهل من هو حافظ مراقب لكل نفس مُحْصٍ عليها ما تكسب من خير أو شر ، تماثله هذه الأوثان ؟ قل لهم - أيها النبي - : صفوهم بأوصافهم الحقيقية ، أهم أحياء ؟ أهم يدفعون الضر عن أنفسهم ؟ فإن كانت حجارة لا تنفع ولا تضر ، فهل تخدعون أنفسكم بأن يخبروا الله بما تتوهمون أنه لا يعلمه في هذه الأرض ، أم تضعونهم في موضع العبادة بألفاظ تتلوى بها ألسنتكم ، بل الحقيقة أنه زين لهم تدبيرهم وتمويههم الباطل ، وبسبب ذلك صرفوا عن طريق الحق وتاهوا ، ومن يكن ضلالهم مثلهم ، فلن يهديه أحد ، لأنه صرف نفسه عن سبيل الهداية .
قوله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } ، أي : حافظها ، ورازقها ، وعالم بها ، ومجازيها بما عملت . وجوابه محذوف ، تقديره : كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه . { وجعلوا لله شركاء قل سموهم } بينوا أسماءهم . وقيل : صفوهم ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد ؟ { أم تنبئونه } أي : تخبرون الله تعالى : { بما لا يعلم في الأرض } ، فإنه لم يعلم لنفسه شريكا ولا في الأرض إلها غيره ، { أم بظاهر } يعني : أم تتعلقون بظاهر ، { من القول } ، مسموع ، وهو في الحقيقة باطل لا أصل له . وقيل : بباطل من القول .
قال الشاعر : وعيرني الواشون أني أحبها *** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي : زائل . { بل زين للذين كفروا مكرهم } ، كيدهم . وقال مجاهد : شركهم وكذبهم على الله . { وصدوا عن السبيل } ، أي : صرفوا عن الدين . قرأ أهل الكوفة ويعقوب { وصدوا } وفي حم المؤمن { وصد } بضم الصاد فيهما ، وقرأ الآخرون بالفتح لقوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } [ الحج-25 ] ، وقوله { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ] [ النحل-88 وغيرها ] . { ومن يضلل الله } ، بخذلانه إياه { فما له من هاد* } .
{ 33 - 34 } { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }
يقول تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } بالجزاء العاجل والآجل ، بالعدل والقسط ، وهو الله تبارك وتعالى كمن ليس كذلك ؟
ولهذا قال : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ } وهو الله الأحد الفرد الصمد ، الذي لا شريك له ولا ند ولا نظير ، { قُلْ } لهم إن كانوا صادقين : { سَمُّوهُمْ } لتعلم حالهم { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ } فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة وهو لا يعلم له شريكا ، علم بذلك بطلان دعوى الشريك له ، وأنكم بمنزلة الذي يُعَلِّمُ الله أن له شريكا وهو لا يعلمه ، وهذا أبطل ما يكون ؛ ولهذا قال : { أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } أي : غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى أنه بظاهر أقوالكم .
وأما في الحقيقة ، فلا إله إلا الله ، وليس أحد من الخلق يستحق شيئا من العبادة ، ولكن { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ } الذي مكروه وهو كفرهم وشركهم ، وتكذيبهم لآيات الله { وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ } أي : عن الطريق المستقيمة الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } لأنه ليس لأحد من الأمر شيء .
ثم أقام - سبحانه - الأدلة الساطعة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له - تعالى - فقال : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ . . . } .
والمراد بالقيام هنا : الحفظ والهيمنة على جميع شئون الخلق والاستفهام للإِنكار ، والخبر محذوف والتقدير : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } أى : رقيب ومهيمن { على كُلِّ نَفْسٍ } كائنة ما كانت ، عالم بما تعمله من خير أو شر فمجازيها به كن ليس كذلك ؟
وحذف الخبر هنا وهو قولنا - كمن ليس كذلك - لدلالة السياق عليه ، كما في قوله - تعالى - : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } أى : كمن قسا قلبه .
وحسن حذف الخبر هنا لأنه مقابل للمبتدأ هو { من } ولأن قوله - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } حالية ، والتقدير :
أفمن هذه صفاته ، وهو الله - تعالى - كمن ليس كذلك ، والحال أن هؤلاء الأغبياء قد جعلوا له شركاء في العبادة وغيرها .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، زيادة توبيخهم ، وتسفيه أفكارهم وعقولهم .
وقوله - سبحانه - { قُلْ سَمُّوهُمْ } تبكيت لهم إثر تبكيت .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - سموهم شركاء إن شئتم ، فإن هذه التسمية لا وجود لها في الحقيقة والواقع ، ولا تخرجهم عن كونهم لا يملكون لأنفسهم - فضلا عن غيرهم - نفعا ولا ضرا ، لأن الله - تعالى - واحد لا شريك له .
وهذه التسمية إنما هي من عند أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطن ، كما قال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } فالأمر في قوله { سموهم } مستعمل في الإِباحة المصحوبة بالتهديد ، للإِشارة إلى عدم الاكتراث بهم وبآلهتهم التي سموها شركاء وسموهم بهذا الاسم : قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ : أتخبرون الله بشركاء لا وجود لهم في الأرض ، لأنهم لو كان لهم وجود لعلمهم ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء .
أم أنكم سميتموهم شركاء بظاهر من القول أى : بظن من القول لا حقيقة له في الواقع ونفس الأمر .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } أى : بل أتخبرون الله - تعالى - { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض } أى بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم - سبحانه - والمراد : نفيها بنفى لازمها على طريق الكناية ، لأنه - سبحانه - إذا كان لا يعلمها - وهو الذي لا يعزب عن علمه شئ - فهى لا حقيقة لها أصلا .
وتخصيص الأرض بالذكر ، لأن المشركين زعموا أنه - سبحانه - له شركاء فيها .
وقوله { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول } أى : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق في نفس الأمر ، كتسمية الزنجى كافوراً .
وروى عن الضحاك وقتادة ، أن الظاهر من القول : الباطل منه ، كما في قول القائل :
أعيرتنا ألبانها ولحومها . . . وذلك عار يابن ربطة ظاهر
وقوله - سبحانه - : { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } إضراب عن حجاجهم ، وإهمال لشأنهم و " زين " من التزيين وهو تصيير الشئ زينا أى : حسنا .
والمكر : صرف الغير عما يريده بحيلة ، والمراد به هنا : كفرهم ومسالكهم الخبيثة ضد الإِسلام والمسلمين .
والمعنى : دع عنك أيها الرسول الكريم - مجادلتهم ، لأنه لا فائدة من ورائها ، فإن هؤلاء الكافرين قد زين لهم الشيطان ورؤساؤهم في الكفر مكرهم وكيدهم للإِسلام وأتباعه ، وصدوهم عن السبيل الحق ، وعن الصراط المستقيم ، ومن يضلله الله - تعالى - بأن يخلق فيه الضلال لسوء استعداده ، فما له من هاد يهديه ويرشده إلى ما فيه نجاته .
هذا ، وقد اشتملت هذه الآية على ألوان من الحجج الساطعة التي تثبت وجوب إخلاص العبادة لله ، وتبطل الشركة والشركاء أشار إليها بعض المفسرين فقال :
قال الطيبى : في هذه الآية الكريمة احتجاج بليغ مبنى على فنون من علم البيان :
أولها : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } كمن ليس كذلك ، احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما .
ثانيها : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } من وضع المظهر موضع المضمر ، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في أسمائه .
ثالثها : { قُلْ سَمُّوهُمْ } أى عينوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان ، فهو إنكار لوجودها على وجه برهانى . .
رابعها : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ } احتجاج من باب نفى الشئ أعنى العلم بنفى لازمه وهو المعلوم وهو كناية .
خامسها : { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول } احتجاج من باب الاستدراج لبعثهم على الفكر .
أى : أتقولون بأفواهكم من غير روية ، وأنتم ألباء ، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه .
سادسها : التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه ، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها ، كان الاحتجاج المذكور مناديا على نفسه بالإِعجاز وأنه ليس كلام البشر " .
والقضية الثانية هي قضية الشركاء . وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك . وهي تثار هنا في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس ، المجازي لها بما كسبت في الحياة . وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة . وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام !
( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ? وجعلوا لله شركاء . قل : سموهم . أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ? أم بظاهر من القول ? بل زين للذين كفروا مكرهم ، وصدوا عن السبيل ، ومن يضلل الله فما له من هاد . لهم عذاب في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشق ، وما لهم من الله من واق ) . .
( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها . تلك عقبى الذين اتقوا . وعقبى الكافرين النار ) . .
والله سبحانه رقيب على كل نفس ، مسيطر عليها في كل حال ، عالم بما كسبت في السر والجهر . ولكن التعبير القرآني المصور يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية - على طريقة القرآن - صورة ترتعد لها الفرائص :
( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) . .
فلتتصور كل نفس أن عليها حارسا قائما عليها مشرفا مراقبا يحاسبها بما كسبت . ومن ? إنه الله ! فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق ، إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات .
أفذلك كذلك ? ثم يجعلون لله شركاء ? ! هنا يبدو تصرفهم مستنكرا مستغربا في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب .
الله القائم على كل نفس بما كسبت ، لا تفلت منه ولا تروغ .
( قل : سموهم ) ! فإنهم نكرات مجهولة . وقد تكون لهم أسماء . ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات التي لا تعرف أسماؤها .
( أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ? ) . . يا للتهكم ! أم إنكم أنتم بشر تعلمون ما لا يعلمه الله ? فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض ، وغاب هذا عن علم الله ? ! إنها دعوى لا يجرؤون على تصورها . ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال ، حين يقول الله أن ليست هناك آلهة ، فيدعون وجودها وقد نفاه الله !
تدعون وجودها بكلام سطحي ليس وراءه مدلول . وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها الناس بظاهر من القول ? !
وينتهي هذا التهكم بالتقرير الجاد الفاصل :
( بل زين للذين كفروا مكرهم ، وصدوا عن السبيل ، ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
فالمسألة إذن أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى ، فحقت عليهم سنة الله ، وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب ، وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة حسن وجميل ، فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم . ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد ، لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد .
يقول تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } أي : حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة ، يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ، ولا يخفى عليه خافية ، { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [ يونس : 61 ] وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } [ الأنعام : 59 ] وقال { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] وقال { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ الرعد : 10 ] وقال { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] وقال { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الحديد[ 4 ] أفمن هو هكذا كالأصنام التي يعبدونها{[15661]} لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ، ولا تملك نفعا لأنفسها ولا لعابديها ، ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها ؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه ، وهو قوله : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ } أي : عبدوها معه ، من أصنام وأنداد وأوثان .
{ قُلْ سَمُّوهُمْ } أي : أعلمونا بهم ، واكشفوا عنهم حتى يُعرَفوا ، فإنهم لا حقيقة لهم ؛ ولهذا قال : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ } أي : لا وجود له ؛ لأنه لو كان له{[15662]} وجود في الأرض لعلمها ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية .
{ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } قال مجاهد : بظن من القول .
وقال الضحاك وقتادة : بباطل من القول .
أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر ، وسميتموها آلهة ، { إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] .
{ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ } قال مجاهد : قولهم ، أي : ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار ، كما قال تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [ فصلت : 25 ] .
" وصَدُّوا عن السَّبِيل " : من قرأها بفتح الصاد ، معناه : أنهم لما زين لهم ما فيه وأنه حق ، دَعَوا إليه وصَدّوا الناس عن اتباع طريق الرسل . ومن قرأها { وَصُدُّوا } {[15663]} أي : بما زين لهم من صحة ما هم عليه ، صدوا به عن سبيل الله ؛ ولهذا قال : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } كَمَا قَالَ { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [ المائدة : 41 ] وقال { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ النحل : 37 ] .
الفاء الواقعة بعد همزة الاستفهام مؤخرة من تقديم لأن همزة الاستفهام لها الصدارة . فتقدير أصل النظم : فأمن هو قائم . فالفاء لتفريع الاستفهام وليس الاستفهام استفهاماً على التفريع ، وذلك هو الوجه في وقوع حروف العطف الثلاثة الواو والفاء وثم بعد الاستفهام وهو رأي المحقيقين ، خلافاً لمن يجعلون الاستفهام وارداً على حرف العطف وما عَطفه .
فالفاء تفريع على جملة { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت } [ الرعد : 30 ] المجابِ به حكاية كفرهم المضمن في جملة { وهم يكفرون بالرحمن } [ الرعد : 30 ] ، فالتفريع في المعنى على مجموع الأمرين : كفرهم بالله ، وإيمان النبي بالله .
ويجوز أن تكون تفريعاً على جملة { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } [ الرعد : 31 ] ، فيكون ترقياً في إنكار سؤالهم إتيان معجزة غير القرآن ، أي إن تعجب من إنكارهم آيات القرآن فإن أعجب منه جعلهم القائم على كل نفس بما كسبت مماثلاً لمن جعلوهم لله شركاء .
واعتُرض أثرَ ذلك بردّ سُؤالهم أن تُسيّر الجبال أو تُقَطّع الأرض أو تُكلّم الموتى ، وتذكيرهم بما حل بالمكذبين من قبلهم مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام ، ثم فرع على ذلك الاستفهام الإنكاري .
وللمفسرين في تصوير نظم الآية محامل مختلفة وكثير منها متقاربة ، ومرجع المتجه منها إلى أن في النظم حذفاً يدل عليه ما هو مذكور فيه ، أو يدل عليه السياق . والوجه في بيان النظم أن التفريع على مجموع قوله : { وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو } أي أن كفرهم بالرحمان وإيمانك بأنه ربّك المقصورة عليه الربوبية يُتفرع على مجموع ذلك استفهامُهم استفهامَ إنكار عليهم تسويتهم من هو قائم على كلّ نفس بمن ليس مثله من جعلوهم له شركاء ، أي كيف يشركونهم وهم ليسوا سواء مع الله .
وما صدق { من هو قائم على كلّ نفس } هو الله الإله الحق الخالق المدبّر .
وخبر { من هو قائم } محذوف دلت عليه جملة { وجعلوا لله شركاء } . والتقدير : أمن هو قائم على كل نفس ومن جعلوهم به شركاء سواء في استحقاق العبادة . دل على تقديره ما تقتضيه الشركة في العبادة من التسوية في الإلهية واستحقاق العبادة . والاستفهام إنكار لتلك التسوية المفاد من لفظ { شركاء } . وبهذا المحذوف استغني عن تقدير معادل للهمزة كما نبّه عليه صاحب « مغني اللّبيب » ، لأن هذا المقدّر المدلول عليه بدليل خاص أقوى فائدة من تقدير المعادل الّذي حاصله أن يقدر : أم من ليس كذلك . وسيأتي قريباً بيان موقع { وجعلوا لله شركاء } .
والعدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله : { أفمن هو قائم } لأن في الصلة دليلاً على انتفاء المساواة ، وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الإلهية ، ونداء على غباوتهم إذ هم معترفون بأن الله هو الخالق .
والمقدر باعتقادهم ذلك هو أصل إقامة الدليل عليهم بإقرارهم ولما في هذه الصلة من التعريض لما سيأتي قريباً .
والقائم على الشيء : الرقيب ، فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد ، ولتضمنه معنى الرقيب عدي بحرف { على } المفيد للاستعلاء المجازي . وأصله من القيام وهو الملازمة كقوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } [ سورة آل عمران : 75 ] . ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأن تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم .
فمعنى { قائم على كل نفس } مُتولّيها ومدبّرها في جميع شؤونها في الخلق والأجل والرزق ، والعالم بأحوالها وأعمالها ، فكان إطلاق وصف { قائم } هنا من إطلاق المشترك على معنييه . والمشكرون لا ينازعون في انفراد الله بهذا القيام ولكنهم لا يراعون ذلك في عبادتهم غيره ، فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله : { على كل نفس } ليعم القيام سائر شؤونها .
والباء في قوله : { بما كسبت } للملابسة . وهي في موقع الحال من { نفس } أو من { قائم } باعتبار ما يقتضيه القيام من العلم ، أي قياماً ملابساً لما عملته كل نفس ، أي قياماً وفاقاً لأعمالها من عمل خير يقتضي القيامَ عليها باللطف والرضى فتظهر آثار ذلك في الدنيا والآخرة لقوله : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 97 ] ، وقال : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } [ سورة النور : 55 ] ؛ أو من عَمَل شر يقتضي قيامَه على النفس بالغضب والبلايا . ففي هذه الصلة بعمومها تبشير وتهديد لمن تأمل من الفريقين . فهذا تعريض بالأمرين للفريقين أفادته صلة الموصول .
وجملة { وجعلوا لله شركاء } في موضع الحال ، والواو للحال ، أي والحال جعلوا له شركاء .
وإظهار اسم الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير { من هو قائم } . وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العَلَم الذي هو الأصل إذ كان قد وقع الإيفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العَلَم ، وليكون تصريحاً بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة .
وجملة { قل سموهم } استئناف أعيد معها الأمر بالقول لاسترعاء الأفهام لوَعي ما سيذكر . وهذه كلمة جامعة ، أعني جملة { سموهم } ، وقد تضمنت رداً عليهم . فالمعنى : سموهم شركاء فليس لهم حظ إلا التسمية ، أي دون مسمى الشريك ، فالأمر مستعمل في معنى الإباحة كناية عن قلة المبالاة بادعائهم أنهم شركاء مثل { قل كونوا حجارة } [ سورة الإسراء : 50 ] ، وكما تقول للذي يخطىء في كلامه : قُل ما شئتَ . والمعنى : إن هي إلا أسماء سميتموها لا مسمياتٍ لها بوصف الإلهيّة لأنها حجارة لا صفات لها من صفات التصرف . وهذا كقوله تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ سورة يوسف : 40 ] وقوله : { إن هي إلا أسماء سميتموها } [ سورة النجم : 23 ] . وهذا إفحام لهم وتسفيه لأحلامهم بأنهم ألّهوا ما لا حقائق لها فلا شبهة لهم في ذلك ، كقوله تعالى : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } [ سورة الرعد : 16 ] . وقد تمحل المفسرون في تأويل { قل سموهم } بما لا مُحَصّل له من المعنى .
ثم أضرب عن ذلك بجملة { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } وهي { أم } المنقطعة . ودَلت { أم } على أن ما بعدها في معنى الاستفهام ، وهو إنكاري توبيخي ، أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم لوجودهم ، فقوله : { بما لا يعلم في الأرض } كناية عن غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجوداً لم يَخْفَ على علم العلام بكل شيء . وتقييد ذلك ب { الأرض } لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفى عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم .
وفي سورة يونس ( 18 ) { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } زيادة في التعميم .
وأم } الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في { أم تنبئونه } . وإعادة الباء للتأكيد بعد { أم } العاطفة . والتقدير : بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول .
وليس الظاهر هنا مشتقاً من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظُور بمعنى الزوال كناية عن البطلان ، أي بمجرد قبول لا ثبات له وليس بحق ، كقول أبي ذؤيب :
أعيّرْتَنا ألبانها ولحومها *** وذلك عارياً يا ابنَ رَيْطة ظاهر
وقوله : { بل زين للذين كفروا مكرهم } إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية أصنامهم إلى كشف السبب ، وهو أن أيمة المشركين زيّنوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ وضعوا لهم عبادتَها .
والمكر : إخفاء وسائل الضر . وتقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } في أوائل سورة آل عمران ( 54 ) ، وعند قوله : { أفأمنوا مكر الله } في سورة الأعراف ( 99 ) ، وعند قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } في سورة الأنفال ( 30 ) . والمراد هنا أن أيمة الكفر مثل عَمْرو بن لُحَيّ وضعوا للعرب عبادة الأصنام وحسّنوها إليهم مظهرين لهم أنها حق ونفع وما أرادوا بذلك إلا أن يكونوا قادة لهم ليسودُوهم ويُعبّدوهم .
