مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجة وما يكون توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم فقال : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } والمعنى : أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات وإذا كان كذلك كان عالما بجميع أحوال النفوس ، وقادرا على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات ، وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي . وهذا هو المراد من قوله : { قائم على كل نفس بما كسبت } وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى : { قائما بالقسط } .

واعلم أنه لا بد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه :

الوجه الأول : التقدير : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } كمن ليس له هذه الصفة ؟ وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ، وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء } والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، ونظيره قوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } ولم يأت جوابه لأنه مضمر في قوله : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } فكذا ههنا ، قال صاحب «الكشاف » : يجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ ، أو يعطف عليه قوله : { وجعلوا } والتقدير : أفمن هو بهذا الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء .

الوجه الثاني : وهو الذي ذكره السيد صاحب «حل العقد » فقال : نجعل الواو في قوله : { وجعلوا } واو الحال ونضمر للمبتدأ خبرا يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال ، والتقدير : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } موجود . والحال أنهم جعلوا له شركاء ، ثم أقيم الظاهر وهو قوله ( لله ) مقام المضمر تقريرا للإلهية وتصريحا بها ، وهذا كما تقول : جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي .

واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال : { قل سموهم } وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال : سمه إن شئت . يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل ، فكأنه تعالى قال : سموهم بالآلهة على سبيل التهديد ، والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسمهم به ، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها ، ثم زاد في الحجاج فقال : { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } والمراد : أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعلمونه وهو لا يعلمه ، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها ، وإن لم يكن شريك البتة ، لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها { أم بظاهر من القول } يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له ، وهو كقوله تعالى : { ذلك قولهم بأفواههم } ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه : { بل زين للذين كفروا مكرهم } قال الواحدي : معنى ( بل ) ههنا كأنه يقول : دع ذكر ما كنا فيه زين ، لهم مكرهم ، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم ، فكأنه يقول : دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه ، لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل . قال القاضي : لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمهم به ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله ، بل لا بد وأن يكون إما شياطين الإنس وإما شياطين الجن .

واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه : الأول : أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الإنس فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطانا آخر لزم التسلسل ، وإن كان هو الله فقد زال السؤال ، والثاني : أن يقال : القلوب لا يقدر عليها إلا الله ، والثالث : أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل .

أما قوله : { وصدوا عن السبيل } فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي { وصدوا } بضم الصاد وفي حم { وصدوا عن السبيل } على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم ، وعند أهل السنة أن الله صدهم .

وللمعتزلة فيه وجهان : قيل الشيطان ، وقيل أنفسهم وبعضهم لبعض كما يقال : فلان معجب وإن لم يكن ثمة غيره وهو قول أبي مسلم والباقون ، وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعني أن الكفار صدوا عن سبيل الله ، أي أعرضوا وقيل : صرفوا غيرهم ، وهو لازم ومتعد ، وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول ، وحجة القراءة الثانية قوله : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } .

ثم قال : { ومن يضلل الله فما له من هاد } اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه :

أولها : قوله : { بل زين للذين كفروا مكرهم } وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله .

وثانيها : قوله : { وصدوا عن السبيل } بضم الصاد ، وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله .

وثالثها : قوله : { ومن يضلل الله فما له من هاد } وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله .

ورابعها : قوله تعالى : { لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق } خبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير . وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر ، امتنع صدور الإيمان منه . وكل هذه الوجوه قد لخصناها في هذا الكتاب مرارا .

قال القاضي : { ومن يضلل الله } أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله : { فما له من هاد } منبئ بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا ، وقيل : المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالا ، وقيل المراد من يضلله الله عن الإيمان بأن يجده كذلك ، ثم قال والوجه الأول أقوى .

واعلم أن الوجه الأول ضعيف جدا لأن الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجر ذكر ذهابهم إلى الجنة البتة فصرف الكلام عن المذكور إلى غير المذكور بعيد . وأيضا فهب أنا نساعد على أن الأمر كما ذكروه ، إلا أنه تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لأن خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع .