{ في جيدها } في عنقها ، وجمعه أجياد ، { حبل من مسد } واختلفوا فيه ، قال ابن عباس ، وعروة بن الزبير : سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً ، تدخل في فيها وتخرج من دبرها ، ويكون سائرها في عنقها ، وأصله من المسد وهو الفتل ، والمسد ما فتل وأحكم من أي شيء كان ، يعني : السلسلة التي في عنقها فتلت من الحديد فتلاً محكماً . وروى الأعمش عن مجاهد : { من مسد } أي من حديد ، والمسد : الحديدة التي تكون في البكرة ، يقال لها : المحور . وقال الشعبي ومقاتل : من ليف . قال الضحاك وغيره : في الدنيا من ليف ، وفي الآخرة من نار . وذلك الليف هو الحبل الذي كانت تحتطب به ، فبينما هي ذات يوم حاملة حزمة فأعيت فقعدت على حجر تستريح ، فأتاها ملك فجذبها من خلفها فأهلكها . قال ابن زيد : حبل من شجر ينبت باليمن يقال له مسد . قال قتادة : قلادة من ودع . وقال الحسن : كانت خرزات في عنقها فاخرة ، وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة في عنقها فاخرة ، فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وتجمع على ظهرها من الأوزار بمنزلة من يجمع حطبًا ، قد أعد له في عنقه حبلًا { مِنْ مَسَدٍ } أي : من ليف .
أو أنها تحمل في النار الحطب على زوجها ، متقلدة في عنقها حبلًا من مسد ، وعلى كل ، ففي هذه السورة آية باهرة من آيات الله ، فإن الله أنزل هذه السورة ، وأبو لهب وامرأته لم يهلكا ، وأخبر أنهما سيعذبان في النار ولا بد ، ومن لازم ذلك أنهما لا يسلمان ، فوقع كما أخبر عالم الغيب والشهادة .
وقوله - سبحانه - : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } زيادة فى تبشيع صورتها ، وتحقير هيئتها .
والجيد : العنق ، والمسد : الليف المتين الذى فتل بشدة ، يقال : حبل ممسود ، أي مفتول فتلا قويا .
والمعنى : سيصلى أبو لهب نارا شديدة ، وستصلى معه امرأته التى تضع الشوك في طريق النبى صلى الله عليه وسلم هذه النار المشتعلة أيضا ، وسيزيد الله - تعالى - فى إذلالها وتحقيرها ، بأن يأمر ملائكته بأن تضع فى عنقها حبلا مفتولا فتلا قويا ، على سبيل الإِذلال والإِهانة لها ؛ لأنها كانت فى الدنيا تزعم أنها من بنات الأشراف الأكابر .
روى عن سعيد بن المسيب أنه قال : كان لها قلادة ثمينة ، فقالت : لأبيعنها ولأنفقن ثمنها فى عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأبدلها الله عنها حبلا فى جيدها من مسد النار .
والذى يتأمل هذه السورة الكريمة ، يراها قد اشتملت على أوضح الأدلة وأبلغ المعجزات الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، فإن الله - تعالى - قد أخبر بشقاء أبى لهب وامرأته ، وأنهما سيصليان نارا ذات لهب . . وقد علما بما جاء فى هذه السورة من عقاب الله لهما . . ومع ذلك فقد بقيا على كفرهما حتى فارقا الحياة ، دون أن ينطقا بكلمة التوحيد ، ولو فى الظاهر ، فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه - عز وجل - .
وحالة كونها : ( في جيدها حبل من مسد ) . . أي من ليف . . تشد هي به في النار . أو هي الحبل الذي تشد به الحطب . على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو الشوك . أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي بالأذى والوقيعة .
وفي الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها ، نقتطف في بيانه سطورا من كتاب : " مشاهد القيامة في القرآن " نمهد بها لوقع هذه السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها :
" أبو لهب . سيصلى نارا ذات لهب . . وامرأته حمالة الحطب . ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد . .
" تناسق في اللفظ ، وتناسق في الصورة . فجنهم هنا نار ذات لهب . يصلاها أبو لهب ! وامرأته تحمل الحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه ( بمعناه الحقيقي أو المجازي " . . والحطب مما يوقد به اللهب . وهي تحزم الحطب بحبل . فعذابها في النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد . ليتم الجزاء من جنس العمل ، وتتم الصورة بمحتوياتها الساذجة : الحطب والحبل . والنار واللهب . يصلى به أبو لهب وامرأته حمالة الحطب ! وتناسق من لون آخر . في جرس الكلمات ، مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب وجذب العنق بحبل من مسد . اقرأ : ( تبت يدا أبي لهب وتب )تجد فيها عنف الحزم والشد ! الشبيه بحزم الحطب وشده . والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه . والشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة .
" وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي ، مع حركة العمل الصوتية ، بتناسق الصور في جزئياتها المتناسقة ، بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير ، ويتسق مع جو السورة وسبب النزول . ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار ، وفي سورة من أقصر سور القرآن " .
هذا التناسق القوي في التعبير جعل أم جميل تحسب أن الرسول [ ص ] قد هجاها بشعر . وبخاصة حين انتشرت هذه السورة وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة . تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها ، مدلة بحسبها ونسبها . ثم ترتسم لها هذه الصورة : ( حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد ) ! في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب !
قال ابن إسحاق : فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن ، أتت رسول الله [ ص ] وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فهر [ أي بمقدار ملء الكف ] من حجارة . فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله [ ص ] فلا ترى إلا أبا بكر . فقالت : يا أبا بكر . أين صاحبك ? قد بلغني أنه يهجوني . والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه . أما والله واني لشاعرة ! ثم قالت :
ثم انصرفت . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك ? فقال : ما رأتني ، لقد أخذ الله ببصرها عني . .
وروى الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( تبت يدا أبي لهب )جاءت امرأة أبي لهب ، ورسول الله [ ص ] جالس ومعه أبو بكر . فقال له أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشيء ! فقال رسول الله [ ص ] : " إنه سيحال بيني وبينها " . . فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، هجانا صاحبك . فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به ، فقالت : إنك لمصدق . فلما ولت قال أبو بكر : ما رأتك ? قال : " لا . ما زال ملك يسترني حتى ولت " . .
فهكذا بلغ منها الغيظ والحنق ، من سيرورة هذا القول الذي حسبته شعرا [ وكان الهجاء لا يكون إلا شعرا ] مما نفاه لها أبو بكر وهو صادق ! ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في آياتها ، قد سجلت في الكتاب الخالد ، وسجلتها صفحات الوجود أيضا تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وامرأته جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله ، والتباب والهلاك والسخرية والزراية جزاء الكائدين لدعوة الله في الدنيا ، والنار في الآخرة جزاء وفاقا ، والذل الذي يشير إليه الحبل في الدنيا والآخرة جميعا . . .
{ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال مجاهد ، وعروة : من مَسد النار .
وعن مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والثوري ، والسدي : { حَمَّالَةَ الحَطَبِ } كانت تمشي بالنميمة ، [ واختاره ابن جرير ] {[30698]} .
وقال العوفي عن ابن عباس ، وعطية الجدلي ، والضحاك ، وابن زيد : كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختاره ابن جرير .
قال ابن جرير : وقيل : كانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وكانت تحتطب ، فعيرت بذلك .
كذا حكاه ، ولم يعزه إلى أحد . والصحيح الأول ، والله أعلم .
قال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد ، يعني : فأعقبها الله بها حبلا في جيدها من مسد النار .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن سليم{[30699]} مولى الشعبي ، عن الشعبي قال : المسد : الليف .
وقال عروة بن الزبير : المسد : سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا .
وعن الثوري : هو قلادة من نار ، طولها سبعون ذراعًا .
وقال الجوهري : المَسَدُ : الليف . والمَسَد أيضا : حبل من ليف أو خوص ، وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها ، ومسدت الحبل أمسدُهُ مَسْدًا : إذا أجْدتُ فَتله{[30700]} .
وقال مجاهد : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } أي : طوق من حديد ، ألا ترى أن العرب يسمون البَكْرة مَسَدًا ؟
وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } أي : في عنقها حبل في نار [ جهنم ]{[30701]} تُرفَع به إلى شفيرها ، ثم يرمى بها إلى أسفلها ، ثم كذلك دائما .
قال أبو الخطاب بن دَحْية في كتابه التنوير{[30702]} - وقد رَوَى ذلك - : وعُبر بالمسد عن حبل الدلو ، كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب " النبات " : كلّ مَسَد : رشاء ، وأنشد في ذلك :
وَبَكْرَةً ومِحْوَرًا صِرَارًا *** وَمَسَدًا مِنْ أبق مُغَارًا
يا مَسَدَ الخُوص تَعَوّذْ مني *** إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنا فإني
ما شئْتَ مِنْ أشْمَطَ مُقْسَئِنّ
قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما لا ظاهرًا ولا باطنًا ، لا مسرًا ولا معلنًا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة .
[ آخر تفسير " تبت " ولله الحمد والمنة ]{[30703]}
وقوله تعالى : { في جيدها حبل من مسد } قال ابن عباس ، والضحاك والسدي ، وابن زيد : الإشارة إلى الحبل حقيقة ، وهو الذي ربطت به الشوك وحطبه ، قال السدي : ( والمسد ) : الليف ، وقيل : ليف المقل ، ذكره أبو الفتح ، وقال ابن زيد : هو شجر باليمن يسمى المسد ، تصنع منه الحبال ، وقال النابغة :
مقذوفة بدخيس النحض بازلها *** له صريف صريف القعو بالمسد{[12022]}
القعو : البكرة ، والمسد : الحبل . وقال عروة بن الزبير ، ومجاهد وغيرهما : هذا الكلام استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم ، ذرعها سبعون ذراعا ، ونحو هذا من العبارات ، وقال قتادة : { حبل من مسد{ : قلادة من ودع ، قال ابن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة ، فقالت : لأنفقنها على عداوة محمد .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث ، وروي في الحديث أن هذه السورة لما نزلت وقرئت بلغت أم جميل ، فجاءت أبا بكر رضي الله عنه وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلن ولأفعلن ، وإني لشاعرة ، وقد قلت فيه :
فسكت أبو بكر ومضت هي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني ، وكفى الله شرها{[12023]} " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبره بما يصنع بها في الآخرة ، فقال :{ في جيدها } في عنقها يوم القيامة { حبل من مسد } يعني سلسلة من حديد ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } يقول : في عنقها ، والعرب تسمي العنق جيدا ...
وقوله : { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } اختلف أهل التأويل في ذلك ؛
فقال بعضهم : هي حبال تكون بمكة ... [عن] الضحاك يقول في قوله : { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : حبل من شجر ، وهو الحبل الذي كانت تحتطب به ...
ويقال : المَسَد : العصا التي تكون في البكرة ، ويقال المَسَد : قلادة من وَدَع ... قال ابن زيد : في قوله : { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : حبال من شجر تنبت في اليمن لها مسد ، وكانت تفتل ، وقال { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } : حبل من نار في رقبتها .
وقال آخرون : المَسَد : الليف ... عن عروة { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : سلسلة من حديد ، ذرعها سبعون ذراعا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن رجل يقال له يزيد ، عن عروة بن الزّبير { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ...
وقال آخرون : المَسَد : الحديد الذي يكون في البَكْرة ...
وقال آخرون : هو قِلادة من وَدَع في عنقها ... عن قتادة { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : قلادة من وَدَع ...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو حبلٌ جُمع من أنواع مختلفة ، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى : في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون : تخسيساً لحالها ، وتحقيراً لها ، وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن ، لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها ؛ وهما في بيت العزّ والشرف ، وفي منصب الثروة والجدة . ... ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم ، أو من الضريع ، وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار ؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه . ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما لا ظاهرًا ولا باطنًا ، لا مسرًا ولا معلنًا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ في جيدها حبل من مسد } ....أي جعل لها حبل في عنقها تحمِل فيه الحطب في جهنم لإِسعار النار على زوجها جزاء مماثلاً لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتلك هي قصة القريب العزيز الغني ذي النسب الهاشمي العريق ، وقصة المرأة المعجبة بنفسها المدلّة بحسبها ونسبها ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه السّورة المباركة تؤكّد مرّة أُخرى أنّ القرابة لا قيمة لها إن لم تكن مقرونة برباط رسالي . وحملة الرسالة الإلهية كانوا لا يلينون أمام المنحرفين والجبابرة والطغاة مهما كانت درجة قربهم منهم . مع أنّ أبا لهب كان من أقرب أقرباء الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد عامله الإسلام مثل سائر المنحرفين والضالين حين فصل مسيره العقائدي والعملي عن خط التوحيد ، ووجّه إليه أشدّ الردّ وأحدّ التوبيخ . وعلى العكس ثمّة أفراد بعيدون عن الرسول نسباً وقومية ولغة ، كانوا بسبب ارتباطهم الرسالي من القرب من الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم )حتى قال في أحدهم : «سلمان منّا أهل البيت» . صحيح أن آيات هذه السّورة توجّه التقريع لأبي لهب وزوجه ، ولكن كان ذلك لما اتصفا به من صفات ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وحاصل هذه السورة أن أبا لهب قطع رحمه ، وجار عن قصد السبيل ، واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره ، وظلم الناصح له ، الرؤوف به ، الذي لم يأل جهداً في نصحه ، على ما تراه من أنه لم يأل هو جهداً في أذاه ، واعتمد على ماله وأكسابه ، فهلك وأهلك امرأته معه ومن تبعه من أولاده ...
نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :
ورد حديث صحيح في سبب نزولها مؤداه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قول الله تعالى \(\وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ\)\ [الشعراء: 213] خرج ووقف على الصفا ونادى: يا بني كذا، يا بني كذا.. إذا أخبرتكم أن خيلا تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذبا قط، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال عمه أبو لهب، عبارته المشهورة:"تبا لك، ألهذا جمعتنا؟!"، فنزل قول الله عز وجل \(\تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ\)\.
الهدى الأول: من عادى وليا لله عز وجل وآذاه، فقد عرض نفسه لأخطر عقوبة من الله، وهي الحَيْلُولة بينه وبين التوبة إلى الله، رجلا كان أو امرأة:
من هو ولي الله المحمي من الله تعالى؟
اصطلاح "ولي الله "نستعمله الآن حسب ما مضى في سورة العلق.
\(\أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى\)\.
متى وجدت هذه الشروط الثلاثة، وُجدت ولاية الله تعالى للعبد، ومن عادى وليا لله فقد عرَّض نفسه لمحاربة الله للحديث المشهور: "من عَادَى لِي وليّا فقد آذنْتُه بالحرْب...".
ورسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- في هذا الوضع هو أولُ الأولياء؛ لأن ولايته تامةٌ عند الله عز وجل، لذلك حين تجرَّأ عمُّه هذا عليه، وتجرأت زوجه عليه كما هو ثابت في السيرة النبوية، وآذياه كثيراً بأشكال مختلفة، وبالَغَا في الإيذاء، عاقبهما الله عز وجل بأخطر عقوبة يمكن أن تُتَصور؛ إذ ليست العقوبة الخطيرة هي الضرب، وليست هي التعذيب، إنما العقوبة الخطيرة هي أن يُحرم العبد من التوبة مطلقاً، لا مجال له إلى الإيمان، لا يمكن له أن يؤمن، لا يمكن أن يتوب، حتى ولو أراد التوبة لا يستطيع، فقد حيل بينه وبين أن يعود إلى الله. فتمحَّضَ للنار هو وزوجُه.
هذه أخطر عقوبة تتهدد من بالغ في إيذاء أولياء الله، وتتهدد كل من بالغ في إيذاء الدعاة إلى الله، فليحذَرْ كُل الحذر من يبالغ في هذا أن يُحال بينه وبين التوبة إلى الله عز وجل. وهي عند من يذوق هذا الأمر أخطر عقوبة يُمْكن أن تحل بعبد، فقد خُلِّد في النار وانتهى أمره. وذلك الذي كان.
واعْتُبِر هذا من معجزات الرسول –صلى الله عليه وسلم- لأن أبا لهب لم يستطع هو أو زوجه أم جميل -أخت أبي سفيان- لم يستطيعا أن يتحديا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيقولا مثلا: إنا نتوب إلى الله عز وجل وقد أسْلَمْنا.
أنت تقول: {تبت يدا أبي لهب وتب... سيصلى نارا ذات لهب وامرأته...} كيف ندخل النار ونحْن مسلمون؟! قد أسلمنا. ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
لقد حيل بينهما وبين هذا، ولا سبيل إليه، وماتا كافرين، وانتهى أمرهما، فهذه نقطة خطِرة جدا يجب أن يذوقها أعداءُ الله، قَبْل أولياء الله.
كما يجب أن يذوق أولياء الله، أن الله عز وجل حين يتولاهم فهو يحول بينهم وبين إذاية هؤلاء، ويصْرِفُهم عنهم.
الهدى الثاني: ما أعظم الخُسران إذا تعاون الزوجان على الإثم والعدوان:
هذه أسرة نكِدة، أسرة تعسة: الزوج والزوجة معا تواطآ واتفقا وتعاونا على الاثم والعدوان، فهلكا معا.
وهذا النوع في الحقيقة هو أخطر أنواع التواطؤ الموجب لأخطر أنواع العقاب؛ لأننا قد نجد في أسرة رجلا يحارب، أو نجد امرأة تعادي، ولا يوجب الله عليها مثل هذا العقاب، ولكن هنا وجدنا أسرة تواطأت كلها على الشر، وتعاونت على الإثم والعدوان، فالله عز وجل دمّرها تدميراً، وحال بينهما وبين التوبة، وهذا هو الخُسران وما أعظمه من خسران!!
الهدى الثالث: ضرورة تدخل الأدب والإعلام للتشهير بالإجرام:
ذلك لأن القرآن الكريم إذ ذاك، كان هو الذي يقوم بكل الوظائف في حياة المسلمين، أي يصحّح الصورة، ويرسّخ المنهاج، ويدافع عن عباد الله وأوليائه، ويهاجم أعداء الله، كل شيء كان يفعله القرآن.
القرآن كان يواجه في جميع الجبهات، وفي جميع الواجهات، ومنها هذه الواجهة الإعلامية؛ لأن هذه السورة مثلا بمجرد نزولها سرت في مكة بين المسلمين وبين المجرمين يقرؤها المسلمون فتسليهم، ويسمعها المجرمون فتهزم نفسيتهم.
قال الله عز وجل مبيناً الفرق بين طريق المسلمين وطريق المجرمين: \(\أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ...\)\ [القلم: 35] لأن الله عز وجل يسمي الكفار مجرمين، فلماذا يقابل الله عز وجل بين المسلمين والمجرمين؟ ذلك لفضح ما عليه الكفار من إجرام \(\عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ\)\ [المدثر: 40- 42] فاصطلاح المجرم كان إذ ذاك سائدا وكانوا يعرفون: من هو المجرم؟ ورأينا كيف أن الله تعالى عَدّ أكبر جريمة على الإطلاق هي الشرك بالله، أكبر جريمة في الكون هي الشرك بالله، ما مثلها شيء: لا قتل النفس، ولا شهادة الزور، ولا أي شيء، \(\إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ\)\ [لقمان: 12] جدا.
فتدخل الأدب والإعلام اليوم بقصد التعريف بالدعوة والدفاع عنها والهجوم على المخالفين ضروريٌّ؛ لأن المجرمين المجاهرين ينبغي أن يشهر بأعمالهم بمختلف أنواع التشهير الإعلامية، كما حدث لأبي لهب وزوجته.
شُهر بهما في القرآن الكريم، وذُكرا، ذُكر أبو لهب بكنيته، واستمر هذا عبر التاريخ نموذجاً للشر. وهكذا بالنسبة لكل النماذج التي أصرّت على الشر، وبالغت فيه، وتعدت الحدود، وبالغت في الطغيان، وقد أعطى القرآن الكريم أمثلة كثيرة في تثبيت التشهير بمثل هذه النماذج الطاغوتية عبر التاريخ حتى تقوم الساعة.
وبعد أن انقطع الوحي ينبغي أن يبقى الشِّعر والقِصص والمسرحيات وكل شيء يمكن أن يتدخل بمختلف الأشكال للتشهير بجميع أشكال الشر، ونماذج الشر.
من حارب الدين فلن يضر إلا نفسه ولن يضر الدين شيئا: هذه الخلاصة واضحة جدا، فقد أصَرَّ أبو لهب وأم جميل زوجة أبي لهب، أصرّا على محاربة رسول الله ومحاربة الدين الجديد بكل سبيل، هلْ ضَرَّاه؟ هل ضرَّا المسلمين؟ هل ضرَّا الدين؟ أبدا، وإنما ضرَّا نفسيهما فوقعا فيما وقعا فيه فكان الخسران المبين، كذلك حال كل محارب لله عز وجل ومحارب لدين الله، لن يضُرّ الدين \(\إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا\)\ [الطلاق: 3].
هذه حقيقة في غاية الوضوح \(\إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا\)\ فالذي يحارب دين الله وأولياءه إنما يجعل وظيفته التاريخية ووظيفته الكونية أن يشحذ إيمان المؤمنين فقط ويقوي إيمانهم.
هذه وظيفته الأساسية الكونية، أما أنه سيضُرّ الدّين أو سيغيّر التاريخ أو سيوجّه التاريخ وجها آخر فهذا لن يحدُث أبدا، أبدا. لأن ما هو كائن لابد أن يكون، ما هو قادم لابد أن يقدم، لن يؤخره إجرام مجرم، ولن يقدمه كذلك. بل سيأتي في إبّانِه \(\قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا\)\ وكما قال [كعب بن مالك]:
زَعَمَتْ سَخِينةُ أن ستَغْلِب ربّها *** وليُغْلبَـنَّ مُغَالِـبُ الغَلاَّبِ
الغلاّب مقصود به هنا الله جل جلاله، من يغلِبُ الغلاَّب؟؟ أبدا لا أحد.