فلما كان الفعل المبني للمجهول يقتضي فاعلاً منويّاً كان قوله : { زين للذين كفروا } في قوة قولك : زيّن لهم مزين . والشيء المزيّن ( بالفتح ) هو الذي الكلام فيه وهو عبادة الأصنام فهي المفعول في المعنى لفعل التزيين المبني للمجهول ، فتعين أن المرفوع بعد ذلك الفعل هو المفعول في المعنى ، فلا جرم أن مكرهم هو المفعول في المعنى ، فتعيّن أن المكر مراد به عبادة الأصنام .
وبهذا يتجه أن يكون إضافة ( مكر ) إلى ضمير الكفار من إضافة المصدر إلى ما هو في قوة المفعول وهو المجرور بباء التعدية ، أي المكر بهم ممن زينوا لهم .
وقد تضمن هذا الاحتجاح أساليب وخصوصيات :
أحدها : توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياساً فاسداً لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك .
ثانيها : تبهيلهم في جعلهم أسماءَ لا مسمياتٍ لها آلهةً .
ثالثها : إبطال كون أصنامهم آلهة بأن الله لا يعلمها آلهة ، وهو كناية عن انتفاء إلهيتها .
رابعها : أن ادعاءهم آلِهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع ، وهو قوله : { أم بظاهر من القول } .
خامسها : أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر ، وهو معنى تسميته مكراً في قوله : { بل زين للذين كفروا مكرهم } .
سادسها : أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى .
وعُطف { وصدوا عن السبيل } على جملة { زين للذين كفروا مكرهم } . وقرأه الجمهور بفتح الصاد فهو باعتبار كون مضمون كلتا الجملتين من أحوال المشركين : فالأولى باعتبار كونهم مفعولين ، والثانية باعتبار كونهم فاعلين للصدّ بعد أن انفعلوا بالكفر . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وخلف { وصدوا } بضم الصاد فهو كجملة { زين للذين كفروا } في كون مضمون كلتيهما جعْل الذين كفروا مفعولاً للتزيين والصدّ .
وجملة { ومن يضلل الله فما له من هاد } تذييل لما فيه من العموم .
وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في إثبات ياء { هاد } في حالة الوصل عند قوله تعالى : { ولكل قوم هاد } في هذه السورة ( 7 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت} من خير وشر، يقول: الله قائم على كل بر وفاجر، على الله رزقهم وطعامهم، {وجعلوا لله شركاء}، يعني وصنعوا لله شبها، وهو أحق أن يعبد من غيره، {قل} لهم يا محمد: {سموهم}، يقول: ما أسماء هؤلاء الشركاء، وأين مستقرهم، يعني الملائكة؛ لأنهم عبدوهم، ويقال: الأوثان، ولو سموهم لكذبوا. ثم قال: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} بأن معه شريكا، {أم بظاهر من القول}، يقول: بل بأمر باطل كذب... ثم قال: {بل}، يعني: لكن، {زين للذين كفروا} من أهل مكة {مكرهم}، يعني: قول الشرك، {وصدوا عن السبيل}، يعني: وصدوا الناس عن السبيل، يعني دين الله الإسلام، {ومن يضلل الله}، يقول: ومن يضله الله، {فما له من هاد} إلى دينه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفالربّ الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق، متضمن لها، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال، رقيت عليهم، لا يعزُب عنه شيء أينما كانوا، كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا، ولا يَدْفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرّا، ولا يجلب إليهم نفعا؟ كلاهما سواء. وحُذِف الجواب في ذلك فلم يَقُل، وقد قيل:"أفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ" ككذا وكذا، اكتفاء بعلم السامع بما ذُكِر عما تُرِك ذكره. وذلك أنه لمّا قال جلّ ثناؤه: "وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ "عُلم أن معنى الكلام كشركائهم التي اتخذوها آلهة... وقوله: "وَجَعَلَوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ" يقول تعالى ذكره: أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين، والمدبر أمورهم، والحافظ عليهم أعمالهم، وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدونها دوني، قل لهم يا محمد: سَمّوا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله، فإنهم إن قالوا آلهة فقد كذبوا، لأنه لا إله إلا الواحد القهّار لا شريك له. "أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ" يقول: أتخبرونه بأن في الأرض إلها، ولا إله غيره في الأرض ولا في السماء...
"أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ" مسموع، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. غير أنهم قالوا: أم بظاهر، معناه: أم بباطل، فأتوا بالمعنى تدلّ عليه الكلمة دون البيان عن حقيقة تأويلها... وقوله: "بَلْ زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ" يقول تعالى ذكره: ما لله من شريك في السموات ولا في الأرض، ولكن زُين للمشركين الذي يدعون من دونه إلها مكرُهم، وذلك افتراؤهم وكذبهم على الله...
وأما قوله: "وَصَدّوا عَنِ السّبِيلِ" فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: "وَصُدّوا عَنِ السّبِيلِ" (بضمّ الصاد)، بمعنى: وصدّهم الله عن سبيله لكفرهم به، ثم جعلت الصاد مضمومة، إذ لم يسمّ فاعله. وأما عامّة قرّاء الحجاز والبصرة، فقرأوه بفتح الصاد، على معنى أن المشركين هم الذين صَدّوا الناس عن سبيل الله.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يُقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء، متقاربتا المعنى وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به، وهم مع ذلك كانوا يَصُدّون غيرهم، كما وصفهم الله به بقوله: "إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ".
وقوله: "وَمَنْ يُضْلِل اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ" يقول تعالى ذكره: ومن أضله الله عن إصابة الحقّ والهدى بخذلانه إياه، فما له أحد يَهْديه لإصابتهما لأن ذلك لا يُنال إلاّ بتوفيق الله ومعونته، وذلك بيد الله وإليه دون كلّ أحد سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(أفمن هو قائم) أي حافظ وعالم (على كل نفس بما كسبت) بالرزق لهم والدفع عنهم كمن هو أعمى عن ذلك من ذلك؟ ليسا بسواء...
(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) يحتمل (قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) في ما قدر لها، وقواها، أو في الجزاء؛ يجزي على ما تكسب (وجعلوا لله شركاء) في العبادة وفي تسميتهم آلهة... يبين سفههم في جعلهم هذه الأصنام والأوثان شركاء الله في العبادة وتسميتهم آلهة مع علمهم أنهم لا يقدرون، ولا يملكون شيئا من ذلك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... "قل سموهم "أي سموهم بما يستحقون من الأسماء التي هي صفات، ثم انظروا هل تدل صفاتهم على أنه يجوز أن يعبدوا أم لا؟...
"ومن يضلل الله فماله من هاد" قيل في معناه قولان: أحدهما -من حكم الله عليه بأنه ضال على وجه الذم، فإنه لا ينفعه هداية أحد. والآخر- أن من يضله الله عن طريق الجنة إلى النار، فلا هاد يهديه إليها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِئُّونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَوْلِ}. قُل لهم أروني أي تأثير منهم، وأي نفع لكم فيهم، وأي ضرر لكم منهم... {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضِلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. أي قد تبين لكم أن ذلك من كيد الشيطان، وزين للذين كفروا مكرهم، وصاروا مصدودين عن الحق، مسدودة عليهم الطُّرُقُ، فإنَّ مَنْ أَضَلَّه حُكْمُه -سبحانه- لا يهديه أحدٌ قطعاً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} احتجاج عليهم في إشراكهم بالله، يعني أفا الله الذي هو قائم رقيب {على كُلّ نَفْسٍ} صالحة أو طالحة {بِمَا كَسَبَتْ} يعلم خيره وشره، ويعدّ لكل جزاءه، كمن ليس كذلك. ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدأ ويعطف عليه "وجعلوا"، وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه {وَجَعَلُواْ} له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده {شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ} أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم، ثم قال: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ}... ومعناه: بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفي أن يكون له شركاء. ونحو: {قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض} [يونس: 18]، {أَم بظاهر مّنَ القول} بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} [التوبة: 30]، {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق: أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... «الأنفس» من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به لتقرب الموعظة من حس السامع. ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه...
المعنى: أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات وإذا كان كذلك كان عالما بجميع أحوال النفوس، وقادرا على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات، وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي. وهذا هو المراد من قوله: {قائم على كل نفس بما كسبت} وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى: {قائما بالقسط}...
واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال: {قل سموهم} وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت. يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل، فكأنه تعالى قال: سموهم بالآلهة على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج فقال: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} والمراد: أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعلمونه وهو لا يعلمه، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن شريك البتة، لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها {أم بظاهر من القول} يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له، وهو كقوله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم} ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه: {بل زين للذين كفروا مكرهم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقرر -بما مضى من قدرته تعالى على الثواب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات- أن ليس لأحد غيره أمر ما، وتحرر أن كل أحد في قبضته، تسبب عن ذلك أن يقال: {أفمن هو قائم} ولما كان القيام دالاً على الاستعلاء أوضحه بقوله: {على كل نفس} أي صالحة وغيرها {بما كسبت} -يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما- كمن ليس كذلك، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلاً...
{أم بظاهر من القول} أي بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلمه فليس بشيء... ولما كان التقدير: ليس لهم على شيء من ذلك برهان قاطع ولا قول ظاهر، بنى عليه قوله: {بل زين} أي وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان {للذين كفروا} أي لهم، وعبر بذلك تنبيهاً على الوصف الذي دلاهم إلى اعتقاد الباطل، وهو ستر ما أدى إليه برهان العقل المؤيد بدليل النقل {مكرهم} أي أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقاً، وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم، وهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا، فصار كل ذلك من فعلهم فعل الماكر، أو أنهم غيروا في وجه الحق بما ختلوا به الضعفاء وتمادى بهم الحال حتى اعتقدوه حقاً...
ولما ذكر تزيين مكرهم، أتبعه الدلالة عليه فقال: {وصدوا} أي فلزموا ما زين لهم، أو فمكروا به حتى ضلوا في أنفسهم وصدوا غيرهم {عن السبيل} الذي لا يقال لغيره سبيل وهو المستقيم، فإن غيره جور وتيه وحيرة فهو عدم، بل العدم أحسن منه، فلم يسلكوا السبيل ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، وليس ذلك بعجب فإن الله أضلهم {ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله بإرادة ضلالة {فما له من هاد}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} أي رقيبٌ مهيمنٌ {على كُلّ نَفْسٍ} كائنة من كانت {بِمَا كَسَبَتْ} من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من ذلك بل يجازي كلاًّ بعمله وهو الله تعالى والخبرُ محذوفٌ أي كمن ليس كذلك إنكاراً لذلك، وإدخالُ الفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المماثلة غبَّ ما عُلم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديدِ والأخذ الشديد ومن كون الأمرِ كله لله تعالى وكونِ هداية الناس جميعاً منوطةً بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارعِ على الكفرة إلى أن يأتيَ وعدُ الله...
وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} جملةٌ مستقلة جيء بها للدلالة على الخبر أو حالية، أي أفمن هذه صفاتُه كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاءَ لا شريكاً واحداً، أو معطوفةٌ على الخبر إن قدّر ما يصلح لذلك أي أفمن هذا شأنُه لم يوحّدوه وجعلوا له شركاءَ؟ ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمر للتنصيص على وحدانيته ذاتاً واسماً وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادةِ مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولاً للدلالة على التفخيم،... {بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وضع الموصولُ موضع المضمر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالكفر {مَكْرِهِمْ} تمويهُهم الأباطيلَ أو كيدهم للإسلام بشركهم... {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي يخلق فيه الظلالَ بسوء اختياره أو يخذلْه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يوفقه للهدى...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
في العدول عن صريح الاسم في {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} تفخيم فخيم بواسطة الإبهام المضمر في إيراده موصولا مع تحقيق أن القيام كائن وهم محققون، وفي وضع الاسم الجليل موضع الراجع إلى {مِنْ} تنصيص على وحدانيته تعالى ذاتاً واسماً وتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادة مع ما فيه من البيان بعد الإبهام... {قُلْ سَمُّوهُمْ} تبكيت إثر تبكيت أي سموهم من هم وماذا أسماؤهم؟... المعنى أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى إنما يذكر ويسمى من ينفع ويضر...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{بل زين للذين كفروا مكرهم} إضراب عن الاحتجاج عليهم كأنه قيل: دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم. لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم، فلا ينتفعون بهذه الدلائل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت).. فلتتصور كل نفس أن عليها حارسا قائما عليها مشرفا مراقبا يحاسبها بما كسبت. ومن؟ إنه الله! فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق، إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات. أفذلك كذلك؟ ثم يجعلون لله شركاء؟! هنا يبدو تصرفهم مستنكرا مستغربا في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب. (وجعلوا لله شركاء).. الله القائم على كل نفس بما كسبت، لا تفلت منه ولا تروغ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء تفريع على جملة {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت} [الرعد: 30] المجابِ به حكاية كفرهم المضمن في جملة {وهم يكفرون بالرحمن} [الرعد: 30]، فالتفريع في المعنى على مجموع الأمرين: كفرهم بالله، وإيمان النبي بالله. ويجوز أن تكون تفريعاً على جملة {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} [الرعد: 31]، فيكون ترقياً في إنكار سؤالهم إتيان معجزة غير القرآن، أي إن تعجب من إنكارهم آيات القرآن فإن أعجب منه جعلهم القائم على كل نفس بما كسبت مماثلاً لمن جعلوهم لله شركاء... والعدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله: {أفمن هو قائم} لأن في الصلة دليلاً على انتفاء المساواة، وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الإلهية، ونداء على غباوتهم إذ هم معترفون بأن الله هو الخالق. والمقدر باعتقادهم ذلك هو أصل إقامة الدليل عليهم بإقرارهم ولما في هذه الصلة من التعريض لما سيأتي قريباً. والقائم على الشيء: الرقيب، فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد، ولتضمنه معنى الرقيب عدي بحرف {على} المفيد للاستعلاء المجازي. وأصله من القيام وهو الملازمة كقوله: {إلا ما دمت عليه قائماً} [سورة آل عمران: 75]. ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأن تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم. فمعنى {قائم على كل نفس} مُتولّيها ومدبّرها في جميع شؤونها في الخلق والأجل والرزق، والعالم بأحوالها وأعمالها، فكان إطلاق وصف {قائم} هنا من إطلاق المشترك على معنييه. والمشركون لا ينازعون في انفراد الله بهذا القيام ولكنهم لا يراعون ذلك في عبادتهم غيره، فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله: {على كل نفس} ليعم القيام سائر شؤونها...
وإظهار اسم الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير {من هو قائم}. وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العَلَم الذي هو الأصل إذ كان قد وقع الإيفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العَلَم، وليكون تصريحاً بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة. وجملة {قل سموهم} استئناف أعيد معها الأمر بالقول لاسترعاء الأفهام لوَعي ما سيذكر. وهذه كلمة جامعة، أعني جملة {سموهم}، وقد تضمنت رداً عليهم. فالمعنى: سموهم شركاء فليس لهم حظ إلا التسمية، أي دون مسمى الشريك، فالأمر مستعمل في معنى الإباحة كناية عن قلة المبالاة بادعائهم أنهم شركاء... ثم أضرب عن ذلك بجملة {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} وهي {أم} المنقطعة. ودَلت {أم} على أن ما بعدها في معنى الاستفهام، وهو إنكاري توبيخي، أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم لوجودهم، فقوله: {بما لا يعلم في الأرض} كناية عن غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجوداً لم يَخْفَ على علم العلام بكل شيء. وتقييد ذلك ب {الأرض} لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفى عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم...
وأم} الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في {أم تنبئونه}. وإعادة الباء للتأكيد بعد {أم} العاطفة. والتقدير: بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول. وليس الظاهر هنا مشتقاً من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظُور بمعنى الزوال كناية عن البطلان، أي بمجرد قبول لا ثبات له وليس بحق... وقوله: {بل زين للذين كفروا مكرهم} إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية أصنامهم إلى كشف السبب، وهو أن أيمة المشركين زيّنوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ وضعوا لهم عبادتَها. والمكر: إخفاء وسائل الضر... وقد تضمن هذا الاحتجاح أساليب وخصوصيات:
أحدها: توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياساً فاسداً لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك.
ثانيها: تبهيلهم في جعلهم أسماءَ لا مسمياتٍ لها آلهةً.
ثالثها: إبطال كون أصنامهم آلهة بأن الله لا يعلمها آلهة، وهو كناية عن انتفاء إلهيتها.
رابعها: أن ادعاءهم آلِهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع، وهو قوله: {أم بظاهر من القول}.
خامسها: أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر، وهو معنى تسميته مكراً في قوله: {بل زين للذين كفروا مكرهم}.
سادسها: أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى...
{قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهرٍ من القول} (سورة الرعد).
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يقول للكافرين بالله: قولوا أسماء من تعبدونهم من غير الله؛ وهي أحجار، والأحجار لا أسماء لها؛ وهم قد سموا الأصنام بأسماء كاللاّت والعزي وهبل؛ وهي أسماء لم تضف لتلك الأصنام شيئاً، فهي لا تقدر على شيء؛ ولو سموها لنسبت لعمرو بن لحي، الذي أوجدهم؛ وهم سموها.
والإله الحق لا يسميه أحد، بل يسمي هو نفسه، ولكن بما أن المسألة كذب في كذب، لذلك يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أسماء تلك الآلهة. ويقول لهم: هل تنبئون أنتم الله خالق كل الكون بما لا يعلم في كونه الذي أوجده من عدم؟.
سبحانه يعلم كل ما خلق؛ وأنتم لا تعبدون إلا أصناماً ينطبق عليها أنها من ظاهر القول؛ أي: قول لا معنى له؛ لأنهم أطلقوا أسماء على أشياء لا باطن لها ولا قدرة تستطيعها، وهم اكتفوا بالظاهر والمسمى غير موجود...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} هذا التعبير كناية عن عدم وجود ما لا يعلمه الله محيط بكل شيء، فلو كان له وجود لعلمه، {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} مما لا يثبت أمام النقد، ولا يرتكز على حقيقة، كما في الكثير من الأقوال التي لا تعبّر عن أيّة مسؤولية عن قضايا العقيدة والحياة. إنه التساؤل الذي يواجه هؤلاء، حول ما اعتقدوه، وما عبدوه، ولا يملكون له جواباً، {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} وما دبّروه للرسول وللرسالة من مكائد وأضاليل، وما أثاروه حولهما من شكوكٍ وشبهات، {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} القويم الذي أراد الله للناس أن يسيروا عليه، وذلك من خلال ما سوَّل لهم الشيطان وأولياؤه من أوهام، وزينه لهم من مواقف، وحرّكهم نحوه من مشاريع وأعمال. وهكذا تركهم الله لضلالهم، وأوكلهم إلى أنفسهم، بعدما بيّن لهم الحق وأضاء لهم السبيل، فتركوه وراء ظهورهم، وانطلقوا إلى عالم الظلمات، يتخبّطون فيها... {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} لأن للهداية وسائلها التي دل الله الإنسان عليها، فمن أخذ بها عن إرادة واختيار فقد أخذ بأسباب الهدى، ومن تركها عن تمرّدٍ وعناد فقد وقع في هاوية الضلال، ويتركه الله لنفسه، فيضلّ عن الهدى، ولا يجد من دون الله هادياً ولا نصيراً...