هذه السورة هي الثامنة وثلاثون من سور القرآن الكريم ، وهي مكية وآياتها ثمان وثمانون آية . وقد صورت لنا لونا من عناد المشركين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وحسدهم على ما كرمه الله به من شرف الرسالة ونزول القرآن . فردت عليهم ما تعلقوا به من أوهام باطلة ، وبينت أن الذي حملهم على محاربة الدعوة ما هم فيه من أنفة كاذبة وحب للمخالفة والشقاق ، وأنه لو نزل بهم عذاب الله لما كان موقفهم من الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذا الموقف . ثم ضرب الله الأمثال بالأمم السابقة ، ليكون ذلك زجرا لهم عن العناد واللجاج ، وتثبيتا لرسوله صلى الله عليه وسلم على ؟ إبلاغ الدعوة مهما يلاقي في سبيلها من عنت المشركين ومكرهم ، وليشكر الله على ما يفيء عليه من نعم ، كما فعل إخوانه من الأنبياء والمرسلين . وعقب هذا ذكر ما أعده الله للمتقين من حسب المآب ، وما أعده للطاغين من شر المآل ، ثم ذكرهم بما كان بين أبيهم آدم عليه السلام وعدوه إبليس ، ليعلموا أن ما يدعوهم إليه من التكبر عن اتباع الحق خلق من أخلاقه ، وأن هذا الاستكبار كان سببا لطرده من رحمة الله .
ص : حرف بدئت به السورة على طريقة القرآن في بدء بعض السور بالحروف المقطعة ، أقسم بالقرآن ذي الشرف والشأن العظيم إنه لحق لا ريب فيه .
قوله تعالى : { ص } قيل : هو قسم ، وقيل : اسم للسورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي في أوائل السور . وقال محمد بن كعب القرظي : ( ( ص ) ) مفتاح اسم الصمد ، وصادق الوعد . وقال الضحاك : معناه صدق الله . وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : صدق محمد صلى الله عليه وسلم . { والقرآن ذي الذكر } أي ذي البيان ، قاله ابن عباس و مقاتل . وقال الضحاك : ذي الشرف ، دليله قوله تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك } وهو قسم . واختلفوا في جواب القسم ، قيل : جوابه قد تقدم ، وهو قوله ( ( ص ) ) أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمداً قد صدق . وقال الفراء : ( ( ص ) ) معناها : وجب وحق ، وهو جواب قوله : ( ( والقرآن ) ) ، كما تقول : نزل والله . وقيل : جواب القسم محذوف تقديره : والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار ، ودل على هذا المحذوف .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } :
هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن ، وحال المكذبين به معه ومع من جاء به ، فقال : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي : ذي القدر العظيم والشرف ، المُذَكِّرِ للعباد كل ما يحتاجون إليه من العلم ، بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله ، ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية ، ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء ، فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه .
وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه ، فإن حقيقة الأمر ، أن المقسم به وعليه شيء واحد ، وهو هذا القرآن ، الموصوف بهذا الوصف الجليل ، فإذا كان القرآن بهذا الوصف ، علم ضرورة العباد إليه ، فوق كل ضرورة ، وكان الواجب عليهم تَلقِّيه بالإيمان والتصديق ، والإقبال على استخراج ما يتذكر به منه .
1- سورة " ص " هي السورة الثامنة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة " القمر " وهي من السور المكية الخالصة . ويقال لها سورة " داود " .
قال الآلوسي : هي مكية –كما روي عن ابن عباس وغيره- وهي ثمان وثمانون آية في المصحف الكوفي . وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي . . . وهي كالمتممة لسورة الصافات التي قبلها ، من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء ، كداود وسليمان . . .
2- وقد افتتحت سورة " ص " بقسم من الله –تعالى- بالقرآن الكريم ، على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغه عن ربه .
ثم حكى –سبحانه- ما قاله المشركون فيما بينهم ، لإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولإنكار يوم القيامة وما فيها من ثواب وعقاب ، ورد عليهم بما يثبت جهلهم وغفلتهم واستكبارهم عن قبول الحق . .
قال –تعالى- : [ وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاف . أأنزل عليه الذكر من بيننا ، بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب . أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب . أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ] .
3- ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى وكيد ، فحكت له أن أقوام الرسل السابقين قد قابلوا رسلهم بالتكذيب ، وأمرته بالصبر على جهالاتهم ، وساقت جانباً من قصة داود –عليه السلام فذكرت بعض النعم التي أنعم الله –تعالى- بها عليه ، كما ذكرت ما دار بينه وبين الخصوم الذين تسوروا عليه المحراب .
قال –تعالى- : [ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد . وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب . إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق . وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ] . . .
4- وبعد هذا الحديث الذي فيه شيء من التفصيل عن وجوه النعم التي أنعم به –سبحانه- على عبده داود ، وعن لون من ألوان الامتحانات التي امتحنه –تعالى- بها ، وعن الإرشادات الحكيمة التي أرشده الله –عز وجل- إليها . . .
بعد كل ذلك ساق –سبحانه- أنواعاً من الأدلة على وحدانيته وقدرته ، وبين أن حكمته قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والفجار .
قال –تعالى- : [ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ، أم نجعل المتقين كالفجار . كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب ] .
5- ثم أثنى –سبحانه- بعد ذلك على نبيه سليمان –عليه السلام- وبين بعض النعم التي منحها له ، كما بين موقفه مما اختبره –تعالى- به . . .
قال –تعالى- : [ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب . قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب . فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب . والشياطين كل بناء وغواص ] .
6- ثم مدح –سبحانه- نبيه أيوب –عليه السلام- على صبره ، وعلى كثرة تضرعه إلى ربه ، وكيف أنه –تعالى- قد كافأه على ذلك بما يستحقه .
قال –تعالى- : [ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب . ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ، وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ، إنا وجدناه صابرا ، نعم العبد ، إنه أواب ] .
7- ثم أثنى –سبحانه- على أنبيائه : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإسماعيل واليسع وذا الكفل ، وبين ما أعده لهم ولأمثالهم من عباده الأخيار ، كما بين ما توعد به الفجار من عذاب أليم . .
قال –تعالى- : [ هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب . جنات عدن مفتحة لهم الأبواب . متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب . هذا ما توعدون ليوم الحساب . إن هذا لرزقنا ماله من نفاد . هذا ، وإن للطاغين لشر مآب ] .
8- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة بالحديث عن قصة آدم وإبليس وكيف أن الملائكة جميعاً سجدوا لآدم إلا إبليس فإنه أبى واستكبر وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . فكانت عاقبته الطرد من رحمة الله –تعالى- .
9- ومن هذا العرض المجمل لسورة " ص " نرى أنها قد اهتمت اهتماماً واضحاً ، بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته . وعلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق ، كما اهتمت بحكاية شبهات المشركين ثم الرد عليها ، كما ذكرت جانباً من قصص بعض الأنبياء ليعتبر بقصصهم كل ذي عقل سليم ، كما أنها قد اهتمت ببيان حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سورة " ص " من السور القرآنية التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وقد سبق أن بينا بشئ من التفصيل آراء العلماء فى هذه المسألة ، عند تفسيرنا لسورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف . ويونس . .
وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى بعض السور القرآنية على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم .
فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، أو فى الإِتيان بعشر سور من مثله ، أو بسورة واحدة من مثله .
فعجزوا وانقلبوا خاسرين . وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .
والواو فى قوله - تعالى - : { والقرآن ذِي الذكر } للقسم . والمقسم به القرآن الكريم . وجواب القسم محذوف ، لدلالة ما بعده عليه .
والذكر ، يطلق على الشرف ونباهة الشأن ، يقال فلان مذكور ، أى : صاحب شرف ونباهة . ومنه قوله - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ويطلق وبراد به التذكير على أنه مصدر ، لأن القرآن مشتمل على المواعظ والأحكام وقصص الأنبياء . وغير ذلك مما يسعد الناس فى دينهم ودنياهم .
وهذان الإِطلاقان ينطبقان على القرآن الكريم ، فيكون المعنى : وحق القرآن الكريم ذى الشرف العظيم ، وذى التذكير الحكيم المشتمل على ما ينفع الناس فى دنياهم وآخرتهم . .
إنك - أيها الرسول لصادق فى كل ما تبلغه عن ربك ولم يصدر منك إطلاقا ما يخالف الحق الذى أمرناك بتبليغه للناس .
قال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أنهم اختلفوا فى تعيين الشئ الذى أقسم الله - تعالى - عليه فى قوله : { والقرآن ذِي الذكر } .
فقال بعضهم إن المقسم عليه مذكور ، وهو قوله - تعالى - : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } أو قوله - تعالى - : { إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } أو قوله - تعالى - : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } . .
والحق أن القول بأن المقسم عليه مذكور ظاهر السقوط .
وقال آخرون إن المقسم عليه محذوف ، واختلفوا فى تقديره ، فقال صاحب الكشاف : التقدير : { والقرآن ذِي الذكر } إنه لمعجز . وقدره ابن عطية فقال : والتقدير : والقرآن ذى الذكر ليس الأمر كما يقول الكفار . .
سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون
هذه السورة مكية ، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد ، وقضية الوحي إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وقضية الحساب في الآخرة . وتعرض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها . وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام . وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لهم إلى توحيد الله ؛ وإخبارهم بقصة الوحي واختيارهرسولاً من عند الله : ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم . وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ، أجعل الآلهة إلهاً واحداً : إن هذا لشيء عجاب . وانطلق الملأ منهم : أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق . أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . . كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب : ( وقالوا : ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) . .
لقد استكثروا أن يختار الله - سبحانه - رجلاً منهم ، لينزل عليه الذكر من بينهم . وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبد الله . الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة ! ومن ثم ساءلهم الله في مطلع السورة تعقيباً على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا )ساءلهم : ( أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ? أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما ? فليرتقوا في الأسباب ) . . ليقول لهم : إن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد الله أن يفتحها على من يشاء . وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض ، وإنما يفتح الله من رزقه ورحمته على من يشاء وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير ، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد ، ولا حساب . . وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان ؛ وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك ، ومن تسخير الجبال والطير ، وتسخير الجن والريح ، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع .
وهما - مع هذا كله - بشر من البشر ؛ يدركهما ضعف البشر وعجز البشر ؛ فتتداركهما رحمة الله ورعايته ، وتسد ضعفهما وعجزهما ، وتقبل منهما التوبة والإنابة ، وتسدد خطاهما في الطريق إلى الله .
وجاء مع القصتين توجيه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين ، والتطلع إلى فضل الله ورعايته كما تمثلهما قصة داود وقصة سليمان : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب . . . )الخ . .
كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء . وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع . وتصور حسن العاقبة ، وتداركه برحمة الله ، تغمره بفيضها ، وتمسح على آلامه بيدها الحانية . . وفي عرضها تأسية للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وللمؤمنين ، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة ؛ وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة ، تفيض من خزائن الله عندما يشاء .
وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة ، ويؤلف الشوط الثاني منها .
كذلك تتضمن السورة رداً على استعجالهم بالعذاب ، وقولهم : ( ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) . . فيعرض بها - بعد القصص - مشهد من مشاهد القيامة ، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين . والجحيم التي تنتظر المكذبين . ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء . حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون ، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة الله ، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء . وبينما المتقون لهم حسن مآب( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب ) . . فإن للطاغين لشر مآب( جهنم يصلونها فبئس المهاد . هذا فليذوقوه حميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج ) . . وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون ، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين : ( وقالوا : ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار . أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ? )فإنهم لا يجدونهم في جهنم . وقد عُرف أنهم هنالك في الجنان ! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء !
وهذا المشهد يؤلف الشوط الثالث في السورة .
كما يرد على استنكارهم لما يخبرهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمر الوحي . ويتمثل هذا الرد في قصة آدم في الملأ الأعلى . حيث لم يكن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حاضراً ؛ إنما هو إخبار الله له بما كان ، مما لم يشهده - غير آدم - إنسان . . وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس ، وذهب به إلى الطرد واللعنة ، كان هو حسده لآدم - عليه السلام - واستكثاره أن يؤثره الله عليه ويصطفيه . كما أنهم هم يستكثرون على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] أن يصطفيه الله من بينهم بتنزيل الذكر ؛ ففي موقفهم شبه واضح من موقف إبليس المطرود اللعين !
وتختم السورة بختام هذا الشوط الرابع والأخير فيها ؛ بقول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لهم : إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده ، ولا يطلب عليه أجراً ، وإن له شأناً عظيماً سوف يتجلى : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين . إن هو إلا ذكر للعالمين . ولتعلمن نبأه بعد حين ) . .
هذه الأشواط الأربعة التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى ؛ تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين ، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين ، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان : ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب . كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد . وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب . إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ) . .
تعرض على القلب البشري هذه الصفحة . صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين . ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد الله المختارين ، في قصص داود وسليمان وأيوب .
هذا وذلك في واقع الأرض . . ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان . وصور الجحيم والغضب . حيث يرى لوناً آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء . بعدما لقياه في دار الفناء . .
والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول ، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار . وهم غافلون .
كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض . وأنه الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض . فهذا من ذلك : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ) . . وهي لفتة لها في القرآن نظائر . وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة . .
( ص . والقرآن ذي الذكر . بل الذين كفروا في عزة وشقاق . كم أهلكنا من قبلهم من قرن ، فنادوا ولات حين مناص ) . .
هذا الحرف . . ( صاد )يقسم به الله سبحانه كما يقسم بالقرآن ذي الذكر . وهذا الحرف من صنعة الله تعالى . فهو موجده . موجده صوتاً في حناجر البشر ؛ وموجده حرفاً من حروف الهجاء التي يتألف من جنسها التعبير القرآني . وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من عند الله . وهو متضمن صنعة اللهالتي لا يملك البشر الإتيان بمثلها لا في القرآن ولا في غير القرآن . وهذا الصوت . . ( صاد ) . . الذي تخرجه حنجرة الإنسان ، إنما يخرج هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع ، الذي صنع الحنجرة وما تخرجه من أصوات . وما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الحنجرة الحية التي تخرج هذه الأصوات ! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كل جزئية من جزئيات كيانهم القريب ! ولو عقلوها ما دهشوا لوحي يوحيه الله لبشر يختاره منهم . فالوحي ليس أكثر غرابة من إيداع تكوينهم هذه الخصائص المعجزات !
والقرآن يشتمل الذكر كما يشتمل غيره من التشريع والقصص والتهذيب . . ولكن الذكر والاتجاه إلى الله هو الأول . وهو الحقيقة الأولى في هذا القرآن . بل إن التشريع والقصص وغيرهما إن هي إلا بعض هذا الذكر . فكلها تذكر بالله وتوجه القلب إليه في هذا القرآن . وقد يكون معنى ذي الذكر . أي المذكور المشهور . وهو وصف أصيل للقرآن :
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة " البقرة " بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقوله : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي : والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد .
قال الضحاك في قوله : { ذِي الذِّكْرِ } كقوله : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } ] الأنبياء : 10 [ أي : تذكيركم . وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير .
وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد ، وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي { ذِي الذِّكْرِ } ذي الشرف أي : ذي الشأن والمكانة .
ولا منافاة بين القولين ، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار .
واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم : هو قوله : { إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } ] ص : 14[ . وقيل قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } ] ص : 64 ، حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير ، وضعفه ابن جرير .
وقال قتادة : جوابه : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } واختاره ابن جرير .
وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها ، والله أعلم .
ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال : جوابه " ص " بمعنى : صدق حق والقرآن ذي الذكر .
قرأ الحسن وأبي بن كعب وابن أبي إسحاق : «صادِ » بكسر الدال على أنه أمر من صادى يصادي إذا ضاهى وماثل ، أي صار كالصدى الذي يحكي الصياح ، والمعنى : ماثل القرآن بعلمك وقارنه بطاعتك ، وهكذا فسر الحسن ، أي انظر أين عملك منه ؟ ، وقال جمهور الناس : إنه حرف المعجم المعروف ، ويدخله ما يدخل سائر أوائل السور من الأقوال ، ويختص هذا الموضع بأن قال بعض الناس : معناه صدق محمد ، وقال الضحاك معناه : صدق الله ، وقال محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله : صمد صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، وقرأها الجمهور : «صادْ » بسكون الدال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف عنه «صادٍ » بكسر الدال وتنوينها على القسم ، كما تقول : الله لأفعلن . وحكى الطبري وغيره عن ابن أبي إسحاق : «صادِ » بدون تنوين ، وألحقه بقول العرب : خاث باث ، وخار وباز . وقرأ فرقة منها عيسى بن عمر : «صادَ » بفتح الدال ، وكذلك يفعل في نطقه بكل الحروف ، يقول : قافَ ، ونونَ ، ويجعلها كأين وليت : قال الثعلبي ، وقيل معناه : صاد محمد القلوب ، بأن استمالها للإيمان .
وقوله : { والقرآن ذي الذكر } قسم . وقال السدي وابن عباس وسعيد بن جبير ، معناه ذي الشرف الباقي المخلد . وقال قتادة والضحاك : ذي التذكرة للناس والهداية لهم . وقالت فرقة معناه : ذي الذكر لأمم والقصص والغيوب . وأما جواب القسم فاختلف فيه ، فقالت فرقة : الجواب في قوله : { ص } إذ هو بمعنى صدق محمد ، أو صدق الله . وقال الكوفيون والزجاج ، الجواب قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] . وقال البصريين ومنهم الأخفش ، الجواب في قوله : { إن كل كذب الرسل } [ ص : 14 ] .
قال القضي أبو محمد : وهذان القولان بعيدان .
وقال قتادة والطبري : الجواب مقدر قبل بل ، وهذا هو الصحيح ، تقديره : والقرآن ما الأمر كما يزعمون ، ونحو هذا من التقدير فتدبره .
وحكى الزجاج عن قوم أن الجواب قوله : { كم أهلكنا } وهذا متكلف جداً .
سميت في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة والآثار عن السلف { سورة صاد } كما ينطق باسم حرف الصاد تسمية لها بأول كلمة منها هي صاد { بصاد فألف فدال ساكنة سكون وقوف } شأن حروف التهجي عند التهجي بها أن تكون موقوفة ، أي ساكنة الأعجاز . وأما قول المعري يذكر سليمان عليه السلام :
وهو من سخرت له الإنس والج *** ن بما صح من شهـادة صـاد
فإنما هي كسرة القافية الساكنة تغير إلى الكسرة { لأن الكسر أصل في التخلص من السكون } كقول امرئ القيس :
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء للسخاوي : أن سورة ص تسمى أيضا سورة داود ولم يذكر سنده في ذلك .
وكتب اسمها في المصاحف بصورة حرف صاد مثل سائر الحروف المقطعة في أوائل السور اتباعا لما كتب في الصحف . وهي مكية في قول الجميع ، وذك في الإتقان أن الجعبري حكى قولا بأنها مدنية قال السيوطي : وهو خلاف حكاية جماعة الإجماع على أنها مكية . وعن الداني في كتاب العدد بأنها مدنية وقال : إنه ليس بصحيح .
وهي السورة الثامنة والثلاثون في عداد نزول السورة نزلت بعد سورة { اقتربت الساعة } وقبل سورة الأعراف .
وعدت آيها ستا وثمانين عند أهل الحجاز والشام والبصرة وعدها أيوب بن المتوكل البصري خمسا وثمانين . وعدت عند أهل الكوفة ثمانا وثمانين . روى الترمذي عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يجلس وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا بن أخي ما تريد من قومك? قال : إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية . قال : كلمة واحدة . قال : يا عم يقولوا لا إله إلا الله فقالوا : أإلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاف ، قال فنزل فيهم القرآن { ص والقرءان ذي الذكر } إلى قوله { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } قال : حديث حسن . فهذا نص في أن نزولها في آخر حياة أبي طالب وهذا المرض مرض موته كما في أبن عطية فتكون هذه الصورة قد نزلت في سنة ثلاث قبل الهجرة .
أصلها ما علمت من حديث الترمذي في سبب نزولها . وما اتصل به من توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكبرهم عن قبول ما أرسل به ، وتهديدهم بمثل ما حل بالأمم المكذبة قبلهم وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله تعالى ولأنه اختص بالرسالة من دونه وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وأن يقتدي بالرسل من قبله داود وأيوب وغيرهم وما جوزوا عن صبرهم ، واستطراد الثناء على داود وسليمان وأيوب ، وأتبع ذكر أنبياء آخرين لمناسبة سنذكرها .
وإثبات البعث لحكمة جزاء العاملين بأعمالهم من خير وشر .
وجزاء المؤمنين المتقين وضده من جزاء الطاغين والذين أضلوهم وقبحوا لهم الإسلام والمسلمين .
وذكر أول غواية حصلت وأصل كل ضلالة وهي غواية الشيطان في قصة السجود لآدم . وقد جاءت فاتحتها مناسبة لجميع أغراضها إذ ابتدئت بالقسم بالقرآن الذي كذب به المشركون ، وجاء المقسم عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سببه اعتزازهم وشقاقهم ، ومن أحوال المؤمنين سببه ضد ذلك ، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده فكانت فاتحتها مستكملة خصائص حسن الابتداء .
{ ص } القول في هذا الحرف كالقول في نظائره من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل بعض السور بدون فرق أنها مقصودة للتهجِّي تحدِّياً لبلغاء العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن وتورُّكاً عليهم إذ عجزوا عنه واتفق أهل العدّ على أن { ص } ليس بآية مستقلة بل هي في مبدأ آية إلى قوله : { ذِي الذِّكرِ } وإنما لم تعد { ص } آية لأنها حرف واحد كما لم يعد { ق } [ ق : 1 ] و { ن } [ القلم : 1 ] . { والقرءان ذِي الذِّكْرِ } .
الواو للقسم أقسم بالقرآن قسَم تنويه به . ووصف ب { ذِي الذِّكر } لأن { ذي } تضاف إلى الأشياء الرفيعة فتجري على متصف مقصود التنويه به .
و { الذكر } : التذكير ، أي تذكير الناس بما هم عنه غافلون . ويجوز أن يراد بالذكر ذكر اللسان وهو على معنى : الذي يُذكر ، بالبناء للنائب ، أي والقرآن المذكور ، أي الممدوح المستحِق الثناء على أحد التفسيرين في قوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [ الأنبياء : 10 ] أي شرفكم .
وقد تردد المفسرون في تعيين جواب القسم على أقوال سبعة أو ثمانية وأحسن ما قيل فيه هنا أحد وجهين : أولهما أن يكون محذوفاً دلّ عليه حرف { ص } فإن المقصود منه التحدّي بإعجاز القرآن وعجزهم عن معارضته بأنه كلام بلُغتهم ومؤلَّفٌ من حروفها فكيف عجزوا عن معارضته . فالتقدير : والقرآن ذي الذكر أنه لمن عند الله لهذا عجزتم عن الإِتيان بمثله .
وثانيهما : الذي أرى أن الجواب محذوف أيضاً دل عليه الإِضراب الذي في قوله : { بَلِ الذين كفروا في عزَّة وشِقَاقٍ } [ ص : 2 ] بعد أن وُصف القرآن ب { ذِي الذِّكر } ، لأن ذلك الوصف يشعر بأنه ذِكر ومُوقظ للعقول فكأنه قيل : إنه لذكر ولكن الذين كفروا في عزة وشقاق يجحدون أنه ذكر ويقولون : سِحر مفترىً وهم يعلمون أنه حق كقوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون } [ الأنعام : 33 ] ، فجواب القسم محذوف يدل عليه السياق ، وليس حرف { ص } هو المقسم عليه مقدماً على القسم ، أي ليس دليلُ الجواب من اللفظ بل من المعنى والسياق .
والغرض من حذف جواب القسم هنا الإِعراض عنه إلى ما هو أجدر بالذكر وهو صفة الذين كفروا وكذبوا القرآن عناداً أو شقاقاً منهم .