فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

ثم استفهم سبحانه استفهاماً آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم ، فقال : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ } القائم الحفيظ والمتولي للأمور ، وأراد سبحانه نفسه ، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق ، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت ، والجواب محذوف أي : أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضرّ . قال الفراء : كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله ، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما ، وقيل : المراد بمن هو قائم على كل نفس الملائكة الموكلون ببني آدم ، والأوّل أولى ، وجملة { وَجَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاء } معطوفة على الجواب المقدّر مبينة له أو حالية بتقدير قد أي : وقد جعلوا ، أو معطوفة على { وَلَقَدِ استهزىء } أي : استهزءوا وجعلوا { قُلْ سَمُّوهُمْ } أي : قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم ؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ ؛ لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحّق أن يلتفت إليه ، فيقال : سمه إن شئت يعني : أنه أحقر من أن يسمى ؛ وقيل : إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون ، فيكون ذلك تهديداً لهم { أَمْ تُنَبّئُونَهُ } أي : بل أتنبئون الله { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض } من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السماوات والأرض { أَم بظاهر منَ القول } أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة ؛ وقيل : المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه ؟ فإن قالوا : بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة ، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم : سموهم ، فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما ، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً ، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها ، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض ، لأنهم ادّعوا له شريكاً في الأرض ؛ وقيل : معنى { أَم بظاهر مّنَ القول } أم بزائل من القول باطل ، ومنه قول الشاعر :

أعيرتنا ألبانها ولحومها *** وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي : زائل باطل ، وقيل : بكذب من القول ، وقيل : معنى { بظاهر من القول } بحجة من القول ظاهرة على زعمهم { بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ } أي : ليس لله شريك ، بل زين للذين كفروا مكرهم . وقرأ ابن عباس «زين » على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم . وقرأ من عداه [ بالبناء ] للمفعول ، والمزين هو الله سبحانه ، أو الشيطان ويجوز أن يسمى المكر كفراً ، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كان كفراً . وأما معناه الحقيقي فهو الكيد ، أو التمويه بالأباطيل { وَصُدُّوا عَنِ السبيل } قرأ حمزة والكسائي وعاصم { صدّوا } على البناء للمفعول أي : صدهم الله ، أو صدهم الشيطان . وقرأ الباقون على البناء للفاعل أي : صدّوا غيرهم ، واختار هذه القراءة أبو حاتم . وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الصاد . { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : يجعله ضالاً وتقتضي مشيئته إضلاله ، فما له من هادٍ يهديه إلى الخير . قرأ الجمهور { هاد } من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة . وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة .

/خ35