فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

{ أفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 ) } .

ثم استفهم سبحانه استفهاما آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم فقال { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } القائم الحفيظ والمتولي للأمور ، وأراد سبحانه نفسه فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت ، والجواب محذوف ، أي فمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر .

قال الفراء : كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله ، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما ، وقيل المراد بالقائم الملائكة الموكولون ببني آدم والأول أولى ، وبه قال ابن عباس ، وقال عطاء : الله قائم بالقسط والعدل على كل نفس .

{ وَ } قد { جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء } استئناف وهو الظاهر جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم ، وقيل الواو للحال وأقيم الظاهر مقام المضمر تقريرا للإلهية وتصريحا بها ، وقيل عطف على استهزئ أي ولقد استهزؤوا وجعلوا ، وقال أبو البقاء : معطوف على كسبت أي وجعلهم لله شركاء والأول أولى .

{ قُلْ سَمُّوهُمْ } أي عينوا حقيقتهم من أي جنس ومن أي نوع أي وما أسماؤهم ، وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ ، لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال سمه إن شئت ، يعني أنه أحقر من أن يسمى وقيل إن المعنى صفوهم وبينوا أوصافهم بما يستحقون ويستأهلون به ، ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد ، وقيل المعنى سموهم الآلهة كما تزعمون فيكون ذلك تهديدا لهم .

{ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } أي بل أتنبئون الله { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ } من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السماوات والأرض ، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض أيضا لأنهم ادعوا له شريكا فيها { أَم } أي بل أتسمونهم شركاء { بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ } من غير أن يكون له حقيقة كتسمية الزنجي كافورا .

وقيل المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه ، فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة ، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سموهم فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكا ، وقيل المعنى أم بزائل من القول باطل ، قاله مجاهد ، وقيل بكذب من القول ، وقيل بظن باطل لا حقيقة له في الباطن ، وقيل المعنى بحجة من القول ظاهرة على زعمهم قال الطيبي في هذه الآية احتجاج بليغ مبني على فنون من علم البيان .

أولها : أفمن هو قائم الخ احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لها .

ثانيها : وجعلوا لله شركاء وفيه وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه .

ثالثها : قل سموهم أي عينوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني ، كما تقول إن كان الذي تدعيه موجودا فسمه ، لأن المراد بالاسم العلم .

رابعها : أم تنبئونه بما لا يعلم ، احتجاج من باب نفي الشيء ، أعني المعلوم بنفي لازمه و هو العلم و هو كناية .

خا مسها : أم بظاهر من القول احتجاج من باب الاستدراج و الهمزة للتقرير لبعثهم على التفكير ، المعنى أتقولون بأفواهكم من غير روية و أنتم ألباء فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه .

سادسها : التدريج في كل من الإضرابات على ألطف وجه ، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها كان الاحتجاج المذكور مناديا على نفسه بالإعجاز وإنه ليس من كلام البشر . أ ه .

{ بَلْ } إضراب عن محاجتهم بالكلية ، فكأنه قيل دع ذا فإنه لا فائدة فيه لأنه { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } قرأ ابن عباس زين على البناء للفاعل على أن الذين زين لهم ذلك هو { مَكْرُهُمْ } وقرأ غيره على البناء للمفعول ، والمزين هو الله سبحانه أو الشيطان بإلقاء الوسوسة ، ويجوز أن يسمى المكر كفرا لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان كفرا ، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد أو التمويه بالأباطيل ، أي كيدهم للإسلام بشركهم .

{ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ } أي صدهم الله أو صدهم الشيطان ، وقرئ بالبناء للفاعل ، أي صدوا غيرهم عن الإيمان ، قراءتان سبعيتان ، وقد يستعمل صد لازما بمعنى أعرض .

{ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ } أي يجعله ضالا ويقتضي مشيئته إضلاله { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يهديه إلى الخير ، وقرأ الجمهور هاد من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة وهما سبعيتان .