فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ص

آياتها ست وثمانون ، وقيل خمس وثمانون ، وقيل ثمان وثمانون آية وهي مكية : قال القرطبي : في قول الجميع . وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة ص بمكة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : " لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل ، فقال : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته ، فبعث إليه ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت ، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل ، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه ، فجلس عند الباب ، فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم . وتقول وتقول ، قال : وأكثروا عليه من القول ، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية » ، ففزعوا لكلمته ولقوله ، فقال القوم : كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً ، قالوا فما هي ؟ قال : لا إله إلا الله ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ، وهم يقولون : " أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب " فنزل فيهم { ص والقرآن ذي الذكر } إلى قوله : { بل لما يذوقوا عذاب } » .

قوله : { ص } قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور ، فإنها ساكنة الأواخر على الوقف . وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، ونصر بن عاصم ، وابن أبي عبلة ، وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين ، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين ، وقيل : وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض ، والمعنى : صاد القرآن بعملك ، أي : عارضه بعملك ، وقابله فاعمل به ، وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري ، وقال : إنه فسر قراءته هذه بهذا ، وعنه أن المعنى : أتله ، وتعرّض لقراءته . وقرأ عيسى بن عمر : " صاد " بفتح الدال ، والفتح لالتقاء الساكنين ، وقيل : نصب على الإغراء . وقيل معناه : صاد محمد قلوب الخلق ، واستمالها حتى آمنوا به ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، وروي عن ابن أبي إسحاق أيضاً : أنه قرأ : " صاد " بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات . وقرأ هارون الأعور ، وابن السميفع : " صاد " بالضم من غير تنوين على البناء نحو : منذ وحيث .

وقد اختلف في معنى " صاد " ، فقال الضحاك : معناه صدق الله . وقال عطاء : صدق محمد . وقال سعيد بن جبير : هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين . وقال محمد بن كعب : هو مفتاح اسم الله . وقال قتادة : هو اسم من أسماء الله . وروي عنه أنه قال : هو اسم من أسماء الرحمن . وقال مجاهد : هو فاتحة السورة . وقيل : هو : مما استأثر الله بعلمه ، وهذا هو الحقّ كما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة . قيل : وهو إما اسم للحروف مسروداً على نمط التعبد ، أو اسم للسورة ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب بإضمار اذكر ، أو اقرأ ، والواو في قوله : { والقرءان ذِي الذكر } هي : واو القسم ، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره ، وعلوّ محله ، ومعنى { ذِى الذكر } أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء . قال مقاتل : معنى { ذِى الذكر } ذي البيان . وقال الضحاك : ذي الشرف كما في قوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] أي شرفكم ، وقيل : أي ذي الموعظة .

واختلف في جواب هذا القسم ما هو ؟ فقال الزجاج ، والكسائي ، والكوفيون غير الفراء : إنه قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } [ ص : 64 ] ، وقال الفراء : لا نجده مستقيماً لتأخره جدًّا عن قوله : { والقرءان } ، ورجح هو وثعلب : أن الجواب قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } ، وقال الأخفش : الجواب هو : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ } ، وقيل : هو صاد ، لأن معناه : حقّ ، فهو : جواب لقوله : { والقرءان } كما تقول : حقاً والله ، وجب والله . ذكره ابن الأنباري ، وروي أيضاً عن ثعلب ، والفراء ، وهو مبنيّ على أن جواب القسم يجوز تقدّمه ، وهو ضعيف .

وقيل : الجواب محذوف ، والتقدير : والقرآن ذي الذكر لتبعثنّ ، ونحو ذلك . وقال ابن عطية : تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار ، والقول بالحذف أولى . وقيل إن قوله : { ص } مقسم به ، وعلى هذا القول تكون الواو في { والقرءان } للعطف عليه .

/خ11