جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدّواْ عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .

يقول تعالى ذكره : أفالربّ الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق ، متضمن لها ، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال ، رقيت عليهم ، لا يعزُب عنه شيء أينما كانوا كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا ، ولا يَدْفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرّا ، ولا يجلب إليهما نفعا ؟ كلاهما سواء . وحُذِف الجواب في ذلك فلم يَقُل وقد قيل أفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ككذا وكذا ، اكتفاء بعلم السامع بما ذُكِر عما تُرِك ذكره . وذلك أنه لمّا قال جلّ ثناؤه : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ عُلم أن معنى الكلام كشركائهم التي اتخذوها آلهة ، كما قال الشاعر :

تَخَيّرِي خُيّرْتِ أُمّ عالِ *** بينَ قَصِيرٍ شَبْرُهُ تِنْبالِ

أذَاكِ أمْ مُنْخَرِقُ السّرْبَالِ *** وَلا يَزالُ آخِرَ اللّيالي

*** مُتْلِفَ مالٍ ومُفِيدَ مالِ ***

ولم يقل : وقد قال : «شَبْرُه تنبال » ، وبين كذا وكذا ، اكتفاء منه بقول : أَذَاكَ أمْ مُنْخَرِق السّرْبالِ ، ودلالة الخبر عن المنخرق السربال على مراده في ذلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ذلكم ربكم تبارك وتعالى ، قائم على بني آدم بأرزاقهم وآجالهم ، وحفظ عليهم والله أعمالهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ يعني بذلك نفسه ، يقول : هو معكم أينما كنتم ، فلا يعمل عامل إلا وهو حاضر . ويقال : هم الملائكة الذين وكلوا ببني آدم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتْ على رزقهم وعلى طعامهم ، فأنا على ذلك قائم وهم عبيدي ثم جعلوا لي شركاء .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فهو الله قائم على كل نفس بَرّ وفاجر ، يرزقهم ويكلؤهم ، ثم يُشرك به منهم من أشرك .

وقوله : وَجَعَلَوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول تعالى ذكره : أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين ، والمدبر أمورهم ، والحافظ عليهم أعمالهم ، وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدونها دوني ، قل لهم يا محمد : سَمّوا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله ، فإنهم إن قالوا آلهة فقد كذبوا ، لأنه لا إله إلا الواحد القهّار لا شريك له . أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ يقول : أتخبرونه بأن في الأرض إلها ، ولا إله غيره في الأرض ولا في السماء .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمّوهُمْ ولو سموهم آلهة لكذبوا وقالوا في ذلك غير الحق لأن الله واحد ليس له شريك ، قال الله : أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول : لا يعلم الله في الأرض إلها غيره .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ والله خلقهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ ولو سَمّوْهم كذبوا ، وقالوا في ذلك ما لا يعلم الله من إله غير الله فذلك قوله : أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ مسموع ، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . غير أنهم قالوا : أم بظاهر ، معناه : أم بباطل ، فأتوا بالمعنى تدلّ عليه الكلمة دون البيان عن حقيقة تأويلها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بظنّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن قتادة ، قوله : أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ والظاهر من القول : هو الباطل .

حْدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول : أم بباطل من القول وكذب ، ولو قالوا ، قالوا الباطل والكذب .

وقوله : بَلْ زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ يقول تعالى ذكره : ما لله من شريك في السموات ولا في الأرض ، ولك زُين للمشركين الذي يدعون من دون إله مكرُهم ، وذلك افتراؤهم وكذبهم على الله . وكان مجاهد يقول : معنى المكر ههنا : القولُ ، كأنه قال : قولهم بالشرك بالله .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بَلْ زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قال : قولهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

وأما قوله : وَصَدّوا عَنِ السّبِيلِ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : وَصَدّوا عَنِ السّبِيلِ بضمّ الصاد ، بمعنى : وصدّهم الله عن سبيله لكفرهم به ، ثم جعلت الصاد مضمومة ، إذ لم يسمّ فاعله . وأما عامّة قرّاء الحجاز والبصرة ، فقرءوه بفتح الصاد ، على معنى أن المشركين هم الذين صَدّوا الناس عن سبيل الله .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يُقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء ، متقاربتا المعنى وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به ، وهم مع ذلك كانوا يَصُدّون غيرهم ، كما وصفهم الله به بقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ .

وقوله : وَمَنْ يُضْلِل اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ يقول تعالى ذكره : ومن أضله الله عن إصابة الحقّ والهدى بخذلانه إياه ، فما له أحد يَهْديه لإصابتهما لأن ذلك لا يُنال إلاّ بتوفيق الله ومعونته ، وذلك بيد الله وإليه دون كلّ أحد سواه